الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: طبقات الشافعية الكبرى **
شيخ الإسلام والمسلمين وأحدُ الأئمة الأعلام سلطان العلماء إمامُ عصره بلا مدافعة القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه المطَّلِع على حقائق الشريعة وغوامضها العارف بمقاصدها لم يرَ مثل نفسه ولا رأى من رآه مثله علما وورعا وقياما في الحق وشجاعة وقوة جَنان وسلاطة لسان ولد سنة سبعٍ أو سنة ثمانٍ وسبعين وخمسمائة تفقه على الشيخ فخر الدين ابن عساكر وقرأ الأصول على الشيخ سيف الدين الآمدي وغيره وسمع الحديث من الحافظ أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم ابن عساكر وشيخ الشيوخ عبد اللطيف بن إسماعيل بن أبي سعد البغدادي وعمر بن محمد بن طَبَرْزَد وحنبل بن عبد الله الرُّصافي والقاضي عبد الصمد بن محمد الحرستاني وغيرهم وحضَر على بركات بن إبراهيم الخشوعي روى عنه تلامذته شيخ الإسلام ابن دقيق العيد وهو الذي لقَّب الشيخ عز الدين سلطان العلماء والإمام علاء الدين أبو الحسن الباجي والشيخ تاج الدين ابن الفِركاح والحافظ أبو محمد الدمياطي والحافظ أبو بكر محمد بن يوسف بن مسدي والعلامة أحمد أبو العباس الدشناوي والعلامة أبو محمد هبةُ الله القفطي وغيرُهم روى لنا عنه الخُتني درَّس بدمشق أيام مقامه بها بالزاوية الغزّالية وغيرها وولي الخطابة والإمامة بالجامع الأموي قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة أحد تلامذة الشيخ وكان أحقَّ الناس بالخطابة والإمامة وأزال كثيرا من البِدع التي كان الخطباء يفعلونها من دَقِّ السيف على لمنبر وغير ذلك وأبطل صلاتي الرَّغائب ونصف شعبان ومنع منهما قلت واستمر الشيخ عز الدين بدمشق إلى أثناء أيام الصالح إسماعيل المعروف بأبي الخيش فاستعان أبو الخيش بالفِرنج وأعطاهم مدينة صيدا وقلعة الشَّقيف فأنكر عليه الشخ عز الدين وترك الدعاء له في الخطبة وساعده في ذلك الشيخ أبو عمرو ابن الحاجب المالكي فغضب السلطان منهما فخرجا إلى الديار المصرية في حدود سنة تسع وثلاثين وستمائة فلما مرّ الشيخ عز الدين بالكَرك تلقَّاه صاحبها وسأله الإقامة عنده فقال له بلدك صغيرٌ على علمي ثم توجه إلى القاهرة فتلقّاه سلطانها الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل وأكرمه وولاه خطابة جامع عمرو ابن العاص بمصر والقضاء بها وبالوجه القبلي مدّة فاتفق أن أستاذ داره فخر الدين عثمان بن شيخ الشيوخ وهو الذي كان إليه أمر المملكة عمد إلى مسجدٍ بمصر فعمل على ظهرِه بناءً لطبل خانات وبقيتْ تضرِب هنالك فلما ثبت هذا عند الشيخ عز الدين حكم بهدم ذلك البناء وأسقط فخر الدين ابن الشيخ وعزل نفسه من القضاء ولم تسقط بذلك منزلةُ الشيخ عند السلطان ولكنه لم يُعِده إلى الولاية وظن فخر الدين وغيره أن هذا الحكم لا يتأثر به فخر الدين في الخارج فاتفق أن جهَّز السلطان الملك الصالح رسولا من عنده إلى الخليفة المستعصم ببغداد فلما وصل الرسول إلى الديوان ووقف بين يدي الخليفة وأدى الرسالة خرج إليه وسأله هل سمعتَ هذه الرسالة من السلطان فقال لا ولكن حملنيها عن السلطان فخر الدين ابن شيخ الشيوخ أستاذ داره فقال الخليفة إن المذكور أسقطه ابن عبد السلام فنحن لا نقبل روايته فرجع الرسول إلى السلطان حتى شافهَه بالرسالة ثم عاد إلى بغداد وأدّاها ثم بنى السلطان مدرسة الصالحية المعروفة بين القصرين بالقاهرة وفوض تدريس الشافعية بها إلى الشيخ عز الدين فباشره وتصدى لنفع الناس بعلومه ولما استقر مُقامه بمصر أكرمه حافظ الديار المصرية وزاهدها عبد العظيم المُنذري وامتنع من الفُتيا وقال كنا نُفتي قبل حضور الشيخ عز الدين وأما بعد حضوره فمنصِبُ الفُتيا متعينٌ فيه سمعت الشيخ الإمام رحمه الله يقول سمعت شيخنا الباجي يقول طلع شيخنا عز الدين مرة إلى السلطان في يوم عيدٍ إلى القلعة فشاهد العساكر مصطفين بين يديه ومجلس المملكة وما السلطانُ فيه يوم العيد من الأبَّهة وقد خرج على قومه في زينته على عادة سلاطين الديار المصرية وأخذت الأمراء تقبِّلُ الأرض بين يدي السلطان فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه يا أيوبُ ما حُجَّتُك عند الله إذا قال لك ألم أبوئ لك ملكَ مصر ثم تبيح الخمور فقال هل جرى هذا فقال نعم الحانة الفُلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة يناديه كذلك بأعلى صوته والعساكر واقفون فقال يا سيدي هذا أنا ما عملته هذا من زمان أبي فقال أنت من الذين يقولون سمعت الشيخ الإمام يقول سمعت الباجي يقول سألت الشيخ لما جاء من عند السلطان وقد شاع هذا الخبر يا سيدي كيف الحال فقال يا بني رأيته في تلك العظمة فأردت أن أهينَه لئلا تكبر نفسه فتؤذيه فقلت يا سيدي أما خِفتَه فقال والله يا بني استحضرتُ هيبة الله تعالى فصار السلطان قدامي كالقط ورأيت في بعض المجاميع أن الذي سأله هذا السؤال تلميذه الشيخ أبو عبد الله محمد بن النعمان فلعل الباجي وابن النعمان سألاه سمعت الشيخ الإمام يقول كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيرا جدا ولم يشتغل إلا على كِبَرٍ وسبب ذلك أنه كان يبيت في الكلاسة من جامع دمشق فبات بها ليلة ذات بردٍ شديد فاحتلم فقام مسرعا ونزل في بِركة الكلاسة فحصل له ألمٌ شديدٌ من البرد وعاد فنام فاحتلم ثانيا فعاد إلى البركة لأن أبواب الجامع مغلقة وهو لا يمكنه الخروج فطلع فأغمي عليه من شدة البرد أنا أشك هل كان الشيخ الإمام يحكي أن هذا اتفق له ثلاث مراتٍ تلك الليلة أو مرتين فقط ثم سمع النداء في المرة الأخيرة يا ابن عبد السلام أتريد العلم أم العمل فقال الشيخ عزُّ الدين العلمَ لأنه يهدي إلى العمل فأصبح وأخذ التنبيه فحفظه في مدة يسيرة وأقبل على العلم فكان أعلم أهل زمانه ومن أعبد خلق الله تعالى سمعتُ الشيخَ الإمام رحمه الله تعالى يقول سمعت الشيخ صدر الدين أبا زكريا يحيى ابن علي السُّبكي يقول كان في الريف شخصٌ يقال له عبد الله البِلتاجي من أولياء الله تعالى وكانت بينه وبين الشيخ عز الدين صداقة وكان يُهدي له في كل عام فأرسل إليه مرة حِملَ جملٍ هدية ومن جملته وعاء فيه جبنٌ فلما وصل الرسول إلى باب القاهرة انكسر ذلك الوعاء وتبدد ما فيه فتألم الرسول لذلك فرآه شخصٌ ذِمِّيٌّ فقال له لم تتألم عندي ما هو خيرٌ منه قال الرسول فاشتريتُ منه بَدَلَه وجئت فما كان إلا بقدر أن وصلت إلى باب الشيخ ولم يعلم بي ولا بما جرى لي غير الله تعالى وإذا بشخصٍ نزل من عند الشيخ وقال اصعد بما جئت فناولته شيئا فشيئا إلى أن سلّمته ذلك الجُبن فطلع ثم نزل فقلت أعطيته للشيخ فقال أخذ الجميع إلا الجُبن ووعاءه فإنه قال لي ضعه على الباب فلما طلعت أنا قال لي يا ولدي لَيْش تفعلُ هذا إن المرأة التي حلَبت لبنَ هذا الجُبن كانت يدُها متنجِّسة بالخنزير ورده وقال سلم على أخي وحكى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة رحمه الله أن الشيخ لما كان بدمشق وقع مرة غلاءٌ كبيرٌ حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل فأعطته زوجته مصاغا لها وقالت اشترِ لنا به بستانا نصيفُ به فأخذ ذلك المَصاغَ وباعه وتصدق بثمنه فقالت يا سيدي اشتريتَ لنا قال نعم بستانا في الجنة إني وجدت الناس في شدة فتصدقتُ بثمنه فقالت له جزاك اللهُ خيرا وحكى أنه كان مع فقرِه كثير الصدقات وأنه ربما قطع من عِمامته وأعطى فقيرا يسأله إذا لم يجد معه غير عمامته وفي هذه الحكاية ما يدل على أنه كان يلبس العِمامة وبلغني أنه كان يلبَسُ قبع لَبَّادٍ وأنه كان يحضر المواكِب السُّلطانية به فكأنه كان يلبس تارة هذا وتارة هذا على حسب ما يتفق من غير تكلُّفٍ قال شيخ الإسلام ابن دقيق العيد كان ابن عبد السلام أحد سلاطين العلماء وعن الشيخ جمال الدين ابن الحاجب أنه قال ابن عبد السلام أفقهُ من الغزّالي وحكى القاضي عز الدين الهكاري ابن خطيب الأشمونين في مصنَّف له ذكر فيه سيرة الشيخ عز الدين أن الشيخ عز الدين أفتى مرة بشيء ثم ظهر له أنه خطأٌ فنادى في مصر والقاهرة على نفسه من أفتى له فلان بكذا فلا يعمل به فإنه خطأ وذكر أن الشيخ عز الدين لبس خرقة التصوُّف من الشيخ شهاب الدين السُّهْرَوَردي وأخذ عنه وذكر أنه كان يقرأ بين يديه رسالة القشيري فحضره مرة الشيخ أبو العباس المرسي لما قدِم من الإسكندرية إلى القاهرة فقال له الشيخ عز الدين تكلَّم على هذا الفصل فأخذ المرسي يتكلّم والشيخ عز الدين يزحفُ في الحلْقة ويقول اسمعوا هذا الكلام الذي هو حديث عهدٍ بربِّه وقد كانت للشيخ عز الدين اليد الطُّولى في التصوف وتصانيفه قاضية بذلك
وحاصلها أن التتار لما دهمت البلاد عقيبَ واقعة بغداد التي سنشرحها إن شاء الله تعالى في ترجمة الحافظ زكي الدين وجَبُن أهل مصر عنهم وضاقت بالسلطان وعساكره الأرض استشاروا الشيخ عز الدين رحمه الله فقال اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر فقال السلطان له إن المال في خزانتي قليلٌ وأنا أريد أن أقترض من أموال التُّجار فقال له الشيخ عز الدين إذا أحضرت ما عندك وعند حريمِك وأحضر الأمراء ما عندَهم من الحُلي الحرام وضربته سكَّة ونقدا وفرَّقته في الجيش ولم يقُم بكفايتهم ذلك الوقت اطلبٍ القرض وأما قبل ذلك فلا فأحضر السلطان والعسكر كلُّهم ما عندهم من ذلك بين يدي الشيخ وكان الشيخ له عظمة عندهم وهيبة بحيث لا يستطيعون مخالفته فامتثلوا أمره فانتصروا ومما يدل على منزلته الرفيعة عندهم أن الملك الظاهر بيبرس لم يبايع واحدا من الخليفة المستنصر والخليفة الحاكم إلا بعد أن تقدمه الشيخ عزُّ الدين للمبايعة ثم بعده السلطان ثم القضاة ولما مرّت جِنازة الشيخ عز الدين تحت القلعة وشاهد الملك الظاهر كثرة الخلق الذين معها قال لبعض خواصِّه اليوم استقرَّ أمري في المُلك لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس اخرجوا عليه لانتزع المُلكَ مني وكانت قبل ذلك وصلوا إلى المنصورة في المراكب واستظهروا على المسلمين وكان الشيخ مع العسكر وقَويت الرّيح فلما رأى الشيخ حال المسلمين نادى بأعلى صوته مشيرا بيده إلى الريح يا ريحُ خذيهم عدة مِرارٍ فعادت الريح على مراكب الفِرنج فكسَّرتها وكان الفتح وغرِق أكثر الفِرنج وصرخ من بين يدي المسلمين صارخ الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد رجلا سخَّر له الريح
