الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (94): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}{خَبِيرًا يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} شروع في التحذير عما يوجب الندم من قتل من لا ينبغي قتله. {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله} أي سافرتم للغزو على ما يدل عليه السباق والسياق {فَتَبَيَّنُواْ} أي فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وتذرون ولا تعملوا فيه من غير تدبر وروية، وقرأ حمزة وعلي وخلف فتثبتوا أي فاطلبوا ثبات الأمر ولا تعجلوا فيه، والمعنيان متقاربان، وصيغة التفعيل عنى الاستقبال، ودخلت الفاء لما في {إِذَا} من معنى الشرط كأنه قيل: إن غزوتم فتبينوا {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام} أي حياكم بتحية الإسلام ومقابلها تحية الجاهلية كأنعم صباحًا وحياك الله تعالى وقرأ حمزة وخلف وأهل الشام السلم بغير ألف، وفي بعض الروايات عن عاصم أنه قرأ السلم بكسر السين وفتح اللام، ومعناه في القرائتين الاستسلام والانقياد، وبه فسر بعضعم {السلام} أيضًا في القراءة المشهورة، واللام على ما قال السمين: للتبليغ، والماضي عنى المضارع، ومن موصولة أو موصوفة، والمراد النهي عما هو نتيجة لترك المأمور به، وتعيين مادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين والتثبيت، وتقييد ذلك بالسفر لأن عدم التبيين كان فيه لا لأنه لا يجب إلا فيه، والمعنى لا تقولوا لمن أظهر لكم ما يدل على إسلامه: {لَسْتَ مُؤْمِنًا} وإنما فعلت ذلك خوف القتل بل اقبلوا منه ما أظهر وعاملوه وجبه.وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ومحمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهما وأبي جعفر القاري أنهم قرؤوا {مُؤْمِنًا} بفتح الميم الثانية أي مبذولًا لك الأمان.{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا} أي تطلبون ماله الذي هو حطام سريع الزوال وشيك الانتقال، والجملة في موضع الحال من فاعل {تَقُولُواْ} مشعرًا بما هو الحامل لهم على العجلة، والنهي راجع إلى القيد والمقيد، وقوله تعالى: {فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} تعليل للنهي عن القيد بما فيه من الوعد الضمني كأنه قيل: لا تبتغوا ذلك العرض القليل الزائل فإن عنده سبحانه وفي مقدوره مغانم كثيرة يغنمكموها فيغنيكم عن ذلك، وقوله سبحانه: {كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} تعليل للنهي عن المقيد باعتبار أن المراد منه ردّ إيمان الملقي لظنهم أن الإيمان العاصم ما ظهرت على صاحبه دلائل تواطئ الباطن والظاهر ولم تظهر فيه، واسم الإشارة إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فيه حيز الصلة، والفاء في {فَمَنْ} للعطف على {كُنتُمْ} وقدم خبرها للقصر المفيد لتأكيد المشابهة كأنه قيل: لا تردّوا إيمان من حياكم بتحية الإسلام وتقولوا إنه ليس بإيمان عاصم ولا يعد المتصف به مؤمنًا معصومًا لظنكم اشتراط التواطؤ في العصمة ومجرد التحية لا يدل عليه، فإنكم كنتم أنتم في مبادئ إسلامكم مثل هذا الملقي في عدم ظهور شيء للناس منكم غير ما ظهر منه لكم من التحية ونحوها، ولم يظهر منكم ما تظنونه شرطًا مما يدل على التواطؤ، ومجرد أن الدخول في الإسلام لم يكن تحت ظلال السيوف لا يدل على ذلك فمنّ الله تعالى عليكم بأن قبل ذلك منكم ولم يأمر بالفحص عن تواطؤ ألسنتكم وقلوبكم، وعصم بذلك دماءكم وأموالكم، فإذا كان الأمر كذلك {فَتَبَيَّنُواْ} هذا الأمر ولا تعجلوا وتدبروا ليظهر لكم أن ظاهر الحال كاف في الإيمان العاصم حيث كفى فيكم من قبل، وأخر هذا التعليل على ما قيل لما فيه من نوع تفصيل را يخلّ تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم مع ما فيه من