الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآيات (179- 180): {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بما آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}{مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} كلام مستأنف مسوق لوعد المؤمنين ووعيد المنافقين بالعقوبة الدنيوية وهي الفضيحة والخزي إثر بيان عقوبتهم الأخروية، وقدم بيان ذلك لأنه أمس بالإملاء لازدياد الآثام، وفي هذا الوعد والوعيد أيضًا ما لا يخفى من التسلية له صلى الله عليه وسلم كما في الكلام السابق، وقيل: الآية مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم، ولا يخفى أنه بعيد فضلًا عن كونه أقرب، والمراد من المؤمنين المخلصون والخطاب على ما يقتضيه الذوق لعامة المخلصين والمنافقين ففيه التفات في ضمن التلوين، والمراد بما هم عليه اختلاط بعضهم ببعض واستواؤهم في إجراء أحكام الإسلام عليهم، وإلى هذا جنح المحققون من أهل التفسير، وقال أكثرهم: إن الخطاب للمنافقين ليس إلا ففيه تلوين فقط، وذهب أكثر أهل المعاني إلى أنه للمؤمنين خاصة ففيه تلوين والتفات أيضًا.وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس وابن جرير وغيره عن قتادة أنه للكفار، ولعل المراد بهم المنافقون وإلا فهو بعيد جدًا، واللام في {لِيَذَرَ} متعلقة حذوف هو الخبر لكان، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها كما ذهب إليه البصريون أي ما كان الله مريدًا لأن يذر المؤمنين إلخ؛ وقال الكوفيون اللام مزيدة للتأكيد وناصبة للفعل بنفسها والخبر هو الفعل؛ ولا يقدح في عملها زيادتها إذ الزائد قد يعمل كما في حروف الجر المزيدة فلا ضعف في مذهبهم من هذه الحيثية كما وهم، وأصل يذر يوذر فحذفت الواو منها تشبيهًا لها بيدع وليس لحذفها علة هناك إذ لم تقع بين ياء وكسرة ولا ما هو في تقدير الكسرة بخلاف يدع فإن الأصل يودع فحذفت الواو لوقوعها بين الياء وما هو في تقدير الكسرة، وإنما فتحت الدال لأن لامه حرف حلقي فيفتح له ما قبله ومثله يسع ويطأ ويقع ولم يستعملوا من يذر ماضيًا ولا مصدرًا ولا اسم فاعل مثلًا استغناءًا بتصرف مرادفه وهو يترك.وقوله تعالى: {حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب} غاية لما يفهمه النفي السابق كأنه قيل: ما يتركهم على ذلك الإختلاط بل يقدر الأمور ويرتب الأسباب حتى يعزل المنافق من المؤمن وليس غاية للكلام السابق نفسه إذ يصير المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية، ويفهم منه كما قال السمين: إنه إذا وجدت الغاية ترك المؤمنين ما أنتم عليه، وليس المعنى على ذلك وعبر عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيلًا على كل منهما بما يليق به وإشعارًا بعلة الحكم، وأفرد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل إيذانًا بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما، وتعليق الميز بالخبيث مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان وإن ظهر مزيد إخلاصهم لا بالتصرف فيهم وتغييرهم من حال إلى حال مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار وإنما لم ينسب عدم الترك إليهم لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة كما يشهد به الذوق السليم قاله بعض المحققين، وقيل: إنما قدم الخبيث على الطيب وعلق به فعل الميز إشعارًا زيد رداءة ذلك الجنس فإن الملقى من الشيئين هو الأدون.وقرأ حمزة والكسائي {يَمِيزَ} بالتشديد وماضيه ميز، وماضي المخفف ماز، وهما كما قال غير واحد لغتان عنى واحد، وليس التضعيف لتعدي الفعل كما في فرح وفرح، لأن ما زوميز يتعديان إلى مفعول واحد، ونظير ذلك عاض وعوض، وعن ابن كثير أنه قرئ {يَمِيزَ} بضم أوله مع التخفيف على أنه من أماز عنى ميز، واختلف يحصل هذا الميز؟ فقيل: بالمحن والمصائب كما وقع يوم أحد، وقيل: بإعلاء كلمة الدين وكسر شوكة المخالفين، وقيل: بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا أردفه سبحانه بقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء} ومن هنا جعل مولانا شيخ الإسلام ما قبل الاستدراك تمهيدًا لبيان الميز الموعود به على طريق تجريد الخطاب للمخلصين تشريفًا لهم، والاستدراك إشارة إلى كيفية وقوعه على سبيل الإجمال وأن المعنى ما كان الله ليترك المخلصين على الاختلاط بالمنافقين بل يرتب المبادي حتى يخرج المنافقين من بينهم، وما يفعل ذلك بإطلاعكم على ما في قلوبهم من الكفر والنفاق ولكنه تعالى يوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيخبره بذلك وا ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسا حكي عنهم بعضه فيما سلف فيفضحهم على رؤوس الأشهاد ويخلصكم مما تكرهون، وذكر أنه قد جوز أن يكون المعنى لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله تعالى قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل الله تعالى، فيجعل ذلك عيارًا على عقائدكم وشاهدًا بضمائركم حتى يعلم بعضكم بما في قلب بعض بطريق الاستدلال لا من جهة الوقوف على ذات الصدور، فإن ذلك مما استأثر الله تعالى به، وتعقبه بأن الاستدراك باجتباء الرسل المنبئ عن مزيد مزيتهم وفضل معرفتهم على الخلق إثر بيان قصور رتبتهم عن الوقوف على خفايا السرائر صريح في أن المراد إظهار تلك السرائر بطريق الوحي لا بطريق التكليف بما يؤدي إلى خروج أسرارهم عن رتبة الخفاء.وأنت تعلم أن دعوى أن الاستدراك صريح فيما ادعاه من المراد مما لا يكاد يثبته الدليل، ولهذا قيل: إن حاصل المعنى ليس لكم رتبة الاطلاع على الغيب وإنما لكم رتبة العلم الاستدلالي الحاصل من نصب العلامات والأدلة، والله تعالى سيمنحكم بذلك فلا تطمعوا في غيره فإن رتبة الاطلاع على الغيب لمن شاء من رسله، وأين أنتم من أولئك المصطفين الأخيار؟ نعم ما ذكره هذا المولى أظهر وأولى، وقد سبقه إليه أبو حيان، والمراد من قوله سبحانه: {لِيُطْلِعَكُمْ} إما ليؤتي أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب أو ليطلع جميعكم أي أنه تعالى لا يطلع جميعكم على ذلك بل يختص به من أراد، وأيد الأول بأن سبب النزول أكثر ملاءمة له. فقد أخرج ابن جرير عن السدي أن الكفرة قالوا إن كان محمد صادقًا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فنزلت. ونقل الواحدي عن السدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عرضت على أمتي في صورها كما عرضت عليَّ آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ ذلك المنافقين فاستهزءوا قالوا: يزعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال الكلبي: قالت قريش: تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار والله تعالى عليه غضبان وأن من تبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله تعالى عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأيد الثاني بأن ظاهر السوق يقتضيه قيل: والحق اتباع السوق ويكفي أدنى مناسبة بالقصة في كونها سببًا للنزول على أن في سند هذه الآثار مقالًا حتى قال بعض الحفاظ في بعضها: إني لم أقف عليه، وقد روي عن أبي العالية ما يخالفها وهو أن المؤمنين سئلوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق فنزلت، والاجتباء الاستخلاص كما روي عن أبي مالك ويؤول إلى الاصطفاء والاختيار وهو المشهور في تفسيره، ويقال جبوت المال وجبيته بالواو والياء فياء يجتبي هنا إما على أصلها أو منقلبة من واو لانكسار ما قبلها، وعبر به للإيذان بأن الوقوف على الأسرار الغيبية لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل تقاصرت عنه همم الأمم واصطفاه على الجماهير لارشادهم. و{مِنْ} لابتداء الغاية وتعميم الاجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدلالة على أن شأنه عليه الصلاة والسلام في هذا الباب أمر متين له أصل أصيل جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم.وقيل: إنها للتبعيض فإن الاطلاع على المغيبات مختص ببعض الرسل، وفي بعض الأوقات حسا تقتضيه مشيئته تعالى ولا يخفى أن كون ذلك في بعض الأوقات مسلم، وأما كونه مختصًا ببعض الرسل ففي القلب منه شيء. ولعل الصواب خلافه ولا يشكل على هذا أن الله تعالى قد يطلع على الغيب بعض أهل الكشف ذوي الأنفس القدسية لأن ذلك بطريق الوراثة لا استقلالًا وهم يقولون: إن المختص بالرسل عليهم السلام هو الثاني على أنه إذا كان المراد ما أيده السوق بعد هذا الاستشكال وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة ومثله على ما قيل ما في قوله تعالى: {مَّا كَانَ الله} والمراد آمنوا بصفة ازخلاص فلا يضر كون الخطاب عامًا للمنافقين وهم مؤمنون ظاهرًا. وتعميم الأمر مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل لأنه صلى الله عليه وسلم مصدق لما بين يديه من الرسل وهم شهداء بصحة نبوته، والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولًا أوليًا، وقد يقال: إن المراد من الإيمان بالله تعالى أن يعلموه وحده مطلعًا على الغيب. ومن الإيمان برسله أن يعلموهم عبادًا مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى ولا يقولون إلا ما يوحي إليهم في أمر الشرائع، وكون المراد من الإيمان بالله تعالى الإيمان بأنه سبحانه وتعالى لا يترك المخلصين على الاختلاط حتى يميز الخبيث من الطيب بنصب العلامات وتحصيل العلم الاستدلالي عرفة المؤمن والمنافق. ومن الإيمان برسله الإيمان بأنهم المترشحون للاطلاع على الغيب لا غيرهم بعيد كما لا يخفى.{وَإِن تُؤْمِنُواْ} أي بالله تعالى ورسله حق الإيمان {وَتَتَّقُواْ} المخالفة في الأمر والنهي أو تتقوا النفاق {فَلَكُمْ} قابلة ذلك فضلًا من الله تعالى: {أَجْرٌ عَظِيمٌ} لا يكتنه ولا يحد في الدنيا والآخرة.{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بما ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ} بيان لحال البخل وسوء عاقبته وتخطئة لأهله في دعواهم خيريته حسب بيان حال الإملاء وبهذا ترتبط الآية بما قبلها. وقيل: وجه الارتباط أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد وغيره شرع هاهنا في التحريض على بذل المال وبين الوعيد الشديد لمن يبخل وإيراد ما بخلوا به بعنوان إيتاء الله تعالى إياه من فضله للمبالغة في بيان سوء صنيعهم فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله سبحانه وفعل الحسبان مسند إلى الموصول والمفعول الأول محذوف لدلالة الصلة عليه.واعترض بأن المفعول في هذا الباب مطلوب من جهتين من جهة العامل فيه ومن جهة كونه أحد جزأي الجملة فلما تكرر طلبه امتنع حذفه ونقض ذلك بخبر كان فإنه مطلوب من جهتين أيضًا ولا خلاف في جواز حذفه إذا دل عليه دليل.ونقل الطيبي عن صاحب الكشاف أن حذف أحد مفعولي حسب إنما يجوز إذا كان فاعل حسب ومفعولاه شيئًا واحدًا في المعنى كقوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أمواتا} [آل عمران: 169] على القراءة بالياء التحتية، ثم قال: وهذه الآية ليست كذلك فلابد من التأويل بأن يقال: إن {الذين يبخلون} الفاعل لما اشتمل على البخل كان في حكم اتحاد الفاعل والمفعول ولذلك حذف، وقيل: إن الزمخشري كنى عن قوة القرينة بالاتحاد الذي ذكره وكلا القولين ليسا بشيء، والصحيح أن مدار صحة الحذف القرينة فمتى وجدت جاز الحذف ومتى لم توجد لم يجز.