الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
مدنية في قول جميعهم. نزلت في المنافقين وإيذائهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعنهم فيه وفي مناكحته وغيرها. وهي ثلاث وسبعون آية. وكانت هذه السورة تعدل سورة البقرة. وكانت فيها آية الرجم: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم)؛ ذكره أبو بكر الأنباري عن أبي بن كعب. وهذا يحمله أهل العلم على أن الله تعالى رفع من الأحزاب إليه ما يزيد على ما في أيدينا، وأن آية الرجم رفع لفظها. وقد حدثنا أحمد بن الهيثم بن خالد قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تعدل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي آية، فلما كتب المصحف لم يقدر منها إلا على ما هي الآن. قال أبو بكر: فمعنى هذا من قول أم المؤمنين عائشة: أن الله تعالى رفع إليه من سورة الأحزاب ما يزيد على ما عندنا. قلت: هذا وجه من وجوه النسخ، وقد تقدم في }البقرة} القول فيه مستوفى والحمد لله. و روى زر قال قال لي أبي بن كعب: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت ثلاثا وسبعين آية؛ قال: فوالذي يحلف به أبي بن كعب إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول، ولقد قرأنا منها آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم. أراد أبي أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. وأما ما يحكى من أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليف الملاحدة والروافض. {يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما} قوله تعالى}يا أيها النبي اتق الله} ضمت }أي} لأنه نداء مفرد، والتنبيه لازم لها. و}النبي} نعت لأي عند النحويين؛ إلا الأخفش فإنه يقول: إنه صلة لأي. مكّي: ولا يعرف في كلام العرب اسم مفرد صلة لشيء. النحاس: وهو خطأ عند أكثر النحويين؛ لأن الصلة لا تكون إلا جملة، والاحتيال له فيما قال إنه لما كان نعتا لازما سمي صلة؛ وهكذا الكوفيون يسمون نعت النكرة صلة لها. ولا يجوز نصبه على الموضع عند أكثر النحويين. وأجازه المازنّي، جعله كقولك: يا زيد الظريف، بنصب }الظريف} على موضع زيد. مكّي: وهذا نعت يستغنى عنه، ونعت }أي} لا يستغنى عنه فلا يحسن نصبه على الموضع. وأيضا فإن نعت }أي} هو المنادى في المعنى فلا يحسن نصبه. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام اليهود: قريظة والنضير وبني قينقاع؛ وقد تابعه ناس منهم على النفاق، فكان يلين لهم جانبه؛ ويكرم صغيرهم وكبيرهم، وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه، وكان يسمع منهم؛ فنزلت. وقيل؛ إنها نزلت فيما ذكر الواحدي والقشيري والثعلبّي والماوردي وغيرهم في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان، نزلوا المدينة على عبدالله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين بعد أحد، وقد أعطاهم النبّي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر ابن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة، وقل إن لها شفاعة ومنعة لمن عبدها، وندعك وربك. فشق على النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا. فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي في قتلهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني قد أعطيتهم الأمان) فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من المدينة؛ فنزلت الآية. }يا أيها النبي اتق الله} أي خف الله. }ولا تطع الكافرين} من أهل مكة، يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة. }والمنافقين} من أهل المدينة، يعني عبدالله بن أبي وطعمة وعبدالله بن سعد بن أبي سرح فيما نهيت عنه، ولا تمل إليهم. }إن الله كان عليما} بكفرهم }حكيما} فيما يفعل بهم. الزمخشري: وروي أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمّي قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم في الموادعة التي كانت بينه وبينهم، وقام معهم عبدالله بن أبي ومعتب بن قشير والجّد بن قيس، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا. وذكر الخبر بمعنى ما تقدم. وأن الآية نزلت في نقض العهد ونبذ الموادعة. }ولا تطع الكافرين} من أهل مكة. }والمنافقين} من