وهم جماعة ذُكِر أن الشيخ لم يثبُت عنده أنهم أحرارٌ وأن حكمَ الرِّق مستصحَبٌ عليهم لبيت مال المسلمين فبلغهم ذلك فعظُم الخطبُ عندهم فيه وأضرِم الأمر والشيخ مصممٌ لا يصحح لهم بيعا ولا شراء ولا نِكاحا وتعطّلت مصالحهم بذلك وكان من جملتهم نائب السلطنة فاستشاط غضبا فاجتمعوا وأرسلوا إليه فقال نعقد لكم مجلسا وينادى عليكم لبيت مال المسلمين ويحصل عِتقُكم بطريق شرعي فرفعوا الأمر إلى السلطان فبعث إليه فلم يرجع فجرت من السلطان كلمة فيها غِلظة حاصلها الإنكارُ على الشيخ في دخوله في هذا الأمر وأنه لا يتعلق به فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمارٍ وأركب عائلته على حمارٍ آخر ومشى خلفهم خارجا من القاهرة قاصدا نحو الشام فلم يصل إلى نحو نصف بريد إلا وقد لحقه غالبُ المسلمين لم تكد امرأة ولا صبي ولا رجل لا يؤبَه إليه يتخلَّف لا سيما العلماء والصُّلحاء والتجار وأنحاؤُهم فبلغ السلطان الخبر وقيل له متى راح ذهب ملكُك فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيَّب قلبه فرجع واتفقوا معهم على أنه ينادى على الأمراء فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يُفِد فيه فانزعج النائب وقال كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض والله لأضربنَّه بسيفي هذا فركب بنفسه في جماعته وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده فطرق الباب فخرج ولدُ الشيخ أظنه عبد اللطيف فرأى من نائب السلطنة ما رأى فعاد إلى أبيه وشرح له الحال فما اكترث لذلك ولا تغير وقال يا ولدي أبوك أقلُّ من أن يُقتل في سبيل الله ثم خرج كأنه قضاءُ الله قد نزل على نائب السلطنة فحين وقع بصره على النائب يَبِست يدُ النائب وسقط السيف منها وأرعِدَت مفاصِلُه فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له وقال يا سيدي خبِّر أيْش تعمل قال أنادي عليكم وأبيعكم قال ففيم تصرِف ثمننا قال في مصالح المسلمين قال مَن يَقبِضُه قال أنا فتمَّ له ما أراد ونادى على الأمراء واحدا واحدا وغالى في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير وهذا ما لم يُسمَع بمثله عن أحدٍ رحمه الله تعالى ورضى عنه
وذلك بدمشق قبل خروجه إلى الديار المصرية ولنشرحه مختصرا ذكر الشيخ الإمام شرف الدين عبد اللطيف ولد الشيخ فيما صنّفه من أخبار والده في هذه الواقعة أن الملك الأشرف لما اتصل به ما عليه الشيخ عزُّ الدين مِن القيام لله والعلم والدين وأنه سيِّد أهل عصره وحُجَّة الله على خلقِه أحبَّه وصار يلهج بذكره ويؤثر الاجتماع به والشيخ لا يجيب إلى الاجتماع وكانت طائفة من مبتدعة الحنابلة القائلين بالحرف والصوت ممن صحِبهم السلطان في صِغَره يكرهون الشيخ عز الدين ويطعنون فيه وقرّروا في ذهن السلطان الأشرف أن الذي هم عليه اعتقاد السلف وأنه اعتقاد أحمد بن حنبل رضي الله عنه وفضلاء أصحابه واختلط هذا بلحم السلطان ودمه وصار يعتقد أن مخالِفَ ذلك كافرٌ حلالُ الدّم فلما أخذ السلطان في الميل إلى الشيخ عز الدين دسَّت هذه الطائفة إليه وقالوا إنه أشعري العقيدة يخطِّىءُ من يعتقد الحرف والصوت ويُبَدعه ومن جملة اعتقاده أنه يقول بقول الأشعري أن الخبز لا يُشبع والماء لا يروي والنار لا تحرق فاستهال ذلك السلطان واستعظمه ونسبهم إلى التعصب عليه فكتبوا فُتيا في مسألة الكلام وأوصلوها إليه مريدين أن يكتب عليها بذلك فيسقط موضِعه عند السلطان وكان الشيخ قد اتصل به ذلك كلُّه فلما جاءته الفتيا قال هذه الفُتيا كُتِبت امتحانا لي والله لا كتبتُ فيها إلا ما هو الحق فكتب العقيدة المشهورة وقد ذكر ولدُه بعضها في تصنيفه وأنا أرى أن أذكرها كلّها لتستفاد وتحفظ قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله ورضي عنه وعنّا به الحمد لله ذي العزة والجلال والقدرة والكمال والإنعام والإفضال الواحد الأحد الفردُ الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ليس بجسم مصوَّر ولا جوهرٍ محدودٍ مقدر ولا يشبه شيئا ولا يشبهه شيءٌ ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون ولا السموات كان قبل أن كوَّن المكان ودبَّر الزمان وهو الآن على ما عليه كان خلَق الخلق وأعمالهم وقدّر أرزاقهم وآجالهم فكلُّ نعمة منه فهي فضلٌ وكلّ نقمة منه فهي عدلٌ أمُرُّ على الديار ديارِ ليلى ** أقبِّلُ ذا الجِدارَ وذا الجِدارا وما حبُّ الديارِ شَغَفْنَ قلبي ** ولكنْ حُبُّ مَن سكَن الديارا ولمثل ذلك يُقبَّل الحجر الأسود ويحرُم على المحدِث أن يمَسَّ المصحف أسطُرَهَ وحواشيه التي لا كتابة فيها وجِلدَه وخريطته التي هو فيها فويلٌ لمن زعم أن كلام الله القديم شيءٌ من ألفاظ العباد أو رسمٌ من أشكال المِداد واعتقادُ الأشعري رحمه الله مشتملٌ على ما دلَّت عليه أسماء الله التسعة والتسعون التي سمَّى بها نفسه في كتابه وسنّه رسول الله وأسماؤه مندرِجة في أربع كلمات هنَّ الباقياتُ الصالحات الكلمة الأولى قول سبحانَ اللهِ ومعناها في كلام العرب التنزيه والسَّلبُ فهي مشتملة على سلب النَّقص والعيب عن ذات الله وصفاته فما كان من أسمائه سلبا فهو مندرجٌ تحت هذه الكلمة كالقدوس وهو الطاهر من كل عيب والسلام وهو الذي سَلِم من كل آفة الكلمة الثانية قول الحمدُ لله وهي مشتملة على إثبات ضروب الكمال لذاته وصفاته فما كان من أسمائه متضمِّنا للإثبات كالعليم والقدير والسميع والبصير فهو مندرِجٌ تحت الكلمة الثانية فقد نفينا بقولنا سبحان الله كل عيب عقلناه وكلَّ نقص فهمناه وأثبتنا بالحمد لله كلَّ كمالٍ عرفناه وكلَّ جلالٍ أدركناه ووراء ما نفيناه وأثبتناه شأنٌ عظيم قد غاب عنا وجهلناه فنحققه من جهة الإجمال بقولنا اللهُ أكبر وهي الكلمة الثالثة بمعنى أن أجلُّ مما نفيناه وأثبتناه وذلك معنى قوله لا أحصي ثناء عليكَ أنتَ كما أثنيتَ على نفسك فما كان من أسمائه متضمِّنا لمدحٍ فوق ما عرفناه وأدركناه كالأعلى والمتعالى فهو مندرجٌ تحت قولنا اللهُ أكبَر فإذا كان في الوجود مَن هذا شأنه نفينا أن يكون في الوجود مَن يشاكِله أو يُناظِره فحققنا ذلك بقولنا لا إله إلا اللهُ وهي الكلمة الرابعة فإن الألوهيَّة ترجع إلى استحقاق العبودية ولا يستحقُّ العبودية إلا مَن اتصف بجميع ما ذكرناه فما كان من أسمائه متضمِّنا للجميع على الإجمال كالواحد والأحدِ وذي الجلال والإكرام فهو مندرجٌ تحت قولنا لا إله إلا اللهُ وإنما استحقَّ العبوديّة لما وجب له من أوصاف الجلال ونعوت الكمال الذي لا يصفه الواصفون ولا يعده العادون حُسنُك لا تنقضي عجائبُه ** كالبحر حدث عنه بلا حرج فسبحان الله من عظُم شأنه وعز سلطانهُ ولو أدرجت الباقيات الصالحات في كلمة منها على سبيل الإجمال وهي الحمد لله لاندرجت فيها كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لو شئت أن أوقر بعيرا من قولك الحمد لله لفعلت فإن الحمد هو الثناء والثناء يكون بإثبات الكمال تارة وبسلب النقص أخرى وتارة بالاعتراف بالعجز عن درك الإدراك وتارة بإثبات التفرد بالكمال والتفرد بالكمال من أعلى مراتب المدح والكمال فقد اشتملت هذه الكلمة على ما ذكرناه في الباقيات الصالحات لأن الألف واللام فيها لاستغراق جنس المدح والحمد مما علمنا وجهلناه ولا خروج للمدح عن شيء مما ذكرناه ولا يستحق الإلهية إلا من اتصف بجميع ما قررناه ولا يخرج عن هذا الاعتقاد ملكٌ مقربٌ ولا نبي مرسل ولا أحدٌ من أهل الملل إلا من خذله الله فاتبع هواه وعصى مولاه أولئك قومٌ قد غمرهم ذل الحجاب وطردوا عن الباب وبعدوا عن ذلك الجناب وحق لمن حجب في الدنيا عن إجلاله ومعرفته أن يحجب في الآخرة عن إكرامه ورؤيته أرض لمن غاب عنك غيبته ** فذاك ذنبٌ عقابه فيه فهذا إجمالٌ من اعتقاد الأشعري رحمه الله تعالى واعتقاد السلف وأهل الطريقة والحقيقة نسبته إلى التفصيل الواضح كنسبة القطرة إلى البحر الطافح يعرفه الباحث من جنسه ** وسائر الناس له منكر غيره لقد ظهرت فلا تخفى على أحد ** إلا على أكمه لا يعرف القمرا والحشوية المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه ضربان أحدهما لا يتحاشى من إظهار الحشو أظهروا للناس نسكا ** وعلى المنقوش داروا وكل يدعون وصال ليلى ** وليلى لا تقر لهم بذاكا وكيف يدعى على السلف أنهم يعتقدون التجسيم والتشبيه أو يسكتون عند ظهور البدع ويخالفون قوله تعالى والعلماء ورثة الأنبياء فيجب عليهم من البيان ما وجب على الأنبياء وقال تعالى والجهاد ضربان ضربٌ بالجدل والبيان وضربٌ بالسيف والسنان فليت شعري فما الفرق بين مجادلة الحشوية وغيرهم من أهل البدع ولولا خبثٌ في الضمائر وسوء اعتقاد في السرائر أحدها قوله الموضع الثاني قوله الموضع الثالث قوله تعالى والعجب ممن يقول القرآن مركبٌ من حرف وصوت ثم يزعم أنه في المصحف وليس في المصحف إلا حرفٌ مجردٌ لا صوت معه إذ ليس فيه حرفٌ مكتوبٌ عن صوت فإن الحرف اللفظي ليس هو الشكل الكتابى ولذلك يدرك الحرف اللفظي بالآذان ولا يشاهد بالعيان ويشاهد الشكل الكتابي بالعيان ولا يسمع بالآذان ومن توقف في ذلك فلا يعد من العقلاء فضلا عن العلماء فلا أكثر الله في المسلمين من أهل البدع والأهواء والإضلال والإغواء ومن قال بأن الوصف القديم حال في المصحف لزمه إذا احترق المصحف أن يقول بأن وصف الله القديم احترق سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ومن شأن القديم أن لا يلحقه تغير ولا عدم فإن ذلك مناف للقدم فإن زعموا أن القرآن مكتوب في المصحف غير حال فيه كما يقوله الأشعرى فلم يلعنون الأشعري رحمه الله وإن قالوا بخلاف ذلك فانظر وأما قوله سبحانه وتعالى فيا خيبة من رد شاهدا قبله الله وأسقط دليلا نصبه الله فهم يرجعون إلى المنقول فلذلك استدللنا بالمنقول وتركنا المعقول كمينا إن احتجنا إليه أبرزناه وإن لم نحتج إليه أخرناه وقد جاء في الحديث الصحيح من قرأ القرآن وأعربه كان له بكل حرف عشر حسنات ومن قرأه ولم يعربه فله بكل حرف منه حسنة والقديم لا يكون معيبا باللحن وكاملا بالإعراب وقد قال تعالى إذا قالت حذام فصدقوها ** فإن القول ما قالت حذام والكلام في مثل هذا يطول ولولا ما وجب على