مراعاة المقارنة بين التعليل السابق وبين ما علل به، أو لأن في تقديم الأول إشارة ما إلى ميل القوم نحو ذلك العرض، وأن سرورهم به أقوى، ففي تقديمه تعجيل لمسرتهم، وفيه نوع حط عليهم رفع الله تعالى قدرهم ورضي المولى عز شأنه عنهم أو لأنه أوضح في التعليل من التعليل الأخير وأسبق للذهن منه، ولعله لم يعطف أحد التعليلين على الآخر لئلا يتوهم أنهما تعليلا شيء واحد أو أن مجموعهما علة، وقيل: موافقة لما علل بهما من القيد والمقيد حيث لم يتمايزا بالعطف، وقيل: إنما لم يعطف لأن الأول تعليل للنهي الثاني بالوعد بأمر أخروي لأن المعنى لا تبتغوا عرض الحياة الدنيا لأن عنده سبحانه ثوابًا كثيرًا في الآخرة أعده لمن لم يبتغ ذلك، وعبر عن الثواب بالمغانم مناسبة للمقام، والتعليل الثاني للنهي الأول ليس كذلك، وذكر الزمخشري وغيره في الآية ما رده شيخ الإسلام بما يلوح عليه مخايل التحقيق، وقال بعض الناس فيها: إن المعنى كما كان هذا الذي قتلتموه مستخفيًا بدينه في قومه خوفًا على نفسه منهم كنتم أنتم مستخفين بدينكم حذرًا من قومكم على أنفسكم، فمنّ الله تعالى عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله حتى أظهرتم الإسلام بعدما كنتم تكتمونه من أهل الشرك فتبينوا نعمة الله تعالى عليكم، أو تبينوا أمر من تقتلونه، ولا يخفى أن هذا وإن كان بعضه مرويًا عن ابن جبير غير واف بالمقصود على أن القول بأن المخاطبين كانوا مستخفين بدينهم حذرًا من قومهم في حيز المنع اللهم إلا أن يقال: إن كون البعض كان مستخفيًا كاف في الخطاب، وقيل: إن قوله سبحانه: {فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} منقطع عما قبله، وذلك أنه تعالى لما نهى القوم عن قتل من ذكر أخبرهم بعد بأنه منّ عليهم بأن قبل توبتهم عن ذلك الفعل المنكر، ثم أعاد الأمر بالتبيين مبالغة في التحذير، أو أمر بتبيين نعمته سبحانه شكرًا لما منّ عليهم به وهو كما ترى.واختلف في سبب الآية، فأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن حميد وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنمًا له فسلم عليهم فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا له فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت». وأخرج ابن جرير عن السدي قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة فلقوا رجلًا منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر فآوى إلى كهف جبل واتبعه أسامة فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ثم أقبل عليهم فقال: السلام عليكم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خيرًا ويسأل عنه أصحابه، فلما رجعوا لم يسألهم عنه فجعل القوم يحدثون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا رسول الله لو رأيت أسامة وقد لقيه رجل فقال الرجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله فشد عليه فقتله وهو معرض عنهم فلما أكثروا عليه رفع رأسه إلى أسامة فقال: كيف أنت ولا إله إلا الله؟ا فقال يا رسول الله إنما قالها متعوذًا يتعوذ بها فقال عليه الصلاة والسلام: هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه؟ا» ثم نزلت الآية. وأخرج عن ابن زيد أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء، وذكر من قصته مثل ما ذكر من قصة أسامة، والاقتصار على ذكر تحية الإسلام على هذا مع أنها كانت مقرونة بكلمة الشهادة للمبالغة في النهي والزجر، والتنبيه على كمال ظهور خطئهم ببيان أن التحية كانت كافية في المكافة والانجزار عن التعرض لصاحبها فكيف وهي مقرونة بتلك الكلمة الطيبة، واستدل بالآية وسياقها على صحة إيمان المكره وأن المجتهد قد يخطئ وإن خطأه مغتفر، وجه الدلالة على الأول أنه مع ظن القاتلين أن إسلام من ذكر لخوف القتل وهو