أهل المدينة فيما طلبوا إليك. وروي أن أهل مكة دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن دينه ويعطوه شطر أموالهم، ويزوجه شيبة بن ربيعة بنته، وخوفه منافقو المدينة أنهم يقتلونه إن لم يرجع؛ فنزلت. النحاس: ودل بقوله }إن الله كان عليما حكيما} على أنه كان يميل إليهم استدعاء لهم إلى الإسلام؛ أي لو علم الله عز وجل أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنه؛ لأنه حكيم. ثم قيل: الخطاب له ولأمته. {واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا، وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا} قوله تعالى}واتبع ما يوحى إليك من ربك} يعني القرآن. وفيه زجر عن اتباع مراسم الجاهلية، وأمر بجهادهم ومنابذتهم، وفيه دليل على ترك اتباع الآراء مع وجود النص. والخطاب له ولأمته. }إن الله كان بما تعملون خبيرا} قراءة العامة بتاء على الخطاب، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ السلمي وأبو عمرو وابن أبي إسحاق}يعملون} بالياء على الخبر؛ وكذلك في قوله {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} قال مجاهد: نزلت في رجل من قريش كان يدعى ذا القلبين من دهائه، وكان يقول: إن لي في جوفي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد. قال: وكان من فهر. الواحدي والقشيري وغيرهما: نزلت في جميل بن معمر الفهري، وكان رجلا حافظا لما يسمع. فقالت قريش: ما يحفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان. وكان يقول: لي قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد. فلما هزم المشركون يوم بدر ومعهم جميل بن معمر، رآه أبو سفيان في العير وهو معلق إحدى نعليه في يده والأخرى في رجله؛ فقال أبو سفيان: ما حال الناس؟ قال انهزموا. قال: فما بال إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك؟ قال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي؛ فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده. وقال السهيلّي: كان جميل بن معمر الجمحّي، وهو ابن معمر بن حبيب بن وهب ابن حذافة بن جمح، واسم جمح: تيم؛ وكان يدعى ذا القلبين فنزلت فيه الآية، وفيه يقول الشاعر: قلت: كذا قالوا جميل بن معمر. وقال الزمخشري: جميل بن أسد الفهري. وقال ابن عباس: سببها أن بعض المنافقين قال: إن محمدا له قلبان؛ لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول؛ فقالوا ذلك عنه فأكذبهم الله عز وجل. وقيل: نزلت في عبدالله بن خطل. وقال الزهري وابن حبان: نزل ذلك تمثيلا في زيد بن حارثة لما تبناه النبّي صلى الله عليه وسلم؛ فالمعنى: كما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا يكون ولد واحد لرجلين. قال النحاس: وهذا قول ضعيف لا يصح في اللغة، وهو من منقطعات الزهري، رواه معمر عنه. وقيل: هو مثل ضرب للمظاهر؛ أي كما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى تكون له أمان. وقيل: كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا، وقلب يأمرني بكذا؛ فالمنافق ذو قلبين؛ فالمقصود رد النفاق. وقيل: لا يجتمع الكفر والإيمان بالله تعالى في قلب، كما لا يجتمع قلبان في جوف؛ فالمعنى: لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب. ويظهر من الآية بجملتها نقي أشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت، وإعلام بحقيقة الأمر، والله أعلم. القلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة، خلقها الله تعالى في الآدمي وجعلها محلا للعلم، فيحصي به العبد من العلوم ما لا يسع في أسفار، يكتبه الله تعالى فيه بالخط الإلهّي، ويضبطه فيه بالحفظ الرباني، حتى يحصيه ولا ينسى منه شيئا. وهو بين لمتين: لمة من الملك، ولمة من الشيطان؛ كما قال صلى الله عليه وسلم. خرجه الترمذي؛ وقد مضى في }البقرة}. وهو محل الخطرات والوساوس ومكان الكفر والإيمان، وموضع الإصرار والإنابة، ومجرى الانزعاج والطمأنينة. والمعنى في الآية: أنه لا يجتمع في القلب الكفر والإيمان، والهدى والضلال، والإنابة والإصرار، وهذا نفي لكل ما توهمه أحد في ذلك من حقيقة أو مجاز، والله أعلم. أعلم الله عز وجل في هذه الآية أنه لا أحد بقلبين، ويكون في هذا طعن على المنافقين الذين تقدم ذكرهم؛ أي