العلماء من إعزاز الدين وإخمال المبتدعين وما طولت به الحشوية ألسنتهم في هذا الزمان من الطعن في أعراض الموحدين والإزراء على كلام المنزهين لما أطلت النفس في مثل هذا مع إيضاحه ولكن قد أمرنا الله بالجهاد في نصرة دينه إلا أن سلاح العالم علمه ولسانه كما أن سلاح الملك سيفه وسنانه فكما لا يجوز للملوك إغماد أسلحتهم عن الملحدين والمشركين لا يجوز للعلماء إغماد ألسنتهم عن الزائغين والمبتدعين فمن ناضل عن الله وأظهر دين الله كان جديرا أن يحرسه الله بعينه التي لا تنام ويعزه بعزه الذي لا يضام ويحوطه بركنه الذي لا يرام ويحفظه من جيمع الأنام والعجب أنهم يذمون الأشعري بقوله إن الخبز لا يشبع والماء لا يروي والنار لا تحرق وهذا كلامٌ أنزل الله معناه في كتابه فإن الشبع والري والإحراق حوادث انفرد الرب بخلقها فلم يخلق الخبز الشبع ولم يخلق الماء الري ولم تخلق النار الإحراق وإن كانت أسبابا في ذلك فالخالق هو المسبب دون السبب كما قال تعالى وكم من عائب قولا صحيحا ** وآفته من الفهم السقيم فسبحان من رضي عن قوم فأدناهم وسخط على آخرين فأقصاهم وعلى الجملة ينبغي لكل عالم إذا أذل الحق وأخمل الصواب أن يبذل جهده في نصرهما وأن يجعل نفسه بالذل والخمول أولى منهما وإن عز الحق فظهر الصواب أن يستظل بظلهما وأن يكتفي باليسير من رشاش غيرهما قليلٌ منك ينفعني ولكن ** قليلك لا يقال له قليل والمخاطرة بالنفوس مشروعة في إعزاز الدين ولذلك يجوز للبطل من المسلمين أن ينغمر في صفوف المشركين وكذلك المخاطرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة قواعد الدين بالحجج والبراهين مشروعة فمن خشي على نفسه سقط عنه الوجوب وبقي الاستحباب ومن قال بأن التغرير بالنفوس لا يجوز فقد بعد عن الحق ونأى عن الصواب وعلى الجملة فمن آثر الله على نفسه آثره الله ومن طلب رضا الله بما يسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس ومن طلب رضا الناس بما يسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس وفي رضا الله كفاية عن رضا كل أحد فليتك تحلو والحياة مريرة ** وليتك ترضى والأنام غضاب غيره في كل شيء إذا ضيعته عوضٌ ** وليس في الله إن ضيعته عوض وقد قال احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك وجاء في حديث ذكروا الله بأنفسكم فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله من نفسه حتى قال بعض الأكابر من أراد أن ينظر منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده اللهم فانصر الحق وأظهر الصواب وأبرم لهذه الأمة أمرا رشدا يعز فيه وليك ويذل فيه عدوك ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك والحمد لله الذي إليه استنادي وعليه اعتمادي وهو حسبي ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم فهذه الفتيا التي كتبها قال ولده الشيخ شرف الدين عبد اللطيف فلما فرغ من كتابة ما راموه رماه إليهم وهو يضحك عليهم فطاروا بالجواب وهم يعتقدون أن الحصول على ذلك من الفرص العظيمة التي ظفروا بها ويقطعون بهلاكه واستئصاله واستباحة دمه وماله فأوصلوا الفتيا إلى الملك الأشرف رحمه الله فلما وقف عليها استشاط غضبا وقال صح عندي ما قالوه عنه وهذا رجلٌ كنا نعتقد أنه متوحدٌ في زمانه في العلم والدين فظهر بعد الاختبار أنه من الفجار لا بل من الكفار وكان ذلك في رمضان عند الإفطار وعنده على سماطه عامة الفقهاء من جميع الأقطار فلم يستطع أحدٌ منهم أن يرد عليه بل قال بعض أعيانهم السلطان أولى بالعفو والصفح ولا سيما في مثل هذا الشهر وموه آخرون بكلام موجه يوهم صحة مذهب الخصم ويظهرون أنهم قد أفتوا بموافقته فلما انفصلوا تلك الليلة من مجلسه بالقلعة اشتغل الناس في البلد بما جرى في تلك الليلة عند السلطان وأقام الحق سبحانه وتعالى الشيخ العلامة جمال الدين أبا عمرو بن الحاجب المالكي وكان عالم مذهبه في زمانه وقد جمع بين العلم والعمل رحمه الله تعالى في هذه القضية ومضى إلى القضاة والعلماء الأعيان الذين حضروا هذه القضية عند السلطان وشدد عليهم النكير وقال العجب أنكم كلكم على الحق وغيركم على الباطل وما فيكم من نطق بالحق وسكتم وما انتخبتم لله تعالى وللشريعة المطهرة ولما تكلم منكم من تكلم قال السلطان أولى بالصفح والعفو ولا سيما في مثل هذا الشهر وهذا غلطٌ يوهم الذنب فإن العفو والصفح لا يكونان إلا عن جرم وذنب أما كنتم سلكتم طريق التلطف بإعلام السلطان بأن ما قاله ابن عبد السلام مذهبكم وهو مذهب أهل الحق وأن جمهور السلف والخلف على ذلك ولم يخالفهم فيه إلا طائفة مخذولة يخفون مذهبهم ويدسونه على تخوف إلى من يستضعفون علمه وعقله وقد قال تعالى فلما اتصل ذلك بالسلطان استدعى دواة وورقة وكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم وصل إلي ما التمسه الفقيه ابن عبد السلام أصلحه الله من عقد مجلس وجمع المفتين والفقهاء وقد وقفنا على خطه وما أفتى به وعلمنا من عقيدته ما أغنى عن الاجتماع به ونحن فنتبع ما عليه الخلفاء الراشدون الذين قال في حقهم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وعقائد الأئمة الأربعة فيها كفاية لكل مسلم يغلب هواه ويتبع الحق ويتخلص من البدع اللهم إلا إن كنت تدعي الاجتهاد فعليك أن تثبت ليكون الجواب على قدر الدعوى لتكون صاحب مذهب خامس وأما ما ذكرته عن الذي جرى في أيام والدي تغمده الله برحمته فذلك الحال أنا أعلم به منك وما كان له سببٌ إلا فتح باب السلامة لا لأمر ديني وجرم جره سفهاء قوم ** فحل بغير جانيه العذاب ومع هذا فقد ورد في الحديث الفتنة نائمة لعن الله مثيرها ومن تعرض إلى إثارتها قاتلناه بما يخلصنا من الله تعالى وما يعضد كتاب الله تعالى وسنة رسوله ثم استدعى رسولا وصير الرقعة معه إليه فلما وفد بها عليه فضها وقرأها وطواها وقال للرسول قد وصلت وقرأتها وفهمت ما فيها فاذهب بسلام فقال قد تقدمت الأوامر المطاعة السلطانية إلي بإحضار جوابها فاستحضر الشيخ دواة وورقة وكتب فيها ما مثاله بسم الله الرحمن الرحيم وأما طلب المجلس وجمع العلماء فما حملني عليه إلا النصح للسلطان وعامة المسلمين وقد سئل رسول الله عن الدين فقال الدين النصحية قيل لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم فالنصح لله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ولكتابه بالعمل بمواجبه ولرسوله باتباع سنته وللأئمة بإرشادهم إلى أحكامه والوقوف عند أوامره ونواهيه ولعامة المسلمين بدلالتهم على ما يقربهم إليه ويزلفهم لديه وقد أديت ما علي في ذلك والفتيا التي وقعت في هذه القضية يوافق عليها علماء المسلمين من الشافعية والمالكية والحنفية والفضلاء من الحنابلة وما يخالف في ذلك إلا رعاعٌ لا يعبأ الله بهم وهو الحق الذي لا يجوز دفعه والصواب الذي لا يمكن رفعه ولو حضر العلماء مجلس السلطان لعلم صحة ما أقول والسلطان أقدر الناس على تحقيق ذلك ولقد كتب الجماعة خطوطهم بمثل ما قلته وإنما سكت من سكت في أول الأمر لما رأى من غضب السلطان ولولا ما شاهدوه من غضب السلطان لما أفتوا أولا إلا بما رجعوا إليه آخرا ومع ذلك فتكتب ما ذكرته في الفتيا وما ذكره الغير وتبعث به إلى بلاد الإسلام ليكتب فيهاكل من يجب الرجوع إليه ويعتمد في الفتيا عليه ونحن نحضر كتب العلماء المعتبرين ليقف عليها السلطان وبلغني أنهم ألقوا إلى سمع السلطان أن الأشعري يستهين بالمصحف ولا خلاف بين الأشعرية وجميع علماء المسلمين أن تعظيم المصحف واجبٌ وعندنا أن من استهان بالمصحف أو بشيء منه فقد كفر وانفسخ نكاحه وصار ماله فيئا للمسلمين ويضرب عنقه ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين بل يترك بالقاع طعمة للسباع ومذهبنا أن كلام الله سبحانه قديمٌ أزلي قائمٌ بذاته لا يشبه كلام الخلق كما لا يشبه ذاته ذات الخلق ولا يتصور في شيء من صفاته أن تفارق ذاته إذ لو فارقته لصار ناقصا تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وهو مع ذلك مكتوبٌ في المصاحف محفوظٌ في الصدور مقروءٌ بالألسنة وصفة الله القديمة ليست بمداد للكاتبين ولا ألفاظ اللافظين ومن اعتقد ذلك فقد فارق الدين وخرج عن عقائد المسلمين بل لا يعتقد ذلك إلا جاهلٌ غبي وليس رد البدع وإبطالها من باب إثارة الفتن فإن الله سبحانه أمر العلماء بذلك وأمرهم ببيان ما علموه ومن امتثل أمر الله ونصر دين الله لا يجوز أن يلعنه رسول الله وأما ما ذكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس فأصول الدين ليس فيها مذاهب فإن الأصل واحدٌ والخلاف في الفروع ومثل هذا الكلام مما اعتمدتم فيه قول من لا يجوز أن يعتمد قوله والله أعلم بمن يعرف دينه ويقف عند حدوده وبعد ذلك فإنا نزعم أنا من جملة حزب الله وأنصار دينه وجنده وكل جندي لا يخاطر بنفسه فليس بجندي وأما ما ذكر من أمر باب السلامة فنحن تكلمنا فيه بما ظهر لنا من أن السلطان الملك العادل رحمه الله تعالى إنما فعل ذلك إعزازا لدين الله تعالى ونصرة للحق ونحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وكان يكتبها وهو مسترسلٌ من غير توقف ولا تردد ولا تلعثم فلما أنهى كتابتها طواها وختمها ودفعها إلى الرسول وكان عنده حالة كتابتها رجلٌ من العلماء الفضلاد وممن يحضر مجلس السلطان فوقفه على الرقعة التي وردت من الملك الأشرف فتغير لونه واعتقد أن الشيخ يعجز عن الجواب لما شاهد في ورقة السلطان من شديد الخطاب فلما خط الشيخ الكتاب مسترسلا عجلا وهو يشاهد ما يكتبه بطل عنده ما كان يحسبه وقال له ذلك العالم لو كانت هذه الرقعة التي وصلت إليك وصلت إلى قس بن ساعدة لعجز عن الجواب وعدم الصواب ولكن هذا تأييدٌ إلهي فلما عاد الرسول إلى السلطان رحمه الله وأوصله الرقعة فعندما فضها وقرئت عليه اشتدت استشاطته وعظم غضبه وتيقن العدو تلف الشيخ وعطبه ثم استدعى الغرز خليلا وكان إذ ذاك أستاذ داره وكان من المحبين للشيخ والمعتقدين فيه فحمله رسالة إلى الشيخ وقال له تعود إلي سريعا بالجواب فذهب الغرز إليه وجلس بين يديه بحسن تودد وتأدب وتأن ثم قال له أنا رسولٌ فقال له يا غرز إن هذه الشروط من نعم الله الجزيلة علي الموجبة للشكر لله تعالى على الدوام أما الفتيا فإني كنت والله متبرما بها وأكرهها