الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **
المجلد السادس بسم الله الرحمن الرحيم قال ابن إسحاق : فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو القعدة ، تجهز للحج ، وأمر الناس بالجهاز له . قال ابن إسحاق : فحدثني عبدالرحمن بن القاسم ، عن أبيه القاسم بن محمد ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة . قال ابن هشام :فاستعمل على المدينة أبا دجانة الساعدي ، ويقال : سباع بن عرفطة الغفاري . قال ابن إسحاق : فحدثني عبدالرحمن بن القاسم ، عن أبيه القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت : لا يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج ، حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم معه الهدي وأشراف من أشراف الناس ، أمر الناس أن يحلوا بعمرة ، إلا من ساق الهدي ، قالت : وحضت ذلك اليوم ، فدخل علي وأنا أبكي ، فقال : مالك يا عائشة ؟ لعلك نفست ؟ قالت : قلت : نعم ، والله لوددت أني أخرج معكم عامي في هذا السفر ؛ فقال : لا تقولن ذلك ، فإنك تقضين كل ما يقضي الحاج ، إلا أنك لا تطوفين بالبيت . قالت ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، فحل كل من كان لا هدي معه ، وحل نساؤه بعمرة . فلما كان يوم النحر أتيت بلحم بقر كثير ، فطرح في بيتي ، فقلت : ما هذا ؟ قالوا : ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر . حتى إذا كانت ليلة الحصبة ، بعث بي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخي عبدالرحمن بن أبي بكر ، فأعمرني من التنعيم ، مكان عمرتي التي فاتتني . قال ابن إسحاق : وحدثني نافع ، مولى عبدالله بن عمر ، عن عبدالله ابن عمر ، عن حفصة بنت عمر ، قالت : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه أن يحللن بعمرة ، قلن : فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا ؟ فقال : إني أهديت ولبدت ، فلا أحل حتى أنحر هديي . قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي نجيح . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث عليا رضى الله عنه إلى نجران ، فلقيه بمكة وقد أحرم ، فدخل على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنها ، فوجدها قد حلت وتهيأت ، فقال : ما لك يا بنت رسول الله ، قالت : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحل بعمرة فحللنا . ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغ من الخبر عن سفره ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انطلق فطف بالبيت ، وحل كما حل أصحابك ، قال : يا رسول الله ، إني أهللت كما أهللت : فقال : ارجع فاحلل كما حل أصحابك ، قال : يا رسول الله ، إني قلت حين أحرمت : اللهم إني أهل بما أهل به نبيك وعبدك رسولك محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : فهل معك من هدي ؟ قال : لا . فأشركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وثبت على إحرامه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى فرغا من الحج ، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدى عنهما . قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي عمرة ، عن بريد بن طلح بن يزيد بن ركانة ، قال : لما أقبل علي رضي الله عنه من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، تعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستخلف على جنده الذين معه رجل من أصحابه ، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم حلة من البز الذي كان مع علي رضى الله عنه ، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم ، فإذا عليهم الحلل ، قال : ويلك ! ما هذا ؟ قال : كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس ؛ قال : ويلك ! انزع قبل أن تنتهي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فانتزع الحلل من الناس ، فردها في البز ، قال : وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم . قال ابن إسحاق : فحدثني عبدالله بن عبدالرحمن بن حزم بن معمر بن حزم عن سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب ، وكانت عند أبي سعيد الخدري ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : اشتكى الناس علياً رضوان الله عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا ، فسمعته يقول : أيها الناس ، لا تشكوا علياً ، فوالله إنه لأخشن في ذات الله ، أو في سبيل الله من أن يشكى . قال ابن إسحاق : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجة ، فأرى الناس مناسكهم ، وأعلمهم سنن حجهم ، وخطب الناس خطبته التي بين فيها ما بين ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، اسمعوا قولي ، فإني لا أدرى لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً أيها الناس ، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها . وإن كل ربا موضوع ، ولكن لكم رؤوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون ، قضى الله أنه لا ربا ، وإن ربا عباس بن عبدالمطلب موضوع كله . وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب ، وكان مسترضعا في بني ليث ، فقتلته هذيل ، فهو أول ما أبداً به من دماء الجاهلية . أما بعد : أيها الناس ، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم . أيها الناس ، إن النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ، ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله ، ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية ، ورجب مضر ، الذي بين جمادى وشعبان . أما بعد : أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقاً ، ولهن عليكم حقاً ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن ، فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف . واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمات الله ، فاعقلوا أيها الناس قولي ، فإني قد بلغت . وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً ، أمراً بيناً ، كتاب الله وسنة نبيه . أيها الناس ، اسمعوا قولي واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم ، وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ، فلا تظلمن أنفسكم ؛ اللهم هل بلغت . فذكر لي أن الناس قالوا : اللهم نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم اشهد . من كان يردد قوله صلى الله عليه وسلم رافعا صوته ليسمع الناس قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه عباد ، قال كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة ، ربيعة بن أمية بن خلف قال : يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل : يا أيها الناس ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : هلا تدرون أي شهر هذا ؟ فيقول لهم : فيقولون : الشهر الحرام ، فيقول : قل لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة شهركم هذا ، ثم يقول : قل : يا أيها الناس ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : هل تدرون أي بلد هذا ؟ قال : فيصرخ به ، قال : فيقولون : البلد الحرام قال : فيقول : قل لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم ، إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة بلدكم هذا . قال : ثم يقول : قل : يا أيها الناس ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : هل تدرون أي يوم هذا ؟ قال : فيقوله لهم . فيقولون : يوم الحج الأكبر ، فيقول : قل لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم ، إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا . ما ذكره عمرو بن خارجة من قوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع قال ابن إسحاق : حدثني ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري عن عمرو بن خارجة قال : بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة ، فبلغته ، ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن لغامها ليقع على رأسي ، فسمعته وهو يقول : أيها الناس ، إن الله أدى إلى كل ذي حق حقه ، وإنه لا تجوز وصية لوارث ، والولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة الناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً . قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي نجيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقف بعرفة قال : هذا الموقف للجبل الذي هو عليه ، وكل عرفة موقف . وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة : هذا الموقف ، وكل المزدلفة موقف . ثم لما نحر بالمنحر بمنى ، قال : هذا المنحر وكل منى منحر . فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج وقد أراهم مناسكهم ، وأعلمهم ما فرض الله عليهم من حجهم : من الموقف ، ورمى الجمار ، وطواف بالبيت ، وما أحل لهم من حجهم : وما حرم عليهم ، فكانت حجة البلاغ ، وحجة الوداع ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحج بعدها . قال ابن إسحاق : ثم قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر ، وضرب على الناس بعثاً إلى الشام ،وأمر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة مولاه ، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتجهز الناس ، وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون الأولون . قال ابن هشام : وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الملوك رسلا من أصحابه وكتب معهم إليهم يدعوهم إلى الإسلام . قال ابن هشام :حدثني من أثق به عن أبي بكر الهذلي قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التي صد عنها يوم الحديبية ، فقال : أيها الناس ، إن الله قد بعثني رحمة وكافة ، فلا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى ابن مريم ، فقال أصحابه : وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله ؟ قال : دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثاً قريباً فرضي وسلم ، وأما من بعثه مبعثاً بعيداً فكره وجهه وتثاقل ، فشكا ذلك عيسى إلى الله ، فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً من أصحابه ، وكتب معهم كتباً إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام . فبعث دحية بن خليفة الكلبي ، إلى قيصر ملك الروم . وبعث عبدالله بن حذافة السهمي ، إلى كسرى ملك الفرس . وبعث عمرو بن أمية الضمري ، إلى النجاشي ملك الحبشة . وبعث حاطب بن أبي بلتعة ، إلى المقوقس ملك الإسكندرية . وبعث عمرو بن العاص السهمي ، إلى جيفر وعياد ابني الجلندي الأزديين ملكي عمان . وبعث سليط بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي ، إلى ثمامة بن أثال ، وهوذة بن علي الحنفيين ، ملكي اليمامة . وبعث العلاء بن الحضرمي ، إلى المنذر بن ساوى العبدي ملك البحرين . وبعث شجاع بن وهب الأسدي ، إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام . قال ابن هشام :بعث شجاع بن وهب ، إلى جبلة بن الأيهم الغساني ، وبعث المهاجر ابن أبي أمية المخزومي ، إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ، ملك اليمن . قال ابن هشام :أنا نسيت سليطا وثمامة وهوذة والمنذر . قال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري ، أنه وجد كتاباً فيه ذكر من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البلدان ، وملوك العرب والعجم ، وما قال لأصحابه حين بعثهم ،قال : فبعثت به إلى محمد بن شهاب الزهري فعرفه ، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه فقال لهم : إن الله بعثني رحمة وكافة ، فأدوا عني يرحمكم الله ، ولا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم ؛ قالوا : وكيف يا رسول الله كان اختلافهم ؟ قال : دعاهم لمثل ما دعوتكم له ، فأما من قرب به فأحب وسلم ، وأما من بعد به فكره وأبى ، فشكا ذلك عيسى منهم إلى الله ، فأصبحوا وكل رجل منهم يتكلم بلغة القوم الذين وجه إليهم . قال ابن إسحاق : وكان من بعث عيسى بن مريم عليه السلام من الحواريين والأتباع ، الذين كانوا بعدهم في الأرض : بطرس الحواري ، ومعه بولس ، وكان بولس من الأتباع ، ولم يكن من الحواريين ، إلى رومية ، وأندرائس ومنتا إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس ، وتوماس ، إلى أرض بايل من أرض المشرق ، وفيلبس إلى أرض قرطاجنة ، وهي أفريقية ؛ ويحنس إلى أفسوس ، قرية الفتية أصحاب الكهف ؛ ويعقوبس إلى أوراشلم ، وهي إيلياء قرية بيت المقدس ، وابن ثلماء إلى الأعرابية ، وهي أرض الحجاز ؛ وسيمن إلى أرض البربر ، ويهوذا ، ولم يكن من الحواريين ، جعل مكان يودس .
|