إنما هو قلب واحد، فإما فيه إيمان وإما فيه كفر؛ لأن درجة النفاق كأنها متوسطة، فنفاها الله تعالى وبين أنه قلب واحد. وعلى هذا النحو يستشهد الإنسان بهذه الآية، متى نسي شيئا أو وهم. يقول على جهة الاعتذار: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. قوله تعالى}وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم} يعني قول الرجل لامرأته: أنت علّي كظهر أمي. وذلك مذكور في سورة }المجادلة} على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى}وما جعل أدعياءكم أبناءكم} أجمع أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة. و روى الأئمة أن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت فوالله لا أدري وإني لسائل أغالك بعدي السهل أم غالك الجبل
فيا ليت شعري هل لك الدهر أوبة فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها وتعرض ذكراه إذا غربها أفل
وإن هـبت الأرياح هيجن ذكره فيا طول ما حزني عليه وما وجل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حياتيَ أو تأتي علي منيتي فكل امرئ فان وإن غره الأمل فأخبر أنه بمكة؛ فجاء إليه فهلك عنده. وروي أنه جاء فخيره النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا وانصرف. وسيأتي من ذكره وفضله وشرفه شفاء عند قوله {ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما} قوله تعالى}ادعوهم لآبائهم} نزلت في زيد بن حارثة، على ما تقّدم بيانه. وفي قول ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، دليل على أن التبني كان معمولا به في الجاهلية والإسلام، يتوارث به ويتناصر، إلى أن نسخ الله ذلك بقوله. }ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله} أي أعدل. فرفع الله حكم التبني ومنع من إطلاق لفظه، وأرشد بقوله إلى أن الأولى والأعدل أن ينسب الرجل إلى أبيه نسبا؛ فيقال: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه من الرجل جلده وظرفه ضمه إلى نفسه، وجعل له نصيب الذكر من أولاده من ميراثه، وكان ينسب إليه فيقال فلان بن فلان. وقال النحاس: هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من التبني، وهو من نسخ السنة بالقرآن؛ فأمر أن يدعوا من دعوا إلى أبيه المعروف، فإن لم يكن له أب معروف نسبوه إلى ولائه، فإن لم يكن له ولاء معروف قال له يا أخي؛ يعني في الدين، قال الله تعالى لو نسبه إنسان إلى أبيه من التبني فإن كان على جهة الخطأ، وهو أن يسبق لسانه إلى ذلك من غير قصد فلا إثم ولا مؤاخذة؛ لقوله تعالى }وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} وكذلك لو دعوت رجلا إلى غير أبيه وأنت ترى أنه أبوه فليس عليك بأس؛ قاله قتادة. ولا يجري هذا المجرى ما غلب عليه اسم التبني كالحال في المقداد بن عمرو فإنه كان غلب عليه نسب التبني، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود؛ فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية وعرف به. فلما نزلت الآية قال المقداد: أنا ابن عمرو؛ ومع ذلك فبقي الإطلاق عليه. ولم يسمع فيمن مضى من عصى مطلق ذلك عليه وإن كان متعمدا. وكذلك سالم مولى أبي حذيفة، كان يدعى لأبي حذيفة. وغير هؤلاء ممن تبني وانتسب لغير أبيه وشهر بذلك وغلب عليه. وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة؛ فإنه لا يجوز أن يقال فيه زيد بن محمد، فإن قاله أحد متعمدا عصى لقوله تعالى}ولكن ما تعمدت قلوبكم} أي فعليكم الجناح. والله أعلم. ولذلك قال بعده}وكان الله غفورا رحيما} أي }غفورا} للعمد، }رحيما} برفع إثم الخطأ. وقد قيل: إن قول الله تبارك وتعالى}وليس عليكم جناح فيما أخطأتم} مجمل؛ أي وليس عليكم جناح في شيء أخطأتم، وكانت فتيا عطاء وكثير من العلماء. على هذا إذا حلف رجل ألا يفارق غريمه حتى يستوفي منه حقه، فأخذ منه ما يرى أنه جيد من دنانير فوجدها زيوفا أنه لا شيء عليه. وكذلك عنده إذا حلف ألا يسلم على فلان فسلم عليه وهو لا يعرفه أنه لا يحنث؛ لأنه لم يتعمد ذلك. و}ما} في موضع خفض ردا على }ما} التي مع }أخطأتم}. ويجوز أن تكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ؛ والتقدير: ولكن الذي تؤاخذون به ما تعمدت قلوبكم. قال قتادة وغيره: من نسب رجلا إلى غير أبيه، وهو يرى أنه