وأعتقد أن المفتي على شفير جهنم ولولا أني أعتقد أن الله أوجبها علي لتعينها علي في هذا الزمان لما كنت تلوثت بها والآن فقد عذرني الحق وسقط عني الوجوب وتخلصت ذمتي ولله الحمد والمنة وأما ترك اجتماعي بالناس ولزومي لبيتي فما أنا في بيتي الآن وإنما أنا في بستان وكان في تلك السنة استأجر بستانا متطرفا عن البساتين وكان مخوفا فقال له الغرز البستان هو الآن بيتك واتفقت له فيه أعجوبة وهو أن جماعة من المفسدين قصدوه في ليلة مقمرة وهو في جوسق عال ودخلوا البستان واحتاطوا بالجوسق فخاف أهله خوفا شديدا فعند ذلك نزل إليهم وفتح باب الجوسق وقال أهلا بضيوفنا وأجلسهم في مقعد حسن وكان مهيبا مقبول الصورة فهابوه وسخرهم الله له وأخرجوا لهم من الجوسق ضيافة حسنة فتناولوها وطلبوا منه الدعاء وعصم الله أهله وجماعته منهم بصدق نيته وكرم طويته وانصرفوا عنه عدنا إلى مجاوبته للغرز خليل فقال له يا غرز من سعادتي لزومي لبيتي وتفرغي لعبادة ربي والسعيد من لزم بيته وبكى على خطيئته واشتغل بطاعة الله تعالى وهذا تسليكٌ من الحق وهدية من الله تعالى إلي أجراها على يد السلطان وهو غضبان وأنا بها فرحان والله يا غرز لو كانت عندي خلعة تصلح لك على هذه الرسالة المتضمنة لهذه البشارة لخلعت عليك ونحن على الفتوح خذ هذه السجادة صل عليها فقبلها وقبلها وودعه وانصرف إلى السلطان وذكر له ما جرى بينه وبينه فقال لمن حضره قولوا لي ما أفعل به هذا رجلٌ يرى العقوبة نعمة اتركوه بيننا وبينه الله ثم إن الشيخ بقي على تلك الحالة ثلاثة أيام ثم إن الشيخ العلامة جمال الدين الحصيري شيخ الحنفية في زمانه وكان قد جمع بين العلم والعمل ركب حمارا له وحوله أصحابه وقصد السلطان فلما بلغ الملك الأشرف دخول الحصيري إلى القلعة أرسل إليه خاصته يتلقونه وأمرهم أن يدخلوه إلى دار الإمارة راكبا على حماره فلما رآه السلطان وثب قائما ومشى إليه وأنزله عن حماره وأجلسه على تكرمته واستبشر بوفوده عليه وكان في رمضان قريب غروب الشمس فلما دخل وقت المغرب وأذن المؤذن صلوا صلاة المغرب وأحضر للسلطان قدح شراب فتناوله وناوله للشيخ فقال له الشيخ ما جئت إلى طعامك ولا إلى شرابك فقال له السلطان يرسم الشيخ ونحن نمتثل مرسومه فقال له أيش بينك وبين ابن عبد السلام وهذا رجلٌ لو كان في الهند أو في أقصى الدنيا كان ينبغي للسلطان أن يسعى في حلوله في بلاده لتتم بركته عليه وعلى بلاده ويفتخر به على سائر الملوك قال السلطان عندي خطه باعتقاده في فتيا وخطه أيضا في رقعة جواب رقعة سيرتها إليه فيقف الشيخ عليهما ويكون الحكم بيني وبينه ثم أحضر السلطان الورقتين فوقف عليهما وقرأهما إلى آخرهما وقال هذا اعتقاد المسلمين وشعار الصالحين ويقين المؤمنين وكل ما فيهما صحيحٌ ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمارٌ فقال السلطان رحمه الله نحن نستغفر الله مما جرى ونستدرك الفارط في حقه والله لأجعلنه أغنى العلماء وأرسل إلى الشيخ واسترضاه وطلب محاللته ومخاللته وكانت الحنابلة قد استنصروا على أهل السنة وعلت كلمتهم بحيث إنهم صاروا إذا خلوا بهم في المواضع الخالية يسبونهم ويضربونهم ويذمونهم فعندما اجتمع الشيخ جمال الدين الحصيري رحمه الله بالسلطان وتحقق ما عليه الجم الغفير من اعتقاد أهل الحق تقدم إلى الفريقين بالإمساك عن الكلام في مسألة الكلام وأن لا يفتي فيها أحدٌ بشيء سدا لباب الخصام فانكسرت المبتدعة بعض الانكسار وفي النفوس ما فيها ولم يزل الأمر مستمرا على ذلك إلى أن اتفق وصول السلطان الملك الكامل رحمه الله إلى دمشق من الديار المصرية وكان اعتقاده صحيحا وهو من المتعصبين لأهل الحق قائلٌ بقول الأشعري رحمه الله في الاعتقاد وكان وهو في الديار المصرية قد سمع ما جرى في دمشق في مسألة الكلام فرام الاجتماع بالشيخ فاعتذر إليه فطلب منه أن يكتب له ما جرى في هذه القضية مستقصى مستوفى فأمرني والدي رحمه الله بكتابة ما سقته في هذا الجزء من أول القضية إلى آخرها فلما وصل ذلك إليه ووقف عليه أسر ذلك في نفسه إلى أن اجتمع بالسلطان الملك الأشرف رحمه الله وقال له يا خوند كنت قد سمعت أنه جرى بين الشافعية والحنابلة خصامٌ في مسألة الكلام وأن القضية اتصلت بالسلطان فماذا صنعت فيها فقال يا خوند منعت الطائفتين من الكلام في مسألة الكلام وانقطع بذلك الخصام فقال السلطان الملك الكامل والله مليحٌ ما هذه إلا سياسة وسلطنة تساوي بين أهل الحق والباطل وتمنع أهل الحق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يكتموا ما أنزل الله عليهم كان الطريق أن تمكن أهل السنة من أن يلحنوا بحججهم وأن يظهروا دين الله وأن تشنق من هؤلاء المبتدعة عشرين نفسا ليرتدع غيرهم وأن تمكن الموحدين من إرشاد المسلمين وأن يبينوا لهم طريق المؤمنين فعند ذلك ذلت رقاب المبتدعة وانقلبوا خائبين وعادوا خاسئين ولقد دخل على السلطان الملك الأشرف الشيخ شمس الدين سبط ابن الجوزي وكان واعظ الزمان وكان له قبولٌ عظيم وشاهدت منه عجبا كان يطلع على المنبر في بعض الأيام ويحدق الناس إليه وينتحب ويبكي ويبكى الناس معه ويقتلون أنفسهم ويذهب هائما على وجهه ويذهب الناس من مجلسه وهم سكارى حيارى وكان يجلس الثلاثة الأشهر رجب وشعبان ورمضان في كل سبت والناس يتأهبون لحضور مجلسه قبل السبت بثلاثة أيام فلما دخل على السلطان ناوله مقاصد الصلاة وقال اقرأها فقرأها بين يديه واستحسنها وقال لم يصنف أحدٌ مثلها فقال له طرز مجلسك الآتي بذكرها وحرض الناس عليها فلما جاء الميعاد صعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه وقال اعلموا أن أفضل العبادات البدنية الصلاة وهي صلة بين العبد وربه فعليكم بمقاصد الصلاة تصنيف ابن عبد السلام فاسمعوها وعوها واحفظوها وعلموها أولادكم ومن يعز عليكم وكان لها وقعٌ عظيم في ذلك المجلس وكتب منها من النسخ ما لا يحصى عدده ولم يزل والدي معظما عند السلطان إلى أن مرض مرضة الموت قال لأكبر أصحابه اذهب إلى ابن عبد السلام وقل له محبك موسى ابن الملك العادل أبي بكر يسلم عليك ويسألك أن تعوده وتدعو له وتوصيه بما ينتفع به غدا عند الله فلما وصل الرسول إليه بهذه الرسالة قال نعم إن هذه العيادة لمن أفضل العبادات لما فيها من النفع المتعدي إن شاء الله تعالى فتوجه إليه وسلم عليه فسر برؤيته سرورا عظيما وقبل يده وقال يا عز الدين اجعلني في حل وادع الله لي وأوصني وانصحني فقال له أما محاللتك فإني كل ليلة أحالل الخلق وأبيت وليس لي عند أحد مظلمة وأرى أن يكون أجري على الله ولا يكون على الناس عملا بقوله تعالى فقال له جزاك الله خيرا عن إرشادك ونصيحتك وأمر والشيخ حاضرٌ في الوقت بنقل دهليزه إلى الشرق إلى منزلة يقال لها القصير فنقل في ذلك اليوم ثم قال له زدني من نصائحك ووصاياك فقال له السلطان في مثل هذا المرض وهو على خطر ونوابه يبيحون فروج النساء ويدمنون الخمور ويرتكبون الفجور ويتنوعون في تمكيس المسلمين ومن أفضل ما تلقى الله به أن تتقدم بإبطال هذه القاذورات وبإبطال كل مكس ودفع كل مظلمة فتقدم رحمه الله للوقت بإبطال ذلك كله وقال له جزاك الله عن دينك وعن نصائحك وعن المسلمين خيرا وجمع بيني وبينك في الجنة بمنه وكرمه وأطلق له ألف دينار مصرية فردها عليه وقال هذه اجتماعة لله لا أكدرها بشيء من الدنيا وودع الشيخ السلطان ومضى إلى البلد وقد شاع عند الناس صورة المجلس وتبطيل المنكرات وباشر الشيخ بنفسه تبطيل بعضها ثم لم يمض الصالح إسماعيل تبطيل المنكرات لأنه كان المباشر لتدبير الملك والسلطنة يومئذ نيابة والسلطان الملك الأشرف بعد في الحياة ثم استقل بالملك بعده وكان أعظم منه في اعتقاد الحرف والصوت وفي اعتقاده في مشايخ الحنابلة ثم لم يلبث إلا يسيرا حتى قدم السلطان الملك الكامل من الديار المصرية بعساكره وجحافله وجيوشه إلى دمشق وحاصر أخاه إسماعيل بدمشق يسيرا ثم اصطلح معه وحضر الشيخ عند السلطان الملك الكامل فأكرمه غاية الإكرام وأجلسه على تكرمته والصالح إسماعيل يشاهد ذلك وهو واقفٌ على رأسه فقال الملك الكامل للشيخ إن هذا له غرامٌ برمي البندق فهل يجوز له ذلك فقال الشيخ بل يحرم عليه فإن رسول الله نهى عنه وقال إنه يفقىء العين ويكسر العظم وأعطاه بعلبك فتوجه إليها وملكها وولى الملك الكامل رحمه الله الشيخ تدريس زاوية الغزالي بجامع دمشق وذكر بها الناس ثم ولاه قضاء دمشق بعد ما اشترط عليه الشيخ شروطا كثيرة ودخل في شروطه ثم عينه للرسالة إلى الخلافة المعظمة ثم اختلسته المنية رحمه الله فكان بين موت الملك الأشرف وتملك الملك الصالح إسماعيل لدمشق ثم تملك الملك الكامل لدمشق وموته سنة وكسرٌ ثم تملك الملك الجواد دمشق مدة ثم كاتب الملك الجواد الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله وكان بالشرق على أن ينزل له عن دمشق ويعوضه الرقة وما والاها ففعل له ذلك وقدم الملك الصالح نجم الدين رحمه الله دمشق وملكها وعامل الشيخ بأحسن معاملة ثم توجه بعسكره إلى نابلس بعد اتفاقه مع الملك الصالح إسماعيل على أنه يستخدم رجالة من بعلبك وينجده على المصريين فاستخدم الرجالة لنفسه وخان السلطان وكاتب النواب بدمشق وقدم عليهم فسلموها إليه فلما اتصلت الأخبار بالملك الصالح نجم الدين تخلت عنه العساكر وتفرقوا عنه وقصده جماعة من المغتالين فحمل عليهم ونجاه الله منهم فالتجأ إلى الملك الناصر داود فأسره وأقام عنده مدة ثم أخرجه واصطلح معه على المصريين وأما الصالح إسماعيل فإنه كان قد شاهد ما اتفق للشيخ مع الملك الأشرف وما عامله به في آخر الأمر من الإكرام والاحترام ثم شاهد أيضا ما عامله به السلطان الملك الكامل رحمه الله فولاه الصالح إسماعيل خطابة دمشق وبقي على ذلك مدة ثم إن المصريين حلفوا للملك الصالح نجم الدين أيوب وكاتبوه بذلك فوصل إليهم وملك الديار المصرية وسار في أهلها السيرة المرضية فخاف منه الصالح إسماعيل خوفا منعه المنام والطعام والشراب واصطلح مع الفرنج على أن ينجدوه على الملك الصالح نجم الدين أيوب ويسلم إليهم صيدا والشقيف وغير ذلك من حصون المسلمين ودخل الفرنج دمشق لشراء السلاح ليقاتلوا به عباد الله المؤمنين فشق ذلك على الشيخ مشقة عظيمة في مبايعة الفرنج السلاح وعلى المتدينين من المتعيشين من السلاح فاستفتوا