والقول بأن هو ضمير رفع استعير في مكان المنصوب وهو راجع إلى البخل أو الايتاء على أنه مفعول أولًا تعسف جدًا لا يليق بالنظم الكريم وإن جوزه المولى عصام الدين تبعًا لأبي البقاء حتى قال في الدر المصون: إنه غلط، والصحيح أنه ضمير فصل بين مفعولي حسب لا توكيد للمظهر كما توهم، وقيل: الفعل مسند إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، أو ضمير من يحسب، والمفعول الأول هو الموصول بتقدير مضاف أي بخل الذين، والثاني {خَيْرًا} كما في الوجه الأول وهو خلاف الظاهر، نعم إنه متعين على قراءة الخطاب. وعلى كل تقدير يقدر بين الباء ومجرورها مضاف أي لا يحسبن، أو لا تحسبن الذين يبخلون بإنفاق أو زكاة ما آتاهم الله من فضله هو صفة حسنة أو خيرًا لهم من الانفاق.{بَلْ هُوَ شَرٌّ} عظيم {لَهُمْ} والتنصيص على ذلك مع علمه مما تقدم للمبالغة {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} بيان لكيفية شريته لهم، والسين مزيدة للتأكيد، والكلام عند الأكثرين إما محمول على ظاهره، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله تعالى مالاف فلم يؤد زكاته مُثّلَ له شجاع أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية» وأخرج غير واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما أعطاه الله تعالى إياه فيبخل عليه إلا خرج له يوم القيامة من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوّقه» ثم قرأ الآية. وأخرج عبد الرزاق وغيره عن إبراهيم النخعي أنه قال: يجعل ما بخلوا به طوقًا من نار في أعناقهم.وذهب بعضهم إلى أن الظاهر غير مراد، والمعنى كما قال مجاهد: سيكلفون أن يأتوا ثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يأتون، وقال أبو مسلم: سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق على أنه حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه للإيذان بكمال المناسبة بينهما، ومن أمثالهم تقلدها طوق الحمامة، وكيفما كان فالآية نزلت في مانعي الزكاة كما روي ذلك عن الصادق وابن مسعود والشعبي والسدي وخلق آخرين وهو الظاهر، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبوته التي نطقت بها التوراة، فالمراد بالبخل كتمان العلم وبالفضل التوراة التي أوتوها، ومعنى سيطوقون ما قاله أبو مسلم، أو المراد أنهم يطوّقون طوقًا من النار جزاء هذا الكتمان. فالآية حينئذ نظير قوله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» وعليه يكون هذا عودًا إلى ما انجرّ منه الكلام إلى قصة أحد، وذلك هو شرح أحوال أهل الكتاب قيل: ويعضده أن كثيرًا من آيات بقية السورة فيهم.{وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض} أي لله تعالى وحده لا لأحد غيره استقلالا أو اشتراكًا ما في السموات والأرض مما يتوارث من مال وغيره كالأحوال التي تنتقل من واحد إلى آخر كالرسالات التي يتوارثها أهل السماء مثلًا فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه لكه ولا ينفقونه في سبيله وابتغاء مرضاته، فالميراث مصدر كالميعاد وأصله موراث فقلبت الواو ياءًا لانكسار ما قبلها، والمراد به ما يتوارث، والكلام جار على حقيقته ولا مجاز فيه، ويجوز أنه تعالى يرث من هؤلاء ما في أيديهم مما بخلوا به وينتقل منهم إليه حين يهلكهم ويفنيهم وتبقى الحسرة والندامة عليهم، ففي الكلام على هذا مجاز قال الزجاج: أي إن الله تعالى يفني أهلهما فيبقيان بما فيهما ليس لأحد فيهما ملك فخوطبوا بما يعلمون لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثًا ملكًا له.{والله بما تَعْمَلُونَ} من المنع والبخل {خَبِيرٌ} فيجازيكم على ذلك، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والالتفات إلى الخطاب للمبالغة في الوعيد لأن تهديد العظيم بالمواجهة أشدّ وهي قراءة نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، وقرأ الباقون بالياء على الغيبة.
|