أبوه، خطأ فذلك من الذي رفع الله فيه الجناح. وقيل: هو أن يقول له في المخاطبة: يا بنّي؛ على غير تبن. قوله تعالى}ذلكم قولكم بأفواهكم} }بأفواهكم} تأكيد لبطلان القول؛ أي أنه قول لا حقيقة له في الوجود، إنما هو قول لسانّي فقط. وهذا كما تقول: أنا أمشي إليك على قدم؛ فإنما تريد بذلك المبرة. وهذا كثير. وقد تقّدم هذا المعنى في غير موضع. }والله يقول الحق} }الحق} نعت لمصدر محذوف؛ أي يقول القول الحق. }وهو يهدي السبيل} معناه يبين؛ فهو يتعدى بغير حرف جر. قوله تعالى}الأدعياء جمع دعي وهو الذي يدعي ابنا لغير أبيه أو يدعي غير أبيه والمصدر الدِّعوة بالكسر فأمر تعالى بدعاء الأدعياء إلى آبائهم للصلب فمن جهل ذلك فيه ولم تشتهر أنسابهم كان مولى وأخا في الدين وذكر الطبري أن أبا بكرة قرأ هذه الآية وقال أنا ممن لا يعرف أبوه فأنا أخوكم في الدين ومولاكم. قال الراوي عنه: ولو علم - والله - أن أباه حمارا لانتمى إليه ورجال الحديث يقولون في أبي بكرة نفيع بن الحارث. {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا} قوله تعالى}النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} هذه الآية أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام؛ منها: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: قلت: هذا قول حسن في معنى الآية وتفسيرها، والحديث الذي ذكر أخرجه مسلم في صحيحه قوله تعالى}وأزواجه أمهاتهم} شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين؛ أي في وجوب التعظيم والمبّرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات. وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات، ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني. وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس. وسيأتي عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آية التخيير إن شاء الله تعالى. واختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء أم أمهات الرجال خاصة؛ على قولين: فروى الشعبّي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها: يا أمة؛ فقالت لها: لست لك بأم، إنما أنا أم رجالكم. قال ابن العربي: وهو الصحيح. قلت: لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء؛ تعظيما لحقهن على الرجال والنساء. يدل عليه صدر الآية}النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة. ويدل على ذلك حديث أبي هريرة وجابر؛ فيكون قوله}وأزواجه أمهاتهم} عائدا إلى الجميع. ثم إن في مصحف أبي بن كعب }وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم}. وقرأ ابن عباس}من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم}. وهذا كله يوهن ما رواه مسروق إن صح من جهة الترجيح، وإن لم يصح فيسقط الاستدلال به في التخصيص، وبقينا على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم. والله أعلم. قوله تعالى}وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين} قيل: إنه أراد بالمؤمنين الأنصار، وبالمهاجرين قريشا. وفيه قولان: أحدهما: أنه ناسخ للتوارث بالهجرة. حكى سعيد عن قتادة قال: كان نزل في سورة الأنفال و قال قوم: لا يجوز أن يسمى النبي صلى الله عليه وسلم أبا لقوله تعالى قال قوم: لا يقال بناته أخوات المؤمنين، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم. قال الشافعّي رضي الله عنه: تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت عائشة، ولم يقل هي خالة المؤمنين. وأطلق قوم هذا وقالوا: معاوية خال المؤمنين؛ يعني في الحرمة لا في النسب. قوله تعالى}إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا} يريد الإحسان في الحياة، والوصية عند الموت؛ أي إن ذلك جائز؛ قاله قتادة والحسن وعطاء. وقال محمد ابن الحنفية، نزلت في إجازة الوصية لليهودّي والنصرانّي؛ أي يفعل هذا مع الولّي والقريب وإن كان كافرا؛ فالمشرك ولّي في النسب لا في الدين فيوصى له بوصية. واختلف العلماء هل يجعل الكافر وصيا؛ فجوز بعض ومنع بعض. ورد النظر إلى السلطان في ذلك بعض؛ منهم مالك رحمه الله تعالى. وذهب مجاهد وابن زيد والرماني إلى أن المعنى: إلى أوليائكم من المؤمنين. ولفظ الآية يعضد هذا المذهب، وتعميم الولّي أيضا