الشيخ في مبايعة الفرنج السلاح فقال يحرم عليكم مبايعتهم لأنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين وجدد دعاءه على المنبر وكان يدعو به إذا فرغ من الخطبتين قبل نزوله من المنبر وهو اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا تعز فيه وليك وتذل فيه عدوك ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين والنصر على أعداء الله الملحدين فكاتب أعوان الشيطان السلطان بذلك وحرفوا القول وزخرفوه فجاء كتابه باعتقال الشيخ فبقي مدة معتقلا ثم وصل الصالح إسماعيل وأخرج الشيخ بعد محاورات ومراجعات فأقام مدة بدمشق ثم انتزح عنها إلى بيت المقدس فوافاه الملك الناصر داود في الفور فقطع عليه الطريق وأخذه وأقام عنده بنابلس مدة وجرت له معه خطوبٌ ثم انتقل إلى بيت المقدس وأقام به مدة ثم جاء الصالح إسماعيل والملك المنصور صاحب حمص وملوك الفرنج بعساكرهم وجيوشهم إلى بيت المقدس يقصدون الديار المصرية فسير الصالح إسماعيل بعض خواصه إلى الشيخ بمنديله وقال له تدفع منديلي إلى الشيخ وتتلطف به غاية التلطف وتستنزله وتعده بالعود إلى مناصبه على أحسن حال فإن وافقك فتدخل به علي وإن خالفك فاعتقله في خيمة إلى جانب خيمتي فلما اجتمع الرسول بالشيخ شرع في مسايسته وملاينته ثم قال له بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا غير فقال له والله يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا أن أقبل يده يا قوم أنتم في واد وأنا في واد والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به فقال له قد رسم لي إن لم توافق على ما يطلب منك وإلا اعتقلتك فقال افعلوا ما بدالكم فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان وكان الشيخ يقرأ القرآن والسلطان يسمعه فقال يوما لملوك الفرنج تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن قالوا نعم قال هذا أكبر قسوس المسلمين وقد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه ثم أخرجته فجاء إلى القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم فقالت له ملوك الفرنج لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها ثم جاءت العساكر المصرية ونصر الله تعالى الأمة المحمدية وقتلوا عساكر الفرنج ونجى الله سبحانه وتعالى الشيخ فجاء إلى الديار المصرية فأقبل عليه السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب رحمه الله وولاه خطابة مصر وقضاءها وفوض إليه عمارة المساجد المهجورة بمصر والقاهرة واتفق له في تلك الولايات عجائب وغرائب ثم عزل نفسه عن الحكم فتلطف السلطان رحمه الله في رده إليه فباشره مدة ثم عزل نفسه منه مرة ثانية وتلطف مع السلطان في إمضاء عزله لنفسه فأمضاه وأبقى جميع نوابه من الحكام وكتب لكل حاكم منه تقليدا ثم ولاه تدريس المدرسة الصالحية بالقاهرة المعزية ثم مات الملك الصالح نجم الدين أيوب بالمنصورة رحمه الله تعالى وهو مجاهدٌ ناصرٌ للدين ثم وصل ابنه المعظم توران شاه من الشرق إلى الديار المصرية بالمنصورة فملكها وانكسرت الفرنج في دولته وعامل الشيخ بأحسن معاملة ثم انتقل إلى الله سبحانه فسبحان مالك الملك ومقدر الهلك ثم انقضى ملك بني أيوب وكان كأحلام القائل أو كظل زائل لا يغتر به عاقل ثم سارت الدولة إلى الأتراك وكل منهم عامل الشيخ بأحسن معاملة ولا سيما السلطان الملك الظاهر بيبرس ركن الدين رحمه الله فإنه كان يعظمه ويحترمه ويعرف مقداره ويقف عند أقواله وفتاويه وأقام الخليفة بحضرته وإشارته وكانت وفاة الشيخ في تاسع جمادى الأولى في سنة ستين وستمائة فحزن عليه كثيرا حتى قال لا إله إلا الله ما اتفقت وفاة الشيخ إلا في دولتي وشيع أمراءه وخاصته وأجناده لتشييع جنازته وحمل نعشه وحضر دفنه انتهى ما ذكره الشيخ شرف الدين عبد اللطيف ولد الشيخ وقد حكيناه بجملته لاشتماله على كثير من أخبار الشيخ رحمه الله وحكي أن شخصا جاء إليه وقال له رأيتك في النوم تنشد وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ** ورجل رمى فيها الزمان فشلت فسكت ساعة ثم قال أعيش من العمر ثلاثا وثمانين سنة فإن هذا الشعر لكثير عزة ولا نسبة بيني وبينه غير السن أنا سني وهو شيعي وأنا لست بقصير وهو قصير ولست بشاعر وهو شاعر وأنا سلمي وليس هو بسلمي لكنه عاش هذا القدر قلت فكان الأمر كما قاله رحمه الله أنشدنا قاضي القضاة شيخ المحدثين عز الدين أبو عمر عبد العزيز بن شيخنا قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة أيده الله من لفظه بالمدرسة الصالحية بالقاهرة في شهر محرم سنة أربع وستين وسبعمائة قال أنشدنا الشيخ الإمام فخر الدين عثمان بن بنت أبي سعد من لفظه قال أنشدنا الشيخ عز الدين من لفظه لنفسه قال أعني ابن بنت أبي سعد ولا يعرف للشيخ عز الدين من النظم غيره قال وقد أنشده للطلبة وقال لهم أجيزوه وهو لو كان فيهم من عراه غرام ** ما عنفوني في هواه ولاموا فأجازه الشيخ شمس الدين عمر بن عبد العزيز بن الفضل الأسواني قاضي أسوان فقال لكنهم جهلوا لذاذة حسنه ** وعلمتها ولذا سهرت وناموا لو يعلمون كما علمت حقيقة ** جنحوا إلى ذاك الجناب وهاموا أو لو بدت أنواره لعيونهم ** خروا ولم تثبت لهم أقدام منها فبقيت أنظره بكل مصور ** وبكل ملفوظ به استعجام وأراه في صافي الجداول إن جرت ** وأراه إن جاد الرياض غمام ومنها لم يثنني عمن أحب ذوابلٌ ** سمرٌ وأبيض صارمٌ صمصام مولاي عز الدين عز بك العلا ** فخرا فدون حذاك منه الهام لما رأينا منك علما لم يكن ** في الدرس قلنا إنه إلهام جاوزت حد المدح حتى لم يطق ** نظما لفضلك في الورى النظام وآخرها فعليك يا عبد العزيز تحية ** وعليك يا عبد العزيز سلام وأنشد الأبيات كلها للشيخ في مجلس الدرس وهو يسمع إليها ولما قضاها قال له أنت إذا فقيهٌ شاعرٌ ومدحه الأديب أبو الحسين الجزاز بقصيدة بديعة أولها سار عبد العزيز في الحكم سيرا ** لم يسره سوى ابن عبد العزيز عمنا حكمه بفضل بسيط ** شامل للورى ولفظ وجيز ومن تصانيف الشيخ عز الدين القواعد الكبرى وكتاب مجاز القرآن وهذان الكتابان شاهدان بإمامته وعظيم منزلته في علوم الشريعة واختصر القواعد الكبرى في قواعد صغرى والمجاز في آخر وله كتاب شجرة المعارف حسنٌ جدا وكتاب الدلائل المتعلقة بالملائكة والنبيين عليهم السلام والخلق أجمعين بديعٌ جدا والتفسير مجلد مختصر والغاية في اختصار النهاية دلت على قدره ومختصر صحيح مسلم ومختصر رعاية المحاسبي والإمام في أدلة الأحكام وبيان أحوال الناس يوم القيامة وبداية السول في تفضيل الرسول الفرق بين الإيمان والإسلام فوائد البلوى والمحن الجمع بين الحاوي والنهاية وما أظنه كمل الفتاوى الموصلية والفتاوى المصرية مجموع مشتمل على فنون من المسائل الفوائد توفي في العاشر من جمادى الأولى سنة ستين وستمائة بالقاهرة ودفن بالقرافة الكبرى رحمه الله تعالى
قال في القواعد الكبرى لم أقف على ما يعتمد على مثله في كون الربا من الكبائر فإن كونه مطعوما أو قيمة الأشياء أو مقدرا لا يقتضى مفسدة عظيمة تكون كبيرة لأجلها وذكر في القواعد الصغرى أن الملائكة لا يرون ربهم وقال في القواعد الكبرى إذا وجد شخصين مضطرين متساويين ومعه رغيفٌ إن أطعمه أحدهما عاش يوما ومات الآخر وإن فضه عليهما عاش كل واحد نصف يوم فهل يجوز أن يطعمه لأحدهما أم يجب القصر المختار أن تخصيص أحدهما غير جائز لأن أحدهما قد يكون وليا وكذا لو كان له ولدان لا يقدر إلا على قوت أحدهما يجب القصر قلت وأصل التردد في هذا مأخوذٌ من تردد إمام الحرمين حيث قال في النهاية فيما لو أراد أن يبذل ثوبا لمن يصلي فيه وحضر عاريان ولو قسم الخرقة وشقها يحصل في كل واحد بعض الستر ولو خص أحدهما حصل له الستر الكامل فإن الإمام قال هذه المسألة محتملة قال ولعل الأظهر أن يستر أحدهما وإن أراد الإنصاف أقرع بينهما اه ولا يبين مجامعة قوله الأظهر ستر أحدهما لقوله الإنصاف الإقراع وقال إن من قذف في خلوته شخصا بحيث لا يسمعه إلا الله والحفظة فالظاهر أنه ليس بكبيرة موجبة للحد قلت وأنا أسلم له الحكم ولكني أمنع كون هذا قذفا والقذف هو الثلب والرمى ولا يحصل بهذا القدر ذكر الشيخ عز الدين في أماليه أن القاتل إذا ندم وعزم أن لا يعود لكنه امتنع من تسليم نفسه للقصاص لم يقدح ذلك في توبته قال وهذا ذنبٌ متجدد بعد الذي عصى به مخالفٌ لما وقع به العصيان من القتل ونحن إنما نشترط الإقلاع في الحال عن أمثال الفعل الذي وقع به العصيان قلت وهذه فائدة جليلة والظاهر أن كل قاتل يندم على كونه قتل ويستغفر ويعزم أن لا يعود والظاهر أيضا أنه لا يسلم نفسه فصحة توبته عن القتل والحالة هذه لطفٌ ورحمة فإن تسليم المرء نفسه إلى القتل مشق وقد لا يوقف الشارع توبته على هذا المشق العظيم فلما قاله الشيخ عز الدين اتجاهٌ لكن صرح الماوردي في الحاوي بخلافه فقال إن صحة توبته موقوفة على تسليم نفسه إلى مستحق القصاص يقتص أو يعفو وبه جزم الرافعي ومن بعده قالوا يأتي المستحق ويمكنه من الاستيفاء فإما أن يحمل كلامهم على صحة التوبة مطلقا عن ذنب القتل وغيره بمعنى أن القاتل إذا أراد التوبة عن كل ذنب القتل وغيره فهذا طريقه وإما أن ينظر أي الكلامين أصح وبالجملة ما قاله شيخ الإسلام عز الدين مستغربٌ تنبو عنه ظواهر ما في كتب أصحابنا وله اتجاهٌ ظاهر فلينظر فيه فإني لم أشبعه نظرا والأرجح عندي ما قاله الشيخ عز الدين لكنه ترجيح من لم يستوف النظر فلا يعتمد ثم ننصرف ونقول هنا لو صدقت توبة القاتل وهاجت نيران المعصية في قلبه لسلم نفسه ولو سلمها لسلمه الله تعالى وقدر لولي الدم أن يعفو عنه هذا هو المرجو الذي يقع في النفس قال الشيخ عز الدين في القواعد ينبغي أن يؤخر الصلاة عن أول الوقت بكل مشوش يؤخر الحاكم الحكم بمثله وقال فيها أيضا القطع بالسرقة يكفر ما يتعلق بربع دينار فقط ولا يكفر الزائد وقال فيها أيضا الغالب في الجهاد أفضل من القتيل وهذه المسائل الثلاث مليحة ظاهرة الحكم لا ينبغي أن يطرقها خلاف
