الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون} قوله تعالى}إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم} }إذ} في موضع نصب بمعنى واذكر. وكذا }وإذ قالت طائفة منهم}. }من فوقكم} يعني من فوق الوادي، وهو أعلاه من قبل المشرق، جاء منه عوف بن مالك في بني نصر، وعيينه بن حصن في أهل نجد، وطليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد. }ومن أسفل منكم} يعني من بطن الوادي من قبل المغرب، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة، ويزيد بن جحش على قريش، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من وجه الخندق. }وإذ زاغت الأبصار} أي شخصت. وقيل: مالت؛ فلم تلتفت إلا إلى عدوها دهشا من فرط الهول. }وبلغت القلوب الحناجر} أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم، واحدها حنجرة؛ فلولا أن الحلوق ضاقت عنها لخرجت؛ قاله قتادة. وقيل: هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار كاد؛ قال: أي كادت تقطر. ويقال: إن الرئة تنفتح عند الخوف فيرتفع القلب حتى يكاد يبلغ الحنجرة مثلا؛ ولهذا يقال للجبان: انتفخ سحره. وقيل: إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة. قال معناه عكرمة. روى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: بلغ فزعها. والأظهر أنه أراد اضطراب القلب وضربانه، أي كأنه لشدة اضطرابه بلغ الحنجرة. والحنجرة والحنجور (بزيادة النون) حرف الحلق. }وتظنون بالله الظنونا} قال الحسن: ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وظن المؤمنون أنهم ينصرون. وقيل: هو خطاب للمنافقين؛ أي قلتم هلك محمد وأصحابه. واختلف القراء في قوله تعالى}الظنونا، والرسولا، والسبيلا} آخر السورة؛ فأثبت ألفاتها في الوقف والوصل نافع وابن عامر. وروي عن أبي عمرو الكسائي تمسكا بخط المصحف، مصحف عثمان، وجميع المصاحف في جميع البلدان. واختاره أبو عبيد؛ إلا أنه قال: لا ينبغي للقارئ أن يدرج القراءة بعدهن لكن يقف عليهن. قالوا: ولأن العرب تفعل ذلك في قوافي أشعارهم ومصاريعها؛ قال: وقرأ أبو عمرو والجحدري ويعقوب وحمزة بحذفها في الوصل والوقف معا. قالوا: هي زائدة في الخط كما زيدت الألف في قوله تعالى فأثبت الألف في }الركاب} بناء على هذه اللغة. وقال الآخر: وعلى هذه اللغة بنى نافع وغيره. وقرأ ابن كثير وابن محيصن والكسائي بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل. قال ابن الأنباري: ومن وصل بغير ألف ووقف بألف فجائز أن يحتج بأن الألف احتاج إليها عند السكت حرصا على بقاء الفتحة، وأن الألف تدعمها وتقويها. {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} قوله تعالى}هنالك ابتلي المؤمنون} }هنا} للقريب من المكان. و}هنالك} للبعيد. و}هناك} للوسط. ويشار به إلى الوقت؛ أي عند ذلك اختبر المؤمنون ليتبين المخلص من المنافق. وكان هذا الابتلاء بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال. }وزلزلوا زلزالا شديدا} أي حركوا تحريكا. قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح؛ نحو قلقلته قلقالا وقلقالا، وزلزلوا زلزالا وزلزالا. والكسر أجود؛ لأن غير المضاعف على الكسر نحو دحرجته دحراجا. وقراءة العامة بكسر الزاي. وقرأ عاصم والجحدري }زلزالا} بفتح الزاي. قال ابن سلام: أي حركوا بالخوف تحريكا شديدا. وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق. وقيل: إنه اضطرابهم عما كانوا عليه؛ فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه. و}هنالك} يجوز أن يكون العامل فيه }ابتلي} فلا يوقف على }هنالك}. ويجوز أن يكون }وتظنون بالله الظنونا} فيوقف على }هنالك}. {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} قوله تعالى}وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض} أي شك ونفاق. }ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} أي باطلا من القول. وذلك أن طعمة بن أبيرق ومعتب بن قشير وجماعة نحو من سبعين رجلا قالوا يوم الخندق: كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرز؟ وإنما قالوا ذلك لما فشا في أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم من قوله عند ضرب الصخرة، على ما تقدم في حديث النسائي؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية. {وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا} قوله تعالى}وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا} الطائفة تقع على الواحد فما فوقه. وعني به هنا أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس؛ الذي يقول فيه الشماخ: و }يثرب} هي المدينة؛ وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وطابة. وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، والمدينة ناحية منها. السهيلّي: وسميت يثرب لأن الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عميل بن مهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم. وفي بعض هذه الأسماء اختلاف. وبنو عميل هم الذين سكنوا الجحفة فأجحفت بهم السيول فيها. وبها سميت الجحفة. }لا مقام لكم} بفتح الميم قراءة العامة. وقرأ حفص والسلمي والجحدري وأبو حيوة: بضم الميم؛ يكون مصدرا من أقام يقيم؛ أي لا إقامة، أو موضعا يقيمون فيه. ومن فتح فهو اسم مكان؛ أي لا موضع لكم تقيمون فيه. }فارجعوا} أي إلى منازلكم. أمروهم بالهروب من عسكر النبّي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: قالت اليهود لعبدالله بن أبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه! فارجعوا إلى المدينة فإنا مع القوم فأنتم آمنون. قوله تعالى}ويستأذن فريق منهم النبي} في الرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وهم بنو حارثة ابن الحارث، في قول ابن عباس. وقال يزيد بن رومان: قال ذلك أوس بن قيظّي عن ملأ من قومه. }يقولون إن بيوتنا عورة} أي سائبة ضائعة ليست بحصينة، وهي مما يلي العدّو. وقيل: ممكنة للسراق لخلوها من الرجال. يقال: دار معورة وذات عورة إذا كان يسهل دخولها. يقال: عور المكان عورا فهو عور. وبيوت عورة. وأعور فهو معور. وقيل: عورة ذات عورة. وكل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة؛ قاله الهروي. وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي}عورة} بكسر الواو؛ يعني قصيرة الجدران فيها خلل. تقول العرب: دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة. وقد أعور الفارس إذا بدا فيه خلل للضرب والطعن؛ قال الشاعر: الجوهري: والعورة كل خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب. النحاس: يقال أعور المكان إذا تبينت فيه عورة، وأعور الفارس إذا تبين فيه موضع الخلل. المهدوي: ومن كسر الواو في }عورة} فهو شاذ؛ ومثله قولهم: رجل عور؛ أي لا شيء له، وكان القياس أن يعل فيقال: عار؛ كيوم راح، ورجل مال؛ أصلهما روح ومول. ثم قال تعالى }وما هي بعورة} تكذيبا لهم وردا عليهم فيما ذكروه. }إن يريدون إلا فرارا} أي ما يريدون إلا الهرب. قيل: من القتل. وقيل: من الدين. وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار: بني حارثة وبني سلمة؛ وهموا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق، وفيهم أنزل الله تعالى {ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا} قوله تعالى}ولو دخلت عليهم من أقطارها} وهي البيوت أو المدينة؛ أي من نواحيها وجوانبها، الواحد قطر، وهو الجانب والناحية. وكذلك القتر لغة في القطر. }ثم سئلوا الفتنة لآتوها} أي لجاؤوها؛ هذا على قراءة نافع وابن كثير بالقصر. وقرأ الباقون بالمّد؛ أي لأعطوها من أنفسهم، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقد جاء في الحديث: أن أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم كانوا يعذبون في الله ويسألون الشرك، فكل أعطى ما سألوه إلا بلالا. وفيه دليل على قراءة المّد، من الإعطاء. ويدل على قراءة القصر قوله}ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار}؛ فهذا يدل على }لأتوها} مقصورا. وفي }الفتنة} هنا وجهان: أحدهما: سئلوا القتال في العصبية لأسرعوا إليه؛ قاله الضحاك. الثاني: ثم سئلوا الشرك لأجابوا إليه مسرعين؛ قاله الحسن. }وما تلبثوا بها إلا يسيرا} أي بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا؛ قال السدي والقتيبّي والحسن والفراء. وقال أكثر المفسرين: أي وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلا ولأجابوا بالشرك مسرعين؛ وذلك لضعف نياتهم ولفرط نفاقهم؛ فلو اختلطت بهم الأحزاب لأظهروا الكفر. {ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا} قوله تعالى}ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل} أي من قبل غزوة الخندق وبعد بدر. قال قتادة: وذلك أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر، فقالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلّن. وقال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة، هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم. }وكان عهد الله مسؤولا} أي مسؤولا عنه. {قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا} قوله تعالى}قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل} أي من حضر أجله مات أو قتل؛ فلا ينفع الفرار. }وإذا لا تمتعون إلا قليلا} أي في الدنيا بعد الفرار إلى أن تنقضي آجالكم؛ وكل ما هو آت فقريب. و روى الساجي عن يعقوب الحضرمّي }وإذا لا يمتعون} بياء. وفي بعض الروايات }وإذا لا تمتعوا} نصب بـ }إذا} والرفع بمعنى ولا تمتعون. و}إذا} ملغاة، ويجوز إعمالها. فهذا حكمها إذا كان قبلها الواو والفاء. فإذا كانت مبتدأة نصبت بها فقلت: إذا أكرمك. {قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوء أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} قوله تعالى}قل من ذا الذي يعصمكم من الله} أي يمنعكم منه. }إن أراد بكم سوءا} أي هلاكا. }أو أراد بكم رحمة} أي خيرا ونصرا وعافية. }ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} أي لا قريبا ينفعهم ولا ناصرا ينصرهم. {قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا} قوله تعالى}قد يعلم الله المعوقين منكم} أي المعترضين منكم لأن يصدوا الناس عن النبّي صلى الله عليه وسلم؛ وهو مشتق من عاقني عن كذا أي صرفني عنه. وعوق، على التكثير }والقائلين لإخوانهم هلم إلينا} على لغة أهل الحجاز. وغيرهم يقولون}هلموا} للجماعة، وهلمي للمرأة؛ لأن الأصل}ها} التي للتنبيه ضمت إليها }لم} ثم حذفت الألف استخفافا وبنيت على الفتح. ولم يجز فيها الكسر ولا الضم لأنها لا تنصرف. ومعنى }هلم} أقبل؛ وهؤلاء طائفتان؛ أي منكم من يثبط ويعوق. والعوق المنع والصرف؛ يقال: عاقه يعوقه عوقا، وعوقه واعتاقه بمعنى واحد. قال مقاتل: هم عبدالله بن أبي وأصحابه المنافقون. }والقائلين لإخوانهم هلم} فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون؛ قالوا للمسلمين: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، وهو هالك ومن معه، فهلم إلينا. الثاني: أنهم اليهود من بني قريظة؛ قالوا لإخوانهم من المنافقين: هلم إلينا؛ أي تعالوا إلينا وفارقوا محمدا فإنه هالك، وإن أبا سفيان إن ظفر لم يبق منكم أحدا. والثالث: ما حكاه ابن زيد: أن رجلا من أصحاب النبّي صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف؛ فقال أخوه - وكان من أمه وأبيه - : هلم إلّي، قد تبع بك وبصاحبك؛ أي قد أحيط بك وبصاحبك. فقال له: كذبت، والله لأخبرنه بأمرك؛ وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجده قد نزل عليه جبريل عليه السلام بقوله تعالى}قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا}. ذكره الماوردي والثعلبي أيضا. ولفظه: قال ابن زيد هذا يوم الأحزاب، انطلق رجل من عند النبّي صلى الله عليه وسلم فوجد أخاه بين يديه رغيف وشواء ونبيذ؛ فقال له: أنت في هذا ونحن بين الرماح والسيوف؟ فقال: هلم إلى هذا فقد تبع لك ولأصحابك، والذي تحلف به لا يستقل بها محمد أبدا. فقال: كذبت. فذهب إلى النبّي صلى الله عليه وسلم يخبره فوجده قد نزل عليه جبريل بهذه الآية. }ولا يأتون البأس إلا قليلا} خوفا من الموت. وقيل: لا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة. {أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا} قوله تعالى}أشحة عليكم} أي بخلاء عليكم؛ أي بالحفر في الخندق والنفقة في سبيل الله؛ قال مجاهد وقتادة. وقيل: بالقتال معكم. وقيل: بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم. وقيل: أشحة بالغنائم إذا أصابوها؛ قاله السدي. وانتصب على الحال. قال الزجاج: ونصبه عند الفراء من أربع جهات: إحداها: أن يكون على الذم؛ ويجوز أن يكون عنده نصبا بمعنى يعوقون أشحة. ويجوز أن يكون التقدير: والقائلين أشحة. ويجوز عنده }ولا يأتون البأس إلا قليلا} أشحة؛ أي أنهم يأتونه أشحة على الفقراء بالغنيمة. النحاس: ولا يجوز أن يكون العامل فيه }المعوقين} ولا }القائلين}؛ لئلا يفرق بين الصلة والموصول. ابن الأنباري}إلا قليلا} غير تام؛ لأن }أشحة} متعلق بالأول، فهو ينتصب من أربعة أوجه: أحدها: أن تنصبه على القطع من }المعوقين} كأنه قال: قد يعلم الله الذين يعوقون عن القتال ويشحون عن الإنفاق على فقراء المسلمين. ويجوز أن يكون منصوبا على القطع من }القائلين} أي وهم أشحة. ويجوز أن تنصبه على القطع مما في }يأتون}؛ كأنه قال: ولا يأتون البأس إلا جبناء بخلاء. ويجوز أن تنصب }أشحة} على الذّم. فمن هذا الوجه الرابع يحسن أن تقف على قوله}إلا قليلا}. }أشحة عليكم} وقف حسن. ومثله }أشحة على الخير} حال من المضمر في }سلقوكم} وهو العامل فيه. }فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت} وصفهم بالجبن؛ وكذا سبيل الجبان ينظر يمينا وشمالا محددا بصره، وربما غشي عليه. وفي }الخوف} وجهان: أحدهما: من قتال العدو إذا أقبل؛ قال السّدي. الثاني: الخوف من النبّي صلى الله عليه وسلم إذا غلب؛ قاله ابن شجرة. }رأيتهم ينظرون إليك} خوفا من القتال على القول الأول. ومن النبّي صلى الله عليه وسلم على الثاني. }تدور أعينهم} لذهاب عقولهم حتى لا يصح منهم النظر إلى جهة. وقيل: لشّدة خوفهم حذرا أن يأتيهم القتل من كل جهة. }فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد} وحكى الفراء }صلقوكم} بالصاد. وخطيب مسلاق ومصلاق إذا كان بليغا. وأصل الصلق الصوت؛ ومنه قال قتادة: ومعناه بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة، يقولون: أعطنا أعطنا، فإنا قد شهدنا معكم. فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لسانا، ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم. قال النحاس: هذا قول حسن؛ لأن بعده }أشحة على الخير} وقيل: المعنى بالغوا في مخاصمتكم والاحتجاج عليكم. وقال القتبي: المعنى آذوكم بالكلام الشديد السلق: الأذى. ومنه قول الشاعر: {أشحة على الخير} أي على الغنيمة؛ قاله يحيى بن سلام. وقيل: على المال أن ينفقوه في سبيل الله؛ قاله السّدي. }أولئك لم يؤمنوا} يعني بقلوبهم وإن كان ظاهرهم الإيمان؛ والمنافق كافر على الحقيقة لوصف الله عز وجل لهم بالكفر. }فأحبط الله أعمالهم} أي لم يثبتهم عليها؛ إذا لم يقصدوا وجه الله تعالى بها. }وكان ذلك على الله يسيرا} يحتمل وجهين: أحدهما: وكان نفاقهم على الله هينا. الثاني: وكان إحباط عملهم على الله هينا. {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا} قوله تعالى}يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} أي لجبنهم؛ يظنون الأحزاب لم ينصرفوا وكانوا انصرفوا، ولكنهم لم يتباعدوا في السير. }وإن يأت الأحزاب} أي وإن يرجع الأحزاب إليهم للقتال. }يودوا لو أنهم بادون في الأعراب} تمنوا أن يكونوا مع الأعراب حذرا من القتل وتربصا للدوائر. وقرأ طلحة بن مصرف }لو أنهم بدى في الأعراب}؛ يقال: باد وبدى؛ مثل غاز وغزى. ويمد مثل صائم وصوام. بدا فلان يبدو إذا خرج إلى البادية. وهي