إكراه معنى أنكر عليهم قتله فلولا صحة إسلامه لم ينكر، ووجه الدلالة على الثاني أنه أمر فيها بالتبيين المشعر بأن العجلة خطأ. ووجه الدلالة على الثالث مأخوذ من السياق وعدم الوعيد على ترك التبيين، وذهب بعضهم إلى أنه لا عذر في ترك التثبت في مثل هذه الأمور، وأن المخطئ آثم، واحتج على ذلك بما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن «أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبوا يتطرقون فلقوا ناسًا من العدو فحملوا عليهم فهزموهم فشد رجل منهم فتبعه رجل يريد متاعه فلما غشيه بالسنان قال: إني مسلم إني مسلم فأوجره السنان فقتله وأخذ متيعه، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام للقاتل: أقتلته بعد ما قال: إني مسلم؟ا قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذًا قال: أفلا شققت عن قلبه؟ا قال: لم يا رسول الله؟ قال: لتعلم أصادق هو أو كاذب؟ قال: كنت عالم ذلك يا رسول الله قال عليه الصلاة والسلام: إنما كان يبين عنه لسانه إنما كان يعبر عنه لسانه، قال: فما لبث القاتل أن مات فحفر له أصحابه فأصبح وقد وضعته الأرض، ثم عادوا فحفروا له، فأصبح وقد وضعته الأرض إلى جنب قبره، قال الحسن فلا أدري كم قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: دفناه مرتين أو ثلاثًا كل ذلك لا تقبله الأرض فلما رأينا الأرض لا تقبله أخذنا برجله فألقيناه في بعض تلك الشعاب» فأنزل الله تعالى قوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} الآية، وفي رواية عبد الرزاق عن قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأرض أبت أن تقبله فألقوه في غار من الغيران» ووجه الدلالة في هذا على الإثم ظاهر، وأجيب بأن هذا القاتل لعله لم يفعل ذلك لكون المقتول غير مقبول الإسلام عنده بل لأمر آخر، واعتذر بما اعتذر كاذبًا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد وابن المنذر والطبراني وجماعة عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال: «بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحرث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود معه متيع له ووطب من لبن فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه فقتله وأخذ متيعة فلما قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ...} إلخ»، والظاهر أن الرجل المبهم في خبر الحسن هو هذا الرجل المصرح به في هذا الخبر، وهو يدل على أن القتل كان لشيء كان في القلب من ضغائن قديمة، وإنما قلنا: إن هذا هو الظاهر لما في خبر ابن عمر أن محلما بن جثامة لما رجع جاء النبي صلى الله عليه وسلم في بردين فجلس بين يديه عليه الصلاة والسلام ليستغفر له فقال: لا غفر الله تعالى لك، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه فما مضت ساعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن الله تعالى أراد أن يعظكم، ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة، فإن الذي يميل القلب إليه اتحاد القصة، واعترض على القول بعدم الوعيد بأ قوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ بما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} يستفاد منه الوعيد أي أنه سبحانه لم يزل ولا يزال بكل ما تعملونه من الأعمال الظاهرة والخفية وبكيفياتها، ويدخل في ذلك التثبيت وتركه دخولًا أوليًا مطلع أتم اطلاع فيجازيكم بحسب ذلك إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، والجملة تعليل بطريق الاستئناف، وقرئ بفتح {ءانٍ} على أنه معمول لتبينوا أو على حذف لام التعليل..