وقد كان ابن الصلاح أفتى بالمنع منها ثم صمم على خلافه وأما سلطان العلماء فلم يبرح على المنع قال سلطان العلماء أبو محمد رضي الله عنه الحمد لله الأول الذي لا يحيط به وصف واصف والآخر الذي لا تحويه معرفة عارف جل ربنا عن التشبيه بخلقه وكل خلقه عن القيام بحقه أحمده على نعمه وإحسانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في سلطانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بحججه وبرهانه صلى الله عليه وعلى أله وأصحابه وإخوانه أما بعد فإن البدعة ثلاثة أضرب أحدها ما كان مباحا كالتوسع في المآكل والمشارب والملابس والمناكح فلا بأس بشيء من ذلك الضرب الثاني ما كان حسنا وهو كل مبتدع موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها كصلاة التراويح وبناء الربط والخانات والمدارس وغير ذلك من أنواع البر التي لم تعهد في الصدر الأول فإنه موافقٌ لما جاءت به الشريعة من اصطناع المعروف والمعاونة على البر والتقوى وكذلك الاشتغال بالعربية فإنه مبتدع ولكن لا يتأتى تدبر القرآن وفهم معانيه إلا بمعرفة ذلك فكان ابتداعه موافقا لما أمرنا به من تدبر آيات القرآن وفهم معانيه وكذلك الأحاديث وتدوينها وتقسيمها إلى الحسن والصحيح والموضوع والضعيف مبتدعٌ حسنٌ لما فيه من حفظ كلام رسول الله أن يدخله ما ليس فيه أو يخرج منه ما هو فيه وكذلك تأسيس قواعد الفقه وأصوله وكل ذلك مبتدعٌ حسنٌ موافقٌ لأصول الشرع غير مخالف لشيء منها الضرب الثالث ما كان مخالفا للشرع أو ملتزما لمخالفة الشرع فمن ذلك صلاة الرغائب فإنها موضوعة على النبي وكذبٌ عليه ذكر ذلك أبو الفرج بن الجوزي وكذلك قال أبو بكر محمد الطرطوشي إنها لم تحدث ببيت المقدس إلا بعد ثمانين وأربعمائة من الهجرة وهي مع ذلك مخالفة للشرع من وجوه يختص العلماء ببعضها وبعضها يعم العالم والجاهل فأما ما يختص به العلماء فضربان أحدهما أن العالم إذا صلاها كان موهما للعامة أنها من السنن فيكون كاذبا على رسول الله بلسان الحال ولسان الحال قد يقوم مقام لسان المقال الثاني أن العالم إذا فعلها كان متسببا إلى أن تكذب العامة على رسول الله فيقولوا هذه سنة من السنن والتسبب إلى الكذب على رسول الله لا يجوز وأما ما يعم العالم والجاهل فهي وجوهٌ أحدها أن فعل المبتدع مما يقوي المبتدعين الواضعين على وضعها وافترائها والإغراء بالباطل والإعانة عليه ممنوعٌ في الشرع واطراح البدع والموضوعات زاجرٌ عن وضعها وابتداعها والزجر عن المنكرات من أعلى ما جاءت به الشريعة الثاني أنها مخالفة لسنة السكون في الصلاة من جهة أن فيها تعديد سورة الإخلاص اثنتي عشرة مرة وتعديد سورة القدر ولا يتأتى عده في الغالب إلا بتحريك بعض أعضائه فيخالف السنة في تسكين أعضائه الثالث أنها مخالفة لسنة خشوع القلب وخضوعه وحضوره في الصلاة وتفريغه لله وملاحظة جلاله وكبريائه والوقوف على معاني القراءة والأذكار فإنه إذا لاحظ عدد السور بقلبه كان ملتفتا عن الله معرضا عنه بأمر لم يشرعه في الصلاة والالتفات بالوجه قبيحٌ شرعا فما الظن بالالتفات عنه بالقلب الذي هو المقصود الأعظم الرابع أنها مخالفة لسنة النوافل فإن السنة فيها أن فعلها في البيوت أفضل من فعلها في المساجد إلا ما استثناه الشرع كصلاة الاستسقاء والكسوف وقد قال رسول الله صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة الخامس أنها مخالفة لسنة الانفراد بالنوافل فإن السنة فيها الانفراد إلا ما استثناه الشرع وليست هذه البدعة المختلقة على رسول الله منه السادس أنها مخالفة للسنة في تعجيل الفطر إذ قال رسول الله لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور السابع أنها مخالفة للسنة في تفريغ القلب عن الشواغل المقلقة قبل الدخول في الصلاة فإن هذه الصلاة يدخل فيها وهو جوعان ظمآن ولا سيما في أيام الحر الشديد والصلوات المشروعات لا يدخل فيها مع وجود شاغل يمكن دفعه الثامن أن سجدتيها مكروهتان فإن الشريعة لم ترد بالتقرب إلى الله سبحانه بسجدة منفردة لا سبب لها فإن القرب لها أسبابٌ وشرائط وأوقاتٌ وأركانٌ لا تصح بدونها فكما لا يتقرب إلى الله بالوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة من غير نسك واقع في وقته بأسبابه وشرائطه فكذلك لا يتقرب إلى الله عز وجل بسجدة منفردة وإن كانت قربة إلا إذا كان لها سببٌ صحيحٌ وكذلك لا يتقرب إلى الله عز وجل بالصلاة والصيام في كل وقت وأوان وربما تقرب الجاهلون إلى الله بما هو مبعدٌ عنه من حيث لا يشعرون التاسع لو كانت السجدتان مشروعتين لكان مخالفا للسنة في خشوعهما وخضوعهما لما يشتغل به من عدد التسبيح فيهما بباطنه أو ظاهره أو بهما العاشر أن رسول الله قال لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم وهذا الحديث رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه الحادي عشر أن في ذلك مخالفة السنة فيما اختاره النبي في أذكار السجود فإنه لما نزل قول الله تعالى ومما يدل على ابتداع هذه الصلاة أن العلماء الذين هم أعلام الدين وأئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وغيرهم ومن دون الكتب في الشريعة مع شدة حرصهم على تعليم الناس الفرائض والسنن لم ينقل عن أحد منهم أنه ذكر هذه الصلاة ولا دونها في كتابه ولا تعرض لها في مجالسه والعادة تحيل أن يكون مثل هذه سنة وتغيب عن هؤلاء الذين هم أعلام الدين وقدوة المؤمنين وهم الذين إليهم الرجوع في جميع الأحكام من الفرائض والسنن والحلال والحرام وهذه الصلاة لا يصليها أهل المغرب الذين شهد رسول الله لطائفة منهم أنهم لا يزالون على الحق حتى تقوم الساعة وكذلك لا تفعل بالإسكندرية لتمسكهم بالسنة ولما صح عند السلطان الملك الكامل رحمه الله أنها من البدع المفتراة على رسول الله أبطلها من الديار المصرية فطوبى لمن تولى شيئا من أمور المسلمين فأعان على إماتة البدع وإحياء السنن وليس لأحد أن يستدل بما روي عن رسول الله أنه قال الصلاة خير موضوع فإن ذلك مختص بصلاة مشروعة شارح التنبيه ذكر في آخره أنه فرغ من تصنيفه في يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة تسع وعشرين وستمائة وهذا الشرح المشهور أصغر من شرحه على التنبيه شرح أكبر منه لخص منه هذا وشرح الوجيز أيضا وكلامه كلام عارف بالمذهب غير أن في شرحه غرائب من أجلها شاع بين الطلبة أن في نقله ضعفا وكان ابن الرفعة ينقل عنه في الكفاية ثم أضرب عن ذكره في المطلب على أن الجيلي قال في خطبته لا يبادر الناظر بالإنكار علي إلا بعد مطالعة الكتب المذكورة وكان قد ذكر أنه لخص الشرح من الوسيط والبسيط والشامل والتهذيب والتجريد والخلاصة والحلية والحاوي والشافي والكافي والتتمة والنهاية ومختصرها وبحر المذهب والإفصاح والإبانة وشرح مختصر المزني والمستظهري والمحيط والتلخيص والبيان وشرح البيضاوي وتبصرة الجويني وتحرير الجرجاني والمحرر ومهذب أبي الفياض البصري وغيرها هذا كلامه قلت وفيما ذكر ما لم أعرفه وهو المحرر فإنني لا أعرف في المذهب كتابا اسمه المحرر وقف عليه الجيلي وشرح مختصر المزني الذي أشار إليه لا أعرفه فإن أكثر المبسوطات شروح المختصر ومهذب أبي الفياض البصري لا أعرفه أيضا شيخ الشيوخ شرف الدين أبو محمد الحموي الأديب الماهر الشاعر المفلق ولد سنة ست وثمانين وخمسمائة بدمشق وتفقه على جماعة وكان من أذكياء بني آدم وسمع من ابن كليب ومن أبي اليمن الكندي وبه تأدب وأبي أحمد ابن سكينة ويحيى بن الربيع الفقيه وغيرهم وبرع في الفقه والشعر وحدث كثيرا روى عنه الدمياطي وأبو الحسين اليونيني وأبو العباس بن الظاهري وشيخنا قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وخلق توفي في ثامن رمضان سنة اثنتين وستين وستمائة أنشدنا قاضي القضاة بدر الدين في كتابه عنه فيما قاله من مستحسن شعره الحافظ الكبير الورع الزاهد زكي الدين أبو محمد المصري ولي الله والمحدث عن رسول الله والفقيه على مذهب ابن عم رسول الله ترتجى الرحمة بذكره ويستنزل رضا الرحمن بدعائه كان رحمه الله قد أوتي بالمكيال الأوفى من الورع والتقوى والنصيب الوافر من الفقه وأما الحديث فلا مراء في أنه كان أحفظ أهل زمانه وفارس أقرانه له القدم الراسخ في معرفة صحيح الحديث من سقيمه وحفظ أسماء الرجال حفظ مفرط الذكاء عظيمه والخبرة بأحكامه والدراية بغريبه وإعرابه واختلاف كلامه ولد في غرة شعبان سنة إحدى وثمانين وخمسمائة تفقه على الإمام أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد القرشي بن الوراق وسمع من أبي عبد الله الأرتاحي وعبد المجيب بن زهير ومحمد بن سعيد المأموني والمطهر بن أبي بكر البيهقي وربيعة اليمني الحافظ والحافظ الكبير علي بن المفضل المقدسي وبه تخرج وسمع بمكة من أبي عبد الله بن البناء وطبقته وبدمشق من عمر بن طبرزد ومحمد بن وهب بن الزنف والخضر بن كامل وأبي اليمن الكندي وخلق وسمع بحران والرها والإسكندرية وغيرها وتفقه وصنف شرحا على التنبيه وله مختصر سنن أبي داود وحواشيه كتاب مفيد ومختصر صحيح مسلم وخرج لنفسه معجما كبيرا مفيدا وانتقى وخرج كثيرا وأفاد الناس وبه تخرج الحافظ أبو محمد الدمياطي وإمام المتأخرين تقي الدين ابن دقيق العيد والشريف عز الدين وطائفة وعمت عليهم بركته وقد سمعنا الكثير ببلبيس على أبي الطاهر إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن علي بن سيف بإجازته منه قال الذهبي وما كان في زمانه أحفظ منه قلت وأما ورعه فأشهر من أن يحكى وقد درس بالآخرة في دار الحديث الكاملية وكان لا يخرج منها إلا لصلاة الجمعة حتى إنه كان له ولدٌ نجيبٌ محدث فاضل توفاه الله تعالى في حياته ليضاعف له في حسناته فصلى عليه الشيخ داخل المدرسة وشيعه إلى بابها ثم دمعت عيناه وقال أودعتك يا ولدي لله وفارقه سمعت أبي رضي الله عنه يحكي ذلك وسمعته أيضا يحكي عن الحافظ الدمياطي أن الشيخ مرة خرج من الحمام وقد أخذ منه حرها فما أمكنه المشي فاستلقى على الطريق إلى جانب حانوت فقال له الدمياطي يا سيدي أما أقعدك على مصطبة الحانوت وكان الحانوت مغلقا فقال في الحال وهو في تلك الشدة بغير إذن صاحبه كيف يكون وما رضي وسمعت أبي رضي الله عنه أيضا يحكي أن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام كان يسمع الحديث قليلا بدمشق فلما دخل القاهرة بطل ذلك وصار يحضر مجلس الشيخ زكي الدين ويسمع عليه في جملة من يسمع ولا يسمع وأن الشيخ زكي الدين أيضا ترك الفتيا وقال حيث دخل الشيخ عز الدين لا