حسن. وولاية النسب لا تدفع الكافر، وإنما تدفع أن يلقى إليه بالمودة كولّي الإسلام. }كان ذلك في الكتاب مسطورا} }الكتاب} يحتمل الوجهين المذكورين المتقدمين في }كتاب الله}. و}مسطورا} من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته أسطارا. وقال قتادة: أي مكتوبا عند الله عز وجل ألا يرث كافر مسلما. قال قتادة: وفي بعض القراءة }كان ذلك عند الله مكتوبا}. وقال القرظّي: كان ذلك في التوراة. {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} قوله تعالى}وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم} أي عهدهم على الوفاء بما حملوا، وأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضا؛ أي كان مسطورا حين كتب الله ما هو كائن، وحين أخذ الله تعالى المواثيق من الأنبياء. }ومنك} يا محمد }ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم} وإنما خص هؤلاء الخمسة وإن دخلوا في زمرة النبيين تفضيلا لهم. وقيل: لأنهم أصحاب الشرائع والكتب، وأولو العزم من الرسل وأئمة الأمم. ويحتمل أن يكون هذا تعظيما في قطع الولاية بين المسلمين والكافرين؛ أي هذا مما لم تختلف فيه الشرائع، أي شرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أي كان في ابتداء الإسلام توارث بالهجرة، والهجرة سبب متأكد في الديانة، ثم توارثوا بالقرابة مع الإيمان وهو سبب وكيد؛ فأما التوارث بين مؤمن وكافر فلم يكن في دين أحد من الأنبياء الذين أخذ عليهم المواثيق؛ فلا تداهنوا في الدين ولا تمالئوا الكفار. ونظيره} {ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما} قوله تعالى}ليسأل الصادقين عن صدقهم} فيه أربعة أوجه: أحدها: ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم؛ حكاه النقاش. وفي هذا تنبيه؛ أي إذا كان الأنبياء يسألون فكيف من سواهم. الثاني: ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم؛ حكاه علّي بن عيسى. الثالث: ليسأل الأنبياء عليهم السلام عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم؛ حكاه ابن شجرة. الرابع: ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة، وفي التنزيل} {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا} يعني غزوة الخندق والأحزاب وبني قريظة، وكانت حالا شديدة معقبة بنعمة ورخاء وغبطة، وتضمنت أحكاما كثيرة وآيات باهرات عزيزة، ونحن نذكر من ذلك بعون الله تعالى ما يكفي في عشر مسائل. الأولى: اختلف في أي سنة كانت؛ فقال ابن إسحاق: كانت في شوال من السنة الخامسة. وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك رحمه الله: كانت وقعة الخندق سنة أربع، وهي وبنو قريظة في يوم واحد، وبين بني قريظة والنضير أربع سنين. قال ابن وهب وسمعت مالكا يقول: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من المدينة، وذلك قوله تعالى} قلت: ففي هذا الذي ذكرناه من هذا الخبر من الفقه وهي: الثانية: فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا وأما ما كان فيه من الآيات وهي: الثالثة: ف" الرابعة: وممن قال ذلك: أوس بن قيظي. ومنهم من قال: يعدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط! وممن قال: معتب ابن قشير أحد بني عمرو بن عوف. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشتد على المسلمين البلاء بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري، وإلى الحارث بن عوف المري، وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلان قريشا ويرجعا بقومهما عنهم. وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا؛ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا أتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فقالا: يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ قال: (بل أمر أصنعه لكم، والله ما أصنعه إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة) فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم!! فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: (أنتم وذاك). وقال لعيينة والحارث: (انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف). وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة فمحاها.
الخامسة: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون على حالهم، والمشركون يحاصرونهم ولا قتال بينهم؛ إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود العامري من بني عامر بن لؤي، وعكرمة بن أبي جهل، وهبيرة بن أبي وهب، وضرار بن الخطاب الفهري، وكانوا فرسان قريش وشجعانهم، أقبلوا حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: إن هذه لمكيدة، ما كانت العرب تكيدها. ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمت بهم، وجاوزوا الخندق وصاروا بين الخندق وبين سلع، وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها، وأقبلت الفرسان نحوهم، وكان عمرو بن عبد ود أثبتته الجراح يوم بدر فلم يشهد أحدا، وأراد يوم الخندق أن يرى مكانه، فلما وقف هو وخيله؛ نادى: من يبارز؟ فبرز له علّي بن أبي طالب وقال له: يا عمرو، إنك عاهدت الله فيما بلغنا أنك لا تدعى إلى إحدى خلتين إلا أخذت إحداهما؟ قال نعم. قال: فإني أدعوك إلى الله والإسلام. قال: لا حاجة لي بذلك. قال: فأدعوك إلى البراز. قال: يا ابن أخي، والله ما أحب أن أقتلك لما كان بيني وبين أبيك. فقال له علّي: أنا والله أحب أن أقتلك. فحمي عمرو بن عبد ود ونزل عن فرسه، فعقره وصار نحو علّي، فتنازلا وتجاولا وثار النقع بينهما حتى حال دونهما، فما انجلى النقع حتى رئي علّي على صدر عمرو يقطع رأسه، فلما رأى أصحابه أنه قد قتله علّي اقتحموا بخيلهم الثغرة منهزمين هاربين. وقال علّي رضي الله عنه في ذلك:
نازلته فتركته متجدلا كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثواب ولو أنني كنت المقطر بزني أثوابي
لا تحسبن الله خاذل دينه ونبيه يا معشر الأحزاب (2) ووليت تعدو كعدو الظليم ما إن تجور عن المعدل
ولم تلق ظهرك مستأنسا كأن قفاك قفا فرعل قال ابن هشام: فرعل صغير الضباع. وكانت عائشة رضي الله عنها في حصن بني حارثة، وأم سعد بن معاذ معها، وعلى سعد درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه، وفي يده حربته وهو يقول:
ورمي يومئذ سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الأكحل. واختلف فيمن رماه؛ فقيل: رماه حبان بن قيس ابن العرقة، أحد بني عامر بن لؤي، فلما أصابه قال له: خذها وأنا ابن العرقة. فقال له سعد: عّرق الله وجهك في النار. وقيل: إن الذي رماه خفاجة بن عاصم بن حبان. وقيل: بل الذي رماه أبو أسامة الجشمّي، حليف بني مخزوم. ولحسان مع صفية بنت عبدالمطلب خبر طريف يومئذ؛ ذكره ابن إسحاق وغيره. قالت صفية بنت عبدالمطلب رضي الله عنها: كنا يوم الأحزاب في حصن حسان بن ثابت، وحسان معنا في النساء والصبيان، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحر العدّو لا يستطيعون الانصراف إلينا، فإذا يهودي يدور، فقلت لحسان: انزل إليه فاقتله؛ فقال: ما أنا بصاحب هذا يا ابنة عبدالمطلب! فأخذت عمودا ونزلت من الحصن فقتلته، فقلت: يا حسان، انزل فاسلبه، فلم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. فقال: ما لي بسلبه حاجة يا ابنة عبدالمطلب! قال: فنزلت فسلبته. قال أبو عمر بن عبدالبر: وقد أنكر هذا عن حسان جماعة من أهل السير وقالوا: لو كان في حسان من الجبن ما وصفتم لهجاه بذلك الذين كان يهاجيهم في الجاه السادسة: السابعة: فلما اتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمرهم، بعث حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم، فأتاهم واستتر في غمارهم، وسمع أبا سفيان يقول: يا معشر قريش، ليتعرف كل امرئ جليسه. قال حذيفة: فأخذت بيد جليسي وقلت: ومن أنت؟ فقال أنا فلان. ثم قال أبو سفيان: ويلكم يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، ولقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة، ولقينا من هذه الريح ما ترون، ما يستمسك لنا بناء، ولا تثبت لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، فارتحلوا فإني مرتحل؛ ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم. قال حذيفة: ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لي إذ بعثني، قال لي: (مر إلى القوم فاعلم ما هم عليه ولا تحدث شيئا) - لقتلته بسهم؛ ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رحيلهم، فوجدته قائما يصلي في مرط لبعض نسائه مراجل - قال ابن هشام: المراجل ضرب من وشي اليمن - فأخبرته فحمد الله (3) الثامنة: مناديا فنادى: لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة؛ فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة. وقال آخرون: لا نصلّي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنف واحدا من الفريقين. وفي هذا من الفقه تصويب المجتهدين. وقد مضى بيانه في }الأنبياء}. وكان سعد بن معاذ إذ أصابه السهم دعا ربه فقال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش فأبقني لها؛ فإنه لا قوم أحب أن أجاهدكم من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه. اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة. و روى ابن وهب عن مالك قال: بلغني أن سعد بن معاذ مر بعائشة رضي الله عنها ونساء معها في الأطم (فارع)، وعليه درع مقلصة مشمر الكمين، وبه أثر صفرة وهو يرتجز:
فقالت عائشة رضي الله عنها: لست أخاف أن يصاب سعد اليوم إلا في أطرافه؛ فأصيب في أكحله التاسعة: ولكنه من يخذل الله يخذل
ثم قال: يا أيها الناس، لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه. وقتل من نسائهم امرأة، وهي بنانة امرأة الحكم القرظّي التي طرحت الّرحى على خلاد ابن سويد فقتلته. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت منهم وترك من لم ينبت. وكان عطية القرظّي ممن لم ينبت، فاستحياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مذكور في الصحابة. ووهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس ولد الزبير بن باطا فاستحياهم؛ منهم عبدالرحمن بن الزبير أسلم وله صحبة. ووهب أيضا عليه السلام رفاعة بن سموأل القرظي لأم المنذر سلمى بنت قيس، أخت سليط بن قيس من بني النجار، وكانت قد صلت إلى القبلتين؛ فأسلم رفاعة وله صحبة ورواية. و روى ابن وهب وابن القاسم عن مالك قال: أتى ثابت بن قيس بن شماس إلى ابن باطا - وكانت له عنده يد - وقال: قد استوهبتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدك التي لك عندي، قال: ذلك يفعل الكريم بالكريم، ثم قال: وكيف يعيش رجل لا ولد له ولا أهل؟ قال: فأتى ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأعطاه أهله وولده؛ فأتى فأعلمه فقال: كيف يعيش رجل لا مال له؟ فأتى ثابت النبي صلى الله عليه وسلم فطلبه فأعطاه ماله، فرجع إليه فأخبره؛ قال: ما فعل ابن أبي الحقيق الذي كأن وجهه مرآة صينية؟ قال: قتل. قال: فما فعل المجلسان، يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة؟ قال: قتلوا. قال: فما فعلت الفئتان؟ قال: قتلتا. قال: برئت ذمتك، ولن أصب فيها دلوا أبدا، يعني النخل، فألحقني بهم، فأبى أن يقتله فقتله غيره. واليد التي كانت لابن باطا عند ثابت أنه أسره يوم بعاث فجز ناصيته وأطلقه.
العاشرة: وقسم صلى الله عليه وسلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما. وقد قيل: للفارس سهمان وللراجل سهم. وكانت الخيل للمسلمين يومئذ ستة وثلاثين فرسا. ووقع للنبي صلى الله عليه وسلم من سبيهم ريحانة بنت عمرو بن جنافة أحد بني عمرو بن قريظة، فلم تزل عنده إلى أن مات صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن غنيمة قريظة هي أول غنيمة قسم فيها للفارس والراجل، وأول غنيمة جعل فيها الخمس. وقد تقدم أن أول ذلك كان في بعث عبدالله بن جحش؛ فالله أعلم. قال: أبو عمر: وتهذيب ذلك أن تكون غنيمة قريظة أول غنيمة جرى فيها الخمس بعد نزول قوله} وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة من الهجرة. فلما تم أمر بني قريظة أجيبت دعوة الرجل الفاضل الصالح سعد بن معاذ، فانفجر جرحه، وانفتح عرقه، فجرى دمه ومات رضي الله عنه. وهو الذي أتى الحديث فيه: (اهتز لموته عرش الرحمن) يعني سكان العرش من الملائكة فرحوا بقدوم روحه واهتزوا له. وقال ابن القاسم عن مالك: حدثني يحيى بن سعيد قال: لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك، ما نزلوا إلى الأرض قبلها. قال مالك: ولم يستشهد يوم الخندق من المسلمين إلا أربعة أو خمسة.
قلت: الذي استشهد يوم الخندق من المسلمين ستة نفر فيما ذكر أهل العلم بالسير: سعد بن معاذ أبو عمرو من بني عبدالأشهل، وأنس بن أوس بن عتيك، وعبدالله بن سهل، وكلاهما أيضا من بني عبدالأشهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة، وكلاهما من بني سلمة، وكعب بن زيد من بني دينار بن النجار، أصابه سهم غرب فقتله، رضي الله عنهم. وقتل من الكفار ثلاثة: منبه بن عثمان ابن عبيد بن السباق بن عبدالدار، أصابه سهم مات منه بمكة. وقد قيل: إنما هو عثمان بن أمية بن منبه بن عبيد بن السباق. قوله تعالى}إذ جاءتكم جنود} يعني الأحزاب. }فأرسلنا عليهم ريحا} قال مجاهد: هي الصبا، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم. قال: والجنود الملائكة ولم تقاتل يومئذ. وقال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلقي لنصرة النبّي صلى الله عليه وسلم، فقالت الشمال: إن محوة لا تسري بليل. فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا. و روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
|