تفسير الآية رقم (95): {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)}{لاَّ يَسْتَوِى القاعدون} شروع في الحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه وليرغبوا عما يوجب خللًا فيه، والمراد بالقاعدين الذين أذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاءًا بغيرهم، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هم القاعدون عن بدر؛ وهو الظاهر الموافق للتاريخ على ما قيل، وقال أبو حمزة: إنهم المتخلفون عن تبوك، وروي أن الآية نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف والربيع وهلال بن أمية من بني واقف حين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة. {مِنَ المؤمنين} حال من القاعدين، وجوز أن يكون من الضمير المستتر فيه، وفائدة ذلك الإيذان من أول الأمر بأن القعود عن الجهاد لا يقعد بهم عن الإيمان، والإشعار بعلة استحقاقهم لما سيأتي من الحسنى أي لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد حال كونهم كائنين من المؤمنين {غَيْرُ أُوْلِى الضرر} بالرفع على أنه صفة للقاعدون وهو إن كان معرفة، و{غَيْرِ} لا تتعرف في مثل هذا الموضع لكنه غير مقصود منه قاعدون بعينهم بل الجنس، فأشبه الجنس فصح وصفه بها، وزعم عصام الدين إن {غَيْرِ} هنا معرفة، و{غَيْرُ أُوْلِى الضرر} عنى لا ضرر له. ونقل عن الرضي وبه ضعف ما تقدم أن المعرف باللام المبهم وإن كان في حكم النكرة لكنه لا يوصف بما توصف به النكرة، بل يتعين أن تكون صفته جملة فعلية فعلها مضارع كما في قوله:واستحسن بعضهم جعله بدلًا من {القاعدون} لأن أل فيه موصولة، والمعروف إرادة الجنس في المعرف بالألف واللام، وبينهما فرق، وجوز الزجاج الرفع على الاستثناء، وتبعه الواحدي فيه، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على أنه حال، وهو نكرة لا معرفة، أو على الاستثناء ظهر إعراب ما بعده عليه، وقرئ بالجر على أنه صفة للمؤمنين، أو بدل منه وكون النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة أكثري لاكلي، والضرر المرض والعلل التي لا سبيل معها إلى الجهاد، وفي معناها أو هو داخل فيها العجز عن الأهبة، وقد نزلت الآية وليس فيها {غَيْرُ أُوْلِى الضرر} ثم نزل بعد، فقد روى مالك عن الزهري عن خارجة بن زيد قال: قال زيد بن ثابت: «كنت أكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم في كتف لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون وابن أم مكتوم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد أنزل الله تعالى في فضل الجهاد ما أنزل وأنا رجل ضرير فهل لي من رخصة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أدري قال زيد: وقلمي رطب ما جف حتى غشي النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ووقع فخذه على فخذي حتى كادت تدق من ثقل الوحي، ثم جلى عنه، فقال لي: أكتب يا زيد {غَيْرُ أُوْلِى الضرر}».{والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله} في منهاج دينه {بأموالهم} إنفاقًا فيما يوهن كيد الأعداء {وَأَنفُسِهِمْ} حملًا لها على الكفاح عند اللقاء، وكلا الجارين متعلق بالمجاهدون وأوردوا بهذا العنوان دون عنوان الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه، وقيده بما قيده مدحًا لهم وإشعارًا بعلة استحقاقهم لعلو المرتبة مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود كما قيل، وقيل: إنما أوردوا بعنوان الجهاد إشعارًا بأن القعود كان عنه ولكن ترك التصريح به هناك رعاية لهم في الجملة، وقدم {القاعدون} على المجاهدين ولم يؤخر عنهم ليتصل التصريح بتفضيلهم بهم، وقيل: للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء من جهة القاعدين لا من جهة مقابليهم، فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانًا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد، لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر، وعليه قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور [الرعد؛ 16] إلى غير ذلك، وأما قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته ملكة لصلة المفضول. وأنت تعلم أنه لا تزاحم في النكات وأنه قد يكون في شيء واحد جهة تقديم وجهة تأخير، فتعتبر هذه تارة وتلك أخرى، وإنما قدم سبحانه وتعالى هنا ذكر الأموال على الأنفس وعكس في قوله عز شأنه: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم} [التوبة: 111] لأن النفس أشرف من المال فقدم المشتري النفس تنبيهًا على أن الرغبة فيها أشد وأخر البائع تنبيهًا على أن المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها إلا في فائدة.وعلى ذلك النمط جاء أيضًا قوله تعالى: {فَضَّلَ الله المجاهدين} في سبيله {بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين} من المؤمنين غير أولي الضرر {دَرَجَةً} لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها، وهذا تصريح بما أفهمه نفي المساواة فإنه يستلزم التفضيل إلى أنه لم يكتف بما فهم اعتناءًا به وليتمكن أشدّ تمكن، ولكون الجملة مبينة وموضحة لما تقدم لم تعطف عليه، وجوز أن تكون جواب سؤال ينساقه إليه المقال كأنه قيل: كيف وقع ذلك التفضيل؟ فقيل: فضل الله إلخ، واللام كما أشرنا إليه في الجمعين للعهد ولا يأباه كون مدخولها وصفًا كما قيل إذ كثيرًا ما ترد أل فيه للتعريف كما صرح به النحاة، و{درجة} منصوب على المصدر لتضمنها التفضيل لأنها المنزلة والمرتبة وهي تكون في الترقي والفضل، فوقعت موقع المصدر كأنه قيل: فضلهم تفضيلة، وذلك مثل قولهم: ضربته سوطًا أي ضربة، وقيل: على الحال أي ذوي درجة، وقيل: على التمييز، وقيل: على تقدير حذف الجار أي بدرجة، وقيل: هو واقع موقع الظرف أي في درجة ومنزلة، وقوله تعالى: {وَكُلًا} مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإفادة القصر تأكيدًا للوعد، وتنوينه عوض عن المضاف إليه أي كل واحد من الفريقين المجاهدين والقاعدين {وَعَدَ الله} المثوبة {الحسنى} وهي الجنة كما قال قتادة وغيره لا أحدهما فقط، وقرأ الحسن وكل بالرفع على الابتداء، فالفعول الأول وهو العائد في جملة الخبر محذوف أي وعده، وكأن التزام النصب في المتواترة لأن قبله جملة فعلية وبذلك خالف ما في الحديد و{الحسنى} على القراءتين هو المفعول الثاني، والجملة اعتراض جيء به تداركًا لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول.وقوله سبحانه: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين} عطف على ما قبله، وأغنت أل عن ذكر ما ترك على سبيل التدريج من القيود، وإنما لم يعتبر التدريج في ترك ما ذكر مع القاعدين أولًا بأن يترك من المؤمنين فقط، ويذكر {غَيْرُ أُوْلِى الضرر} في الآية الأولى ويتركهما معًا في الآية الثانية، بل تركهما دفعة واحدة عند أول قصد التدريج قيل: لأن قيد {غَيْرُ أُوْلِى الضرر} كان بعد السؤال كما يشير إليه سبب النزول. وفي بعض أخباره أن ابن أم مكتوم لما نزلت الآية جعل يقول: أي رب أين عذري أي رب أين عذري؟؟ فنزل ذلك فانسدت باب الحاجة إليه، وقنع السائل بذكره مرة فأسقط مع ما معه الساقط لذلك القصد دفعة، ولا كذلك ما ذكر مع المجاهدين، فإن الإيتان به كان عن محض الفضل والامتنان من غير سابقة سؤال فلما فتحت باب الإسقاط اعتبر فيه التدريج فرقًا بين المقامين، وقوله تعالى: {أَجْرًا عَظِيمًا} مصدر مؤكد لفضل وهو وإن كان عنى أعطى الفضل وهو أعم من الأجر لأنه ما يكون في مقابلة أمر لكن أريد به هنا الأخص لأنه في مقابلة الجهاد، ويجوز أن يبقى على معناه، و{أَجْرًا} مفعول به ولتضمنه معنى الإعطاء نصب المفعول أي أعطاهم زيادة على القاعدين أجرًا عظيمًا، وقيل: هو منصوب بنزع الخافض أي فضلهم بأجر. وجعله صفة لقوله تعالى:
|