حاجة بالناس إلي ومن شعره اعمل لنفسك صالحا لا تحتفل ** بظهور قيل في الأنام وقال فالخلق لا يرجى اجتماع قلوبهم ** لا بد من مثن عليك وقال توفي في الرابع من ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة وهي السنة المصيبة بأعظم المصائب المحيطة بما فعلت من المعائب المقتحمة أعظم الجرائم الواثبة على أقبح العظائم الفاعلة بالمسلمين كل قبيح وعار النازلة عليهم بالكفار المسمين بالتتار ولا بأس بشرح واقعة التتار على الاختصار وحكاية كائنة بغداد لتعتبر بها البصائر وتشخص عندها الأبصار وليجري المسلمون على ممر الزمان دموعهم دما وليدري المؤرخون بأنهم ما سمعوا بمثلها واقعة جعلت السماء أرضا والأرض سما فنقول استهلت سنة أربع وخمسين وستمائة وخليفة المسلمين إذ ذاك أمير المؤمنين المستعصم بالله الإمام أبو أحمد عبد الله الشهيد بن المستنصر بالله أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله أبي النصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بالله أبي محمد الحسن ابن الإمام المستنجد بالله أبي المظفر يوسف ابن الإمام المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد ابن الإمام المستظهر بالله أحمد ابن الإمام المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله ابن الأمير ذخيرة الدين أبي العباس محمد ابن الإمام القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله ابن الإمام القادر بالله أبي العباس أحمد ابن ولي العهد الأمير إسحاق ابن الإمام المقتدر بالله أبي الفضل جعفر ابن الإمام المعتضد بالله أبي العباس أحمد ابن ولي العهد أبي أحمد طلحة الموفق بالله ابن الإمام المتوكل على الله جعفر ابن الإمام المعتصم بالله أبي اسحاق محمد ابن الإمام أمير المؤمنين هارون الرشيد ابن الإمام أمير المؤمنين المهدي بالله أبي عبد الله محمد ابن الإمام المنصور أبي جعفر عبد الله أمير المؤمنين أخي أول خلفاء العباس أمير المؤمنين أبي العباس عبد الله السفاح بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس عم المصطفى ورضي عنهم أجمعين وكان المستنصر والد المستعصم ذا همة عالية وشجاعة وافرة ونفس أبية وعنده إقدام عظيم واستخدم جيوشا كثيرة وعساكر عظيمة وكان له أخٌ يعرف بالخفاجي يزيد عليه في الشجاعة والشهامة وكان يقول إن ملكنى الله الأرض لأعبرن بالجيوش نهر جيحون وانتزع البلاد من التتار وأستأصلهم فلما توفي المستنصر كان الدويدار والشرابي أكبر الأمراء وأعظمهم قدرا فلم يريا تقليد الخفاجي الأمر خوفا منه وآثروا المستعصم علما منهما بلينه وانقياده وضعف رأيه لتكون لهما الكبرياء فأقاموه واستوزر مؤيد الدين محمد بن محمد بن علي العلقمي وكان فاضلا أديبا وكان شيعيا رافضيا في قلبه غل على الإسلام وأهله وحبب إلى الخليفة جمع المال والتقليل من العساكر فصار الجند يطلبون من يستخدمهم في حمل القاذورات ومنهم من يكاري على فرسه ليصلوا إلى ما يتقوتون به وكان ابن العلقمي معاديا للأمير أبي بكر بن الخليفة وللدويدار لأنهما كانا من أهل السنة ونهبا الكرخ ببغداد حين سمعا عن الروافض أنهم تعرضوا لأهل السنة وفعلا بالروافض أمورا عظيمة ولم يتمكن الوزير من مدافعتهما لتمكنهما فأضمر في نفسه الغل وتحيل في مكاتبة التتار وتهوين أمر العراق عليهم وتحريضهم على أخذها ووصل من تحيله في المكاتبة إليهم أنه حلق رأس شخص وكتب عليه بالسواد وعمل على ذلك دواء صار المكتوب فيه كل حرف كالحفرة في الرأس ثم تركه عنده حتى طلع شعره وأرسله إليهم وكان مما كتبه على رأسه إذا قرأتم الكتاب فاقطعوه فوصل إليهم فحلقوا رأسه وقرءوا ما كتبه ثم قطعوا رأس الرسول وكتب الوزير إلى نائب الخليفة بإربل وهو تاج الدين محمد بن صلايا وهو أيضا شيعي رسالة يقول فيها نهب الكرخ المكرم والعترة العلوية وحسن التمثيل بقول الشاعر أمورٌ تضحك السفهاء منها ** ويبكى من عواقبها اللبيب فلهم أسوةٌ بالحسين حيث نهب حريمه وأريق دمه أمرتهم أمرى بمنعرج اللوى ** فلم يستبينوا الرشد إلاضحى الغد وقد عزموا لا أتم الله عزمهم ولا أنفذ أمرهم على نهب الحلة والنيل بل سولت لهم أنفسهم أمرا فصبرٌ جميلٌ والخادم قد أسلف الإنذار وعجل لهم الإعذار أرى تحت الرماد وميض نار ** ويوشك أن يكون لها ضرام وإن لم يطفها عقلاء قوم ** يكون وقودها جثث وهام فقلت من التعجب ليت شعرى ** أيقظانٌ أمية أم نيام فإن يك قومنا أضحوا نياما ** فقل هبوا لقد حان الحمام قلت وهذه الأبيات كلها في غاية الحسن خاطب بها علوان بن المقنع أمير المؤمنين وهي أمير المؤمنين عليك مني ** سلام الله ما ناح الحمام تحية حافظ للعهد راع ** كنشر الروض باكره الغمام أرى خلل الرماد وميض جمر ** ويوشك أن يكون له ضرام فإن النار بالعودين تذكى ** وإن الحرب أوله كلام وإن لم يطفها عقلاء قوم ** يكون وقودها جثث وهام فقل لبني أمية ليت شعرى ** أيقضانٌ أمية أم نيام وقد ظهر الخراساني معه ** بنو العباس والجيش اللهام فإن لم تجمعوا جيشا يضيق العراق ** به عليهم والشآم فلاقوهم كما لاقى عليا ** بصفين معاوية الهمام وكان علي أقوى منه عزما ** وأعلى رتبة وهو الإمام ولا يأخذكم حذرٌ وخوفٌ ** فما يغنى إذا حام الحمام فإن كانت لكم يوما عليهم ** فذاك القصد وانقطع الكلام وإن ظفروا فما تحمى حريمٌ ** لكم عنهم ولا البيت الحرام ولا بمقام إبراهيم تعطوا ** أمانا منهم وهو المقام فموتوا في ظهور الخيل صبرا ** كما قد مات قبلكم الكرام ولا تتدرعوا أثواب ذل ** وعار قد تدرعها اللئام فإن الضيم لا صبرٌ عليه ** لمن شهدت بسؤدده الأنام وتلك وصيةٌ من ذي ولاء ** له في حفظ عهدكم ذمام وإلا فهو يقتلكم جميعا ** ويهلك ما لديكم والسلام فكان جوابي بعد خطابي لا بد من الشنيعة بعد قتل جميع الشيعة ومن إحراق كتاب الوسيلة والذريعة فكن لما نقول سميعا وإلا جرعناك الحمام تجريعا إلى أن يقول فلأفعلن بلبي كما قال المتنبي قوم إذا أخذوا الأقلام من غضب ** ثم استمروا بها ماء المنيات نالوا بها من أعاديهم وإن بعدوا ** ما لا ينال بحد المشرفيات ولآتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولأخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ووديعة من سر آل محمد ** أودعتها إذ كنت من أمنائها فإذا رأيت الكوكبين تقاربا ** في الجدى عند صباحها ومسائها فهناك يؤخذ ثار آل محمد ** لطلابها بالترك من أعدائها فكن لهذا الأمر بالمرصاد وترقب أول النحل وآخر صاد
لما كان الخامس من جمادى الآخرة من هذه السنة كان ظهور النار بالمدينة النبوية وقبلها بليلتين ظهر دوى عظيمٌ ثم زلزلةٌ عظيمة ثم ظهرت تلك النار في الحرة قريبا من قريظة يبصرها أهل المدينة من الدور وسالت أوديةٌ منها بالنار إلى وادي شظا سيل الماء وسالت الجبال نيرانا وسارت نحو طريق الحاج العراقي فوقفت وأخذت تأكل الأرض أكلا ولها كل يوم صوتٌ عظيم من آخر الليل إلى ضحوة واستغاث الناس بنبيهم وأقلعوا عن المعاصي واستمرت النار فوق الشهر وهي مما أخبر بها المصطفى صلوات الله عليه حيث يقول لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ من أرض الحجاز تضىء أعناق الإبل ببصرى وقد حكى غير واحد ممن كان ببصرى بالليل ورأى أعناق الإبل في ضوئها
زاد الدجلة زيادة مهولة فغرق خلق كثير من أهل بغداد ومات خلق تحت الهدم وركب الناس في المراكب واستغاثوا بالله وعاينوا التلف ودخل الماء من أسوار البلد وانهدمت دار الوزير وثلثمائة وثمانون دارا وانهدم مخزن الخليفة وهلك شيء كثير من خزانة السلاح
وفي ليلة الجمعة مستهل شهر رمضان احترق مسجد النبي وكان ابتداء حريقه من زاويته الغربية فأحرقت سقوفه كلها وذاب رصاصها ووقع بعض أساطينه واحترق سقف الحجرة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام
اجتمع هو وعساكره التى لا يحصى عددها ولا يدرك مددها ولا يعدد عددها ولا يدرك وإن تأمل الطرف أمدها في مجلس المشورة واتفقوا على الخروج في يوم معلوم فسار في المغول من الأردو على مهله يقتلع القلاع ويملك الحصون وأطاع الله له البلاد والعباد وصار لا يصبح يومٌ إلا وسعده في ازدياد حتى إنه حلق في يوم على صيد فاصطاد ثمانية من السباع فأنشد بعضهم إذ ذاك من كان يصطاد في يوم ثمانية ** من الضراغم هانت عنده البشر وملك قلاع الإسماعيلية كلها وجميع بلاد الروم وصار لا يمر بمدينة إلا وصاحبها بين أمرين إما مطيعٌ فيقدم إلى مخيم هولاكو وهو مخيمٌ عظيم المنظر كبير الحشمة معمولٌ من الأطلس الأخمر تحتوشه جنود القندس والقاقم فيقبل الأرض وينعم عليه بما يقتضيه رأيه ثم يخرب بلاده التي كان فيها ويصيرها قاعا صفصفا على قاعدة جده جنكزخان ويكون المتولى لخرابها هو ذلك الملك وإما عاص وقل وجدان ذلك فلا يعصى عليه غير ساعات معدودة ثم يحيط به القضاء المقدور ويحول بين رأسه وعنقه الصارم المشهور وتوجهت الملوك على اختلاف ندائها وامتناع سلطانها وعظم مكانها إلى عتباته فمنهم من أمنه وأعطاه فرمانا ورجعه إلى بلده ومنهم من فعل به غير ذلك على ما يقتضيه البأساء التي أخبر عنها شيطان جده وابتدعها من عنده كل ذلك والخليفة غافلٌ عما يراد به ثم تواترت الأخبار بوصول هولاكو إلى أذربيجان بقصد العراق وكاتب صاحب الموصل لؤلؤٌ الخليفة يستنهضه في الباطن وما وسعه إلا مداراة هولاكو في الظاهر وأرسل الخليفة نجم الدين البادرائي رسولا إلى الملك الناصر صاحب دمشق يأمره بمصالحة الملك المعز وأن يتفقا على حرب التتار فامتثلا أمر الخليفة وفيما بين ذلك تأتي الكتب إلى الخليفة فإن وصلت ابتداء إلى الوزير لم يوصلها إليه وإن وصلت إلى الخليفة أطلع الوزير فيثبطه ويغشه حين يستنصحه ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة وفيها مات الملك المعز أيبك التركماني صاحب مصر وتسلطن بعده ولده الملك المنصور علي بين أيبك وترددت رسل هولاكو إلى بغداد وكانت القرابين منهم واصلة إلى ناس بعد ناس من غير تحاش منهم في ذلك ولا خفية والناس في غفلة عما يراد بهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة ذات الداهية الدهياء والمصيبة الصماء وكان القان الأعظم هولاكو قد قصد الألموت وهو معقل الباطنية الأعظم وبها المقدم علاء الدين محمد بن جلال الدين حسن الباطني المنتسب