البداوة والبداوة؛ بالكسر والفتح. وأصل الكلمة من البدو وهو الظهور. }يسألون} وقرأ يعقوب في رواية رويس }يتساءلون عن أنبائكم} أي عن أخبار النبّي صلى الله عليه وسلم. يتحدثون: أما هلك محمد وأصحابه، أما غلب أبو سفيان وأحزابه! أي يوّدوا لو أنهم بادون سائلون عن أنبائكم من غير مشاهدة القتال لفرط جبنهم. وقيل: أي هم أبدا لجبنهم يسألون عن أخبار المؤمنين، وهل أصيبوا. وقيل: كان منهم في أطراف المدينة من لم يحضر الخندق، جعلوا يسألون عن أخباركم ويتمنون هزيمة المسلمين. }ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا} أي رميا بالنبل والحجارة على طريق الرياء والسمعة؛ ولو كان ذلك لله لكان قليله كثيرا. {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} قوله تعالى}لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} هذا عتاب للمتخلفين عن القتال؛ أي كان لكم قدوة في النبي صلى الله عليه وسلم حيث بذل نفسه لنصرة دين الله في خروجه إلى الخندق. والأسوة القدوة. وقرأ عاصم }أسوة} بضم الهمزة. الباقون بالكسر؛ وهما لغتان. والجمع فيهما واحد عند الفراء. والعلة عنده في الضم على لغة من كسر في الواحدة: الفرق بين ذوات الواو وذوات الياء؛ فيقولون كسوة وكسا، ولحية ولحى. الجوهري: والأسوة والإسوة بالضم والكسر لغتان. والجمع أسى وإسى. و روى عقبة بن حسان الهجري عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر}لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} قال: في جوع النبّي صلى الله عليه وسلم؛ ذكره الخطيب أبو بكر أحمد وقال: تفرد به عقبة بن حسان عن مالك، ولم أكتبه إلا بهذا الإسناد. قوله تعالى }أسوة} الأسوة القدوة. والأسوة ما يتأسى به؛ أي يتعزى به. فيقتدى به في جميع أفعاله ويتعزى به في جميع أحواله؛ فلقد شج وجهه، وكسرت رباعيته، وقتل عمه حمزة، وجاع بطنه، ولم يلف إلا صابرا محتسبا، وشاكرا راضيا. وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر؛ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين. خرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه: حديث غريب. وقال صلى الله عليه وسلم لما شج: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وقد تقدم. }لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} قال سعيد بن جبير: المعنى لمن كان يرجو لقاء الله بإيمانه ويصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأفعال. وقيل: أي لمن كان يرجو ثواب الله في اليوم الآخر. ولا يجوز عند الحذاق من النحويين أن يكتب }يرجو } إلا بغير ألف إذا كان لواحد؛ لأن العلة التي في الجمع ليست في الواحد. }وذكر الله كثيرا} خوفا من عقابه، ورجاء لثوابه. وقيل: إن }لمن} بدل من قوله}لكم} ولا يجيزه البصريون؛ لأن الغائب لا يبدل من المخاطب، وإنما اللام من }لمن} متعلقة بـ }حسنة}، و}أسوة} اسم }كان} و}لكم} الخبر. واختلف فيمن أريد بهذا الخطاب على قولين: أحدهما: المنافقون؛ عطفا على ما تقدم من خطابهم. الثاني: المؤمنون؛ لقوله}لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} واختلف في هذه الأسوة بالرسول عليه السلام، هل هي على الإيجاب أو على الاستحباب؛ على قولين: أحدهما: على الإيجاب حتى يقوم دليل على الاستحباب. الثاني: على الاستحباب حتى يقوم دليل على الإيجاب. ويحتمل أن يحمل على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا. {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} قوله تعالى}ولما رأى المؤمنون الأحزاب} ومن العرب من يقول}راء} على القلب. }قالوا هذا ما وعدنا الله} يريد قوله تعالى في سورة البقرة {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما} قوله تعالى}من المؤمنين رجال} رفع بالابتداء، وصلح الابتداء بالنكرة لأن }صدقوا} في موضع النعت. }فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} }من} في موضع رفع بالابتداء. وكذا }ومنهم من ينتظر} والخبر في المجرور. والنحب: النذر والعهد، تقول منه: نحبت انحب، بالضم. قال الشاعر: وقال آخر: وقال آخر: والنحب أيضا الحاجة والهمة، يقول قائلهم ما لي عندهم نحب، وليس المراد بالآية. والمعنى في هذا الموضع بالنحب النذر كما قدمنا أولا، أي منهم من بذل جهده على الوفاء بعهده حتى قتل، مثل حمزة وسعد بن معاذ وانس بن النضر وغيرهم. ومنهم من ينتظر الشهادة وما بدلوا عهدهم ونذرهم. وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ }فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومنهم من بدل تبديلا}. قال أبو بكر الأنباري: وهذا الحديث عند أهل العلم مردود، لخلافه الإجماع، ولأن فيه طعنا على المؤمنين والرجال الذين مدحهم الله وشرفهم بالصدق والوفاء، فما يعرف فيهم مغير وما وجد من جماعتهم مبدل، رضي الله عنهم.}ليجزي الله الصادقين بصدقهم} أي أمر الله بالجهاد ليجزي الصادقين في الآخرة بصدقهم. }ويعذب المنافقين} في الآخرة }إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما} أي إن شاء أن يعذبهم لم يوفقهم للتوبة، لأن لم يشأ أن يعذبهم تاب عليهم قبل الموت. }إن الله كان غفورا رحيما} {ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا} قوله تعالى}ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا} قال محمد بن عمرو يرفعه إلى عائشة: قالت }الذين كفروا} ها هنا أبو سفيان وعيينة بن بدر، رجع أبو سفيان إلى تهامة، ورجع عيينة إلى نجد }وكفى الله المؤمنين القتال} بأن أرسل عليهم ريحا وجنودا حتى رجعوا ورجعت بنو قريظة إلى صياصيهم، فكفى أمر قريظة - بالرعب. }وكان الله قويا} أمره }عزيزا} لا يغلب. {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا} قوله تعالى}وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم} يعني الذين عاونوا الأحزاب: قريشا وغطفان وهم بنو قريظة وقد مضى خبرهم }من صياصيهم} أي حصونهم واحدها صيصة. قال الشاعر: ومنه قيل لشوكة الحائك التي بها يسوي السداة واللحمة: صيصة. قال، دريد بن الممدد: ومنه: صيصة الديك التي في رجله. وصياصي البقر قرونها، لأنها تمتنع بها. وربما كانت، تركب في، الرماح مكان الأسنة، ويقال: جذ الله صئصئه، أي أصله }وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون} وهم الرجال. }وتأسرون فريقا} وهم النساء والذرية، على ما تقدم.}وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها} بعد. قال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: يعني حنين، ولم يكونوا نالوها، فوعدهم الله إياها. وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة. وقال الحسن: هي فارس والروم. وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. }وكان الله على كل شيء قديرا} فيه وجهان: أحدهما: على ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير، قال محمد بن إسحاق. الثاني: على ما أراد أن يفتحه من الحصون والقرى قدير، قال النقاش. وقيل}وكان الله على كل شيء} مما وعدكموه }قديرا} لا ترد قدرته ولا يجوز عليه العجز تعالى. ويقال تأسرون وتأسرون (بكسر السين وضمها) حكاه الفراء. {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما} قوله تعالى}يا أيها النبي} قال علماؤنا: هذه الآية متصلة: بمعنى ما تقدم من المنع من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قيل: سألنه شيئا من عرض الدنيا. وقيل: زيادة في النفقة. وقيل: أذينه بغيرة بعضهن على بعض. وقيل: أمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة هذه الآية عليهن وتخييرهن بين الدنيا والآخرة. وقال الشافعي رحمه الله تعالى،: إن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها. أمر صلى الله عليه وسلم أن يخير نساءه فاخترنه. وجملة ذلك أن الله سبحانه خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا وعرض عليه مفاتيح خزائن الدنيا، وبين أن يكون نبيا مسكينا، فشاور جبريل فأشار عليه بالمسكنة فاختارها، فلما اختارها وهي أعلى المنزلتين، أمره الله عز وجل أن يخير زوجاته، فربما كان فيهن من يكره المقام معه على الشدة تنزيها له. وقيل: إن السبب الذي أوجب التخيير لأجله، أن امرأة من أزواجه سألته أن يصوغ لها حلقة من ذهب، فصاغ لها حلقة من فضة وطلاها بالذهب - وقيل بالزعفران - فأبت إلا أن تكون من ذهب، فنزلت آية التخيير فخيرهن، فقلن اخترنا الله ورسوله. وقيل: إن واحدة منهن اختارت الفراق. فالله أعلم. قوله تعالى}قل لأزواجك} كان للنبي صلى الله عليه وسلم أزواج، منهن من دخل بها، ومنهن من عقد عليها ولم يدخل بها، ومنهن من خطبها فلم يتم نكاحه معها. فأولهن: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب. وكانت قبله عند أبي هالة واسمه زرارة بن النباش الأسدي، وكانت قبله عند عتيق بن عائذ، ولدت منه غلاما اسمه عبد مناف. وولدت من أبي هالة هند بن أبي هالة، وعاش إلى زمن الطاعون فمات فيه. ويقال: إن الذي عاش إلى زمن الطاعون هند بن هند، وسمعت نادبته تقول حين مات: واهند بن هنداه، واربيب رسول الله. ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم على خديجة غيرها حتى ماتت. وكانت يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أربعين سنة، وتوفيت بعد أن مضى من النبوة سبع سنين، وقيل: عشر. أو كان لها حين توفيت خمس وستون سنة. وهي أول امرأة آمنت به. وجميع أولاده منها غير إبراهيم. قال حكيم بن حزام: توفيت خديجة فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرتها، ولم تكن يومئذ سنة الجنازة الصلاة عليها. ومنهن: سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرية، أسلمت قديما وبايعت، وكانت عند ابن عم لها يقال له السكران بن عمرو، وأسلم أيضا، وهاجرا جميعا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها. وقيل: مات بالحبشة، فلما حلت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، فتزوجها ودخل بها بمكة، وهاجر بها إلى المدينة، فلما كبرت أراد طلاقها فسألته ألا يفعل وأن يدعها في نسائه، وجعلت ليلتها لعائشة حسبما هو مذكور في الصحيح فأمسكها، وتوفيت بالمدينة في شوال سنة أربع وخمسين. ومنهن: عائشة بنت أبي بكر الصديق، وكانت مسماة لجبير بن مطعم، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم اله عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول الله، دعني أسلها من، جبير سلا رفيقا، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بسنتين، وقيل بثلاث سنين، وبنى بها بالدينة وهي بنت تسع، وبقيت عنده تسع سنين، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثمان عشرة، ولم يتزوج بكرا غيرها. وماتت سنة تسع وخمسين، وقيل ثمان وخمسين. ومنهن: حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية العدوية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها، فأتاه جبريل فقال: (إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة) فراجعها. قال الواقدي: وتوفيت في شعبان سنة خمس وأربعين في خلافة معاوية، وهي ابنة ستين سنة.. وقيل: ماتت في خلافة عثمان بالمدينة. ومنهن: أم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية المخزومية واسم أبي أمية سهيل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال بقين من شوال سنة أربع، زوجها منه ابنها سلمة على الصحيح، وكان عمر ابنها صغيرا، وتوفيت في سنة تسع وخمسين. وقيل: سنة ثنتين وستين، والأول أصح. وصلى، عليها سعيد ابن زيد. وقيل أبو هريرة. وقبرت بالبقيع وهي ابنة أربع وثمانين سنة. ومنهن، أم حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضميري إلى النجاشي، ليخطب عليه أم حبيبة فزوجه إياها، وذلك سنة سبع من الهجرة، وأصدق النجاشي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعمائة دينار، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، وتوفيت سنة أربع وأربعين. وقال الدارقطني: كانت أم حبيبة تحت عبيدالله بن جحش فمات بأرض، الحبشة على النصرانية