الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (92): {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}{لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} كلام مستأنف لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم إثر بيان ما لا ينفع الكفار ولا يقبل منهم، وتنال من نال نيلًا إذا أصاب ووجد، ويقال: نال العلم إذا وصل إليه واتصف به، والبر الاحسان وكمال الخير، وبعضهم يفرق بينه وبين الخير بأن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك، والخير هو النفع مطلقًا وإن وقع سهوًا، وضد البر العقوق، وضد الخير الشر، وأل فيه إما للجنس والحقيقة، والمراد لن تكونوا أبرارًا حتى تنفقوا وهو المروي عن الحسن، وإنا لتعريف العهد، والمراد لن تصيبوا بر الله تعالى يا أهل طاعته حتى تنفقوا، وإلى ذلك ذهب مقاتل وعطاء. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه تفسير البر بالجنة، وروي مثله عن مسروق والسدي وعمرو بن ميمون، وذهب بعضهم إلى أن الكلام على حذف مضاف أي لن تنالوا ثواب البر، وحتى عنى إلى، ومن تبعيضية، ويؤيده قراءة عبد الله {بعض ما تحبون}، وقيل: بيانية، وعليه أيضًا لا تخالف بين القراءتين معنى، وما موصولة أو موصوفة، وجعلها مصدرية والمصدر عنى المفعول جائز على رأي أبي علي. وفي المراد من قوله سبحانه: {مِمَّا تُحِبُّونَ} أقوال، فقيل المال وكنى بذلك عنه لأن جميع الناس يحبونه، وقيل: نفائس الأموال وكرائمها، وقيل: ما يعم ذلك وغيره من سائر الأشياء التي يحبها الإنسان ويهواها، والإنفاق على هذا مجاز، وعلى الأولين حقيقة.وكان السلف رضي الله تعالى عنهم إذا أحبوا شيئًا جعلوه لله تعالى، فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلًا بالمدينة وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قال أبو طلحة: يا رسول الله إن الله تعالى يقول: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه» وفي رواية لمسلم وأبي داود «فجعلها بين حسان بن ثابت وأُبي بن كعب». وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن محمد بن المنكدر قال: «لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال: هي صدقة فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل عليها ابنه أسامة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في وجه زيد فقال: إن الله تعالى قد قبلها منك».وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال: «حضرتني هذه الآية {لَن تَنَالُواْ البر} إلخ فذكرت ما أعطاني الله تعالى فلم أجد أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله تعالى فلو أني أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها فأنكحتها نافعًا، وأخرج ابن المنذر عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يشتري السكر يتصدق به فنقول له: لو اشتريت لهم بثمنه طعامًا كان أنفع لهم من هذا فيقول: أنا أعرف الذي تقولون ولكن سمعت الله تعالى يقول: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وأن ابن عمر يحب السكر.وظاهر هذه الأخبار يدل على أن الإنفاق في الآية يعم المستحب، وروي عن ابن عباس أن المراد به إخراج الزكاة الواجبة وما فرضه الله تعالى في الأموال فكأنه قيل: لن تنالوا البر حتى تخرجوا زكاة أموالكم وهو مبني على أن المراد من ما تحبون المال لا كرائمه، فقول النيسابوري: إنه يرد عليه أنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها، ناشيء من قلة التأمل، ولو تأمل ما اعترض على ترجمان القرآن وحبر الأمة، ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي أن الآية منسوخة بآية الزكاة، وضعف بأن إيجاب الزكاة لا ينافي الترغيب في بذل المحبوب في سبيل الله تعالى، واستشكلت هذه الآية بأن ظاهرها يستدعي أن الفقير الذي لم ينفق طول عمره مما يحبه لعدم إمكانه لا يكون بارًا أو لا يناله برّ الله تعالى بأهل طاعته مع أنه ليس كذلك، وأجيب بأن الكلام خارج مخرج الحث على الإنفاق وهو مقيد بالإمكان وإنما أطلق على سبيل المبالغة في الترغيب، وقيل: الأولى أن يكون المراد: لن تنالوا البر الكامل الواقع على أشرف الوجوه حتى تنفقوا مما تحبون والفقير الذي لم ينفق طول عمره لا يبعد القول بأنه لا يكون بارًا كاملًا ولا يناله برّ الله تعالى الكامل بأهل طاعته، وقيل: الأولى من هذا الأولى أن يقال: إن المراد: لن تنالوا البر على الإنفاق حتى تنفقوا مما تحبون وحاصله أن الإنفاق من المحبوب يترتب عليه نيل البر وأن الإنفاق مما عداه لا يترتب عليه نيل البر، وليس في الآية ما يدل على حصر ترتب البر على الإنفاق من المحبوب، ونفي ترتب البر على فعل آخر من الأفعال المأمور بها، وحينئذ لا يبعد أن يكون الفقير الغير المنفق بارًا أو نائلًا برّ الله تعالى بأهل طاعته من جهة أخرى، ورا تستدعي أفعاله الخالية عن إنفاق المال من البرّ ما هو أكمل وأوفر مما يستدعيه الإنفاق المجرد منه؛ وينجر الكلام إلى مسألة تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر، وهي مسألة طويلة الذيل قد ألفت فيها الرسائل {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْء} أي أي شيء تنفقونه من الأشياء، أو أى شيء تنفقوا طيب تحبونه، أو خبيث تكرهونه فمن على الأول متعلقة حذوف وقع صفة لاسم الشرط، وعلى الثاني في محل نصب على التمييز {فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} تعليل لجواب الشرط واقع موقعه أي فيجازيكم يحسبه فإنه تعالى عليم بكل ما تنفقونه، وقيل: إنه جواب الشرط، والمراد أن الله تعالى يعلمه موجودًا على الحدّ الذي تفعلونه من حسن النية وقبحها، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل، وفي الآية ترغيب وترهيب قيل: وفيها إشارة إلى الحث على إخفاء الصدقة..تفسير الآية رقم (93): {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)}{كُلُّ الطعام كَانَ حِلًا لّبَنِى إسراءيل} روى الواحدي عن الكلبي أنه حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا على ملة إبراهيم قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كان ذلك حلالًا لإبراهيم عليه السلام فنحن نحله فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرمًا على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبًا لهم» والطعام عنى المطعوم، ويراد به هنا المطعومات مطلقًا أو المأكولات وهو لكونه مصدرًا منعوتًا به معنى يستوي فيه الواحد المذكور وغيره وهو الأصل المطرد فلا ينافيه قول الرضيّ: إنه يقال: رجل عدل ورجلان عدلان لأنه رعاية لجانب المعنى، وذكر بعضهم أن هذا التأويل يجعل كلا للتأكيد لأن الاستغراق شأن الجمع المعرف باللام، والحل مصدر أيضًا أريد منه حلالًا، والمراد الإخبار عن أكل الطعام بكونه حلالًا لا نفس الطعام لأن الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات ولا يقدر نحو الانفاق وإن صح أن يكون متعلق الحل ورا توهم بقرينة ما قبله لأنه خلاف الغرض المسوق له الكلام. و{إسراءيل} هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام، وعن أبي مجلز أن ملكًا سماه بذلك بعد أن صرعه وضرب على فخذه.{إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ} قال مجاهد: حرم لحوم الأنعام، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه حرم زائدتي الكبد والكليتين والشحم إلا ما كان على الظهر، وعن عطاء أنه حرم لحوم الإبل وألبانها. وسبب تحريم ذلك كما في الحديث الذي أخرجه الحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحب إليه، وفي رواية سعيد بن جبير عنه أنه كان به ذلك الداء فأكل من لحوم الإبل فبات بليلة يزقو فحلف أن لا يأكله أبدًا، وقيل: حرمه على نفسه تعبدًا وسأل الله تعالى أن يجيز له فحرم سبحانه على ولده ذلك، ونسب هذا إلى الحسن، وقيل: إنه حرمه وكف نفسه عنه كما يحرم المستظهر في دينه من الزهاد اللذائذ على نفسه. وذهب كثير إلى أن التحريم كان بنص ورد عليه، وقال بعض: كان ذلك عن اجتهاد ويؤيده ظاهر النظم، وبه استدل على جوازه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والاستثناء متصل لأن المراد على كل تقدير أنه حرمه على نفسه وعلى أولاده، وقيل: منقطع، والتقدير ولكن حرم إسرائيل على نفسه خاصة ولم يحرمه عليهم وصحح الأول.{مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ} الظاهر أنه متعلق بقوله تعالى: {الطعام كَانَ حِلًا} ولا يضر الفصل بالاستثناء إذ هو فصل جائز، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن في جواز أن يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفًا أو جارًا ومجرورًا أو حالًا، وقيل: متعلق بحرم، وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ هو من الإخبار بالواضح المعلوم ضرورة ولا فائدة فيه، واعتذر عنه بأن فائدة ذلك بيان أن التحريم مقدم عليها وأن التوراة مشتملة على محرمات أخر حدثت عليهم حرجًا وتضييقًا، واختار بعضهم أنه متعلق حذوف، والتقدير: كان حلا من قبل أن تنزل التوراة في جواب سؤال نشأ من سابق المستثنى كأنه قيل: متى كان حلًا؟ فأجيب به والذي دعاه إلى ذلك عدم ظهور فائدة تقييد التحريم ولزوم قصر الصفة قبل تمامها على تقدير جعله قيدًا للحل.ولا يخفى ما فيه، والمعنى على الظاهر أن كل الطعام ما عدا المستثنى كان حلالًا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم، وفي ذلك رد لليهود في دعواهم البراءة فيما نعى عليهم قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 160] وقوله سبحانه: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا} [الأنعام: 146] الآيتين، وتبكيت لهم في منع النسخ ضرورة أن تحريم ما كان حلالًا لا يكون إلا به ودفع الطعن في دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم موافقته لأبيه إبراهيم عليه السلام على ما دل عليه سبب النزول. وذهب السدي إلى أنه لم يحرم عليهم عند نزول التوراة إلا ما كان يحرمونه قبل نزولها اقتداءًا بأبيهم يعقوب عليه السلام، وقال الكلبي: لم يحرم سبحانه عليهم ما حرم في التوراة، وإنما حرمه بعدها بظلمهم وكفرهم، فقد كانت بنو إسرائيل إذا أصابت ذنبًا عظيمًا حرم الله تعالى عليهم طعامًا طيبًا وصب عليهم رجزًا، وعن الضحاك أنه لم يحرم الله تعالى عليهم شيئًا من ذلك في التوراة ولا بعدها، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم اتباعًا لأبيهم وإضافة تحريمه إلى الله تعالى مجاز وهذا في غاية البعد.{قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها} أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم الناطق بصحة ما يقول في أمر التحليل والتحريم وإظهار اسم التوراة لكون الجملة كلامًا مع اليهود منقطعًا عما قبله، وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في دعواكم شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها، روي أنهم لم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا وألقموا حجرًا. وفي ذلك دليل ظاهر على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم إذ علم بأن ما في التوراة يدل على كذبهم وهو لم يقرأها ولا غيرها من زبر الأولين ومثله لا يكون إلا عن وحي..تفسير الآية رقم (94): {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)}{فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} أي اخترع ذلك بزعمه أن التحريم كان على الأنبياء وأممهم قبل نزول التوراة فمن عبارة عن أولئك اليهود، ويحتمل أن تكون عامة ويدخلون حينئذٍ دخولًا أوليًا، وأصل الافتراء قطع الأديم يقال: فرى الأديم يفريه فريًا إذا قطعه، واستعمل في الابتداع والاختلاق، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة وأن تكون منصوبة المحل معطوفة على جملة {فَاتُواْ} [آل عمران: 93] فتدخل تحت القول، ومن يجوز أن تكون شرطية وأن تكون موصولة وقد روعي لفظها ومعناها.{مِن بَعْدِ ذلك} أي أمرهم بما ذكر وما يترتب عليه من قيام الحجة وظهور البينة. {فَأُوْلَئِكَ} أي المفترون المبعدون عن عز القرب {هُمُ الظالمون} لأنفسهم بفعل ما أوجب العقاب عليهم، وقيل: هم الظالمون لأنفسهم بذلك ولأشياعهم بإضلالهم لهم بسبب إصرارهم على الباطل وعدم تصديقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قيد بالبعدية مع أنه يستحق الوعيد بالكذب على الله تعالى في كل وقت وفي كل حال للدلالة على كمال القبح، وقيل: لبيان أنه إنما يؤاخذ به بعد إقامة الحجة عليه ومن كذب فيما ليس حجوج فيه فهو نزلة الصبي الذي لا يستحق الوعيد بكذبه وفيه تأمل، ثم مناسبة هذه الآية لما قبلها أن الأكل إنفاق مما يحب لكن على نفسه وإلى ذلك أشار علي بن عيسى، وقيل: إنه لما تقدم محاجتهم في ملة إبراهيم عليه السلام وكان مما أنكروا على نبينا صلى الله عليه وسلم أكل لحوم الإبل وادعوا أنه خلاف ملة إبراهيم ناسب أن يذكر رد دعواهم ذلك عقيب تلك المحاجة.
|