في مذهبه إلى الفاطميين العبيديين فتوفي علاء الدين ونزل ولده إلى خدمة هولاكو وسلم قلاعه فأمنه ثم وردت كتب هولاكو إلى صاحب الموصل لؤلؤ في تهيئة الإقامات والسلاح فأخذ يكاتب الخليفة سرا ويهيء لهم ما يريدون جهرا والخليفة لا يتحرك ولا يستيقظ فلما أزف اليوم الموعود وتحقق أن العدم موجودٌ جهز رسوله يعدهم بأموال عظيمة ثم سير مائة رجل إلى الدربند يكونون فيه ويطالعونه بالأخبار فقتلهم التتار أجمعين وركب السلطان هولاكو إلى العراق وكان على مقدمته بايجو نوين وأقبلوا من جهة البر الغربي عن دجلة فخرج عسكر بغداد وعليهم ركن الدين الدويدار فالتقوا على نحو مرحلتين من بغداد وانكسر البغداديون وأخذتهم السيوف وغرق بعضهم في الماء وهرب الباقون ثم ساق بايجو نوين فنزل القرية مقابل دار الخلافة وبينه وبينها دجلة وقصد هولاكو بغداد من جهة البر الشرقي ثم إنه ضرب سورا على عسكره وأحاط ببغداد فأشار الوزير على الخليفة بمصانعتهم وقال أخرج أنا إليهم في تقرير الصلح فخرج وتوثق لنفسه من التتار ورد إلى المستعصم وقال إن السلطان يا مولانا أمير المؤمنين قد رغب في أن يزوج بنته بابنك الأمير أبي بكر ويبقيك في منصب الخلافة كما أبقى صاحب الروم في سلطنته ولا يؤثر إلا أن تكون الطاعة له كما كان أجدادك مع السلاطين السلجوقية وينصرف عنك بجيوشه فمولانا أمير المؤمنين يفعل هذا فإن فيه حقن دماء المسلمين وبعد ذلك يمكننا أن نفعل ما نريد والرأي أن تخرج إليه فخرج أمير المؤمنين بنفسه في طوائف من الأعيان إلى باب الطاغية هولاكو ولا حول ولا قوة إلا باالله العلي العظيم فأنزل الخليفة في خيمة ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد فخرجوا من بغداد فضربوا أعناقهم وصار كذلك يخرج طائفةٌ بعد طائفة فتضرب أعناقهم ثم طلب حاشية الخليفة فضرب أعناق الجميع ثم طلب أولاده فضرب أعناقهم وأما الخليفة فقيل إنه طلبه ليلا وسأله عن أشياء ثم أمر به ليقتل فقيل لهولاكو إن هذا إن أهريق دمه تظلم الدنيا ويكون سبب خراب ديارك فإنه ابن عم رسول الله وخليفة الله في أرضه فقام الشيطان المبين الحكيم نصير الدين الطوسي وقال يقتل ولا يراق دمه وكان النصير من أشد الناس على المسلمين فقيل إن الخليفة غم في بساط وقيل رفسوه حتى مات ولما جاءوا ليقتلوه صاح صيحة عظيمة وقتلوا أمراءه عن آخرهم ثم مدوا الجسر وبذلوا السيف ببغداد واستمر القتل ببغداد بضعا وثلاثين يوما ولم ينج إلا من اختفى وقيل إن هولاكو أمر بعد ذلك بعد القتلى فكانوا ألف ألف وثمانمائة ألف النصف من ذلك تسعمائة ألف غير من لم يعد ومن غرق ثم نودي بعد ذلك بالأمان فخرج من كان مختبئا وقد مات الكثير منهم تحت الأرض بأنواع من البلايا والذين خرجوا ذاقوا أنواع الهوان والذل ثم حفرت الدور وأخذت الدفائن والأموال التي لا تعد ولا تحصى وكانوا يدخلون الدار فيجدون الخبيئة فيها وصاحب الدار يحلف أن له السنين العديدة فيها ما علم أن بها خبيئة ثم طلبت النصارى أن يقع الجهر بشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وأن يفعل معهم المسلمون ذلك في شهر رمضان فألزم المسلمون بالفطر في رمضان وأكل الخنزير وشرب الخمر ودخل هولاكو إلى دار الخليفة راكبا لعنه الله واستمر على فرسه إلى أن جاء إلى سدة الخليفة وهي التي تتضاءل عندها الأسود ويتناوله سعد السعود كالمستهزئ بها وانتهك الحرم من بيت الخليفة وغيره وأعطى دار الخليفة لشخص من النصارى وأريقت الخمور في المساجد والجوامع ومنع المسلمون من الإعلان بالأذان فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هذه بغداد لم تكن دار كفر قط جرى عليها هذا الذي لم يقع منذ قامت الدنيا مثله وقتل الخليفة وإن كان وقع في الدنيا أعظم منه إلا أنه أضيف له هوان الدين والبلاء الذي لم يختص بل عم سائر المسلمين وهذا أمرٌ قدره الله تعالى فثبط له عزم هذا الخليفة ليقضي الله ما قدره ولقد حكي أن الخليفة كان قاعدا يقرأ القرآن وقت الإحاطة بسور بغداد فرمى شخصٌ من التتار بسهم فدخل من شرفات المكان الذي كان فيه وكانت واحدةٌ من بناته بين يديه فأصابها السهم فوقعت ميتة ويقال كتب الدم على الأرض إذا أراد الله أمرا سلب ذوي العقول عقولهم وإن الخليفة قرأ ذلك وبكى وإن هذا هو الحامل على أن أطاع الوزير في الخروج إليهم ولله ما فعلت زوجة أمير المؤمنين قيل إن هولاكو دعاها ليواقعها فشرعت تقدم له تحف الجواهر وأصناف النفائس تشغله عما يرومه فلما عرفت تصميمه على ما عزم عليه اتفقت مع جارية من جواريها على مكيدة تخيلتها وحيلة عقدتها فقالت لها إذا نزعت ثيابك وأردت أن أقدك نصفين بهذا السيف فأظهري جزعا عظيما فأنا إذ ذاك أقول لك افعلي أنت هذا بي فإن هذا سيفٌ من ذخائر أمير المؤمنين وهو لا يؤثر إذا ضرب به ولا يجرح شيئا فإذا أنت ضربتيني فليكن الضرب بكل قواك على نفس المقتل ثم جاءت إلى هولاكو وقالت هذا سيف الخليفة وله خصوصيةٌ وهي أنه يضرب به الرجل فلا يجرحه إلا إذا كان الضارب الخليفة ثم دعت الجارية وقالت أجرب بين يدي السلطان فيها فلما عاينت الجارية السيف مصلتا والضرب آتيا صاحت صيحة عظيمة وأظهرت الجزع شديدا فقالت السيدة رضى الله عنها ويلك أما علمت أنه سيف أمير المؤمنين مالك أتخشينه أما تعرفينه خذيه واضربيني به فأخذته فضربتها به فقدتها نصفين وماتت وما ألمت بعار ولا جعلت فراش ابن عم رسول الله فراشا للكفار فتحسر هولاكو وعلم أنها مكيدة وقد رأيت مثل هذه الحكاية جرى في الزمن الماضي لبعض الصالحات راودها عن نفسها بعض الفاجرين كما حكى ذلك الدبوسي من الحنفية في كتابه روضة العلماء ويحكى أن شخصا من أهل مصر قال كنت نائما حين بلغ خبر بغداد وأنا متفكرٌ كيف فعل الله ذلك فرأيت في المنام قائلا يقول لا تعترض على الله فهو أعلم بما يفعل فاستيقظت واستغفرت الله تعالى وأما الوزير فإنه لم يحصل على ما أمل وصار عندهم أخس من الذباب وندم حيث لا ينفعه الندم ويحكى أنه طلب منه يوما شعيرٌ فركب الفرس بنفسه ومضى ليحصله لهم وهذا يشتمه وهذا يأخذ بيده وهذا يصفعه بعد أن كانت السلاطين تأتي فتقبل عتبة داره والعساكر تمشي في خدمته حيث سار من ليله ونهاره وأن امرأة رأته من طاق فقالت له يا ابن العلقمي هكذا كنت تركب في أيام أمير المؤمنين فخجل وسكت وقد مات غبنا بعد أشهر يسيرة ومضى إلى دار مقبره ووجد ما عمل حاضرا وأما ابن صلايا نائب إربل فإن هولاكو ضرب عنقه ثم جاءت رسل هولاكو إلى الملك الناصر صاحب الشام وصورة كتابه إليه يعلم سلطان ملك ناصر أنه لما توجهنا إلى العراق وخرج إلينا جنودهم فقتلناهم بسيف الله ثم خرج إلينا رؤساء البلد ومقدموها فأعدمناهم أجمعين ذلك بما قدمت أيديهم وبما كانوا يكسبون وأما ما كان من صاحب البلدة فإنه خرج إلى خدمتنا ودخل تحت عبوديتنا فسألناه عن أشياء كذب فيها فاستحق الإعدام أجب ملك البسيطة ولا تقولن قلاعي المانعات ورجالي المقاتلات فساعة وقوفك على كتابنا نجعل قلاع الشام سماءها أرضا وطولها عرضا وأرسل غير ما كتاب في هذا المعنى ثم في سنة سبع وخمسين وستمائة نزل على آمد وبعث إلى صاحب ماردين يطالبه فجعل صاحبها يتعلل بالمرض وأرسل أولاده وهداياه جهرا إلى هولاكو وأرسل في الباطن يستحث الملك الناصر على محاربة التتار ثم عبر له جيشٌ عظيم إلى الفرات بعد أن استولى على حران والرها والجزيرة فجاء الخبر إلى صاحب حلب فجفل الناس بها وعظم الخطب وعم البلاء ثم قاربوا حلب فخرج إليهم جماعةٌ من عسكرها فهزموهم ونازلوا البلدة وقتلوا خلقا كثيرا ثم رحلوا عنها طالبين أعزاز وكان المقدم على هذا الجيش أسموط بن هولاكو ثم عبر هولاكو الفرات بنفسه في المحرم سنة ثمان وخمسين وستمائة ونازلت عساكره حلب وركبوا الأسوار من كل ناحية بعد أن نقبوا وخندقوا فهرب المسلمون إلى جهة القلعة وبذلت التتار السيف في العالم وامتلأت الطرقات بالقتلى وبقي القتل والنهب والحريق إلى رابع عشر صفر ثم نودي برفع السيف وأذن المؤذنون يومئذ بالجامع وأقيمت الخطبة والصلاة ثم أحاطوا بالقلعة وحاصروها وأرسل صاحب حلب إلى الملك الناصر صاحب الشام يستحثه ووصل الخبر إلى دمشق بأخذهم حلب فهرب الملك الناصر بعد أن كان جبى الأموال وجمع الجموع ونزل على برزة بعساكر عظيمة ثم رأى العجز فهرب ووصلت رسل التتار إلى دمشق وقرىء الفرمان بأمان أهل دمشق وما حواليها وأما حماة فإن صاحبها كان حضر إلى برزة ليتجهز مع الملك الناصر فلما سمع أهل البلد في غيبته بأخذ حلب أرسلوا إلى هولاكو يسألون عطفه وسلموا البلد وهرب صاحب حماة مع الملك الناصر فسارا نحو مصر فلما وصلا قطيا تقدم صاحب حماة وهو الملك المنصور ودخل مصر وبقى الناصر في عسكر قليل فتوجهوا إلى تيه بني إسرائيل خوفا من المصريين وأما التتار فوصلوا إلى غزة واستولوا على ما خلفهم وتسلموا قلعة دمشق وجعلوا بها نائبا ثم تفرقوا في بلاد الشام يفعلون ما يختارون وطافوا في دمشق برأس الملك الكامل الشهيد صاحب ميافارقين وقد كانوا حاصروه سنة ونصفا وما زال ظاهرا عليهم إلى أن فنى أهل البلد لفناء الأقوات ثم سار الناصر وأخوه وحاشيته إلى هولاكو وكان جاء كتاب هولاكو قبل وصوله إلى دمشق فقرئ بدمشق وصورته أما بعد فنحن جنود الله بنا ينتقم ممن عتا وتجبر وطغى وتكبر ونحن قد أهلكنا البلاد وأبدنا العباد وقتلنا النساء والأولاد فأيها الباقون أنتم بمن مضى لاحقون وأيها الغافلون أنتم إليهم تساقون ونحن جيوش الهلكة لا جيوش الملكة مقصودنا الانتقام وملكنا لا يرام ونزيلنا لا يضام وعدلنا في ملكنا قد اشتهر ومن سيوفنا أين المفر أين المفر ولا مفر لهارب ** ولنا البسيطان الثرى والماء ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت ** في قبضنا الأمراء والخلفاء ونحن إليكم صائرون ولكم الهرب وعلينا الطلب ستعلم ليلى أي دين تداينت ** وأي غريم بالتقاضي غريمها دمرنا البلاد وأيتمنا الأولاد وأهلكنا العباد وأذقناهم العذاب وشمخت النصارى بدمشق وصاروا يرفعون الصليب ويمرون به في الأسواق والخمر معهم يرشونه على المساجد والمصلين ومن رأى الصليب ولا يقوم له عاقبوه وأما المصريون فإنه سلطنوا الملك المظفر قطز واجتمعوا وطلبوا شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام وحضر إليهم بيبرس البندقداري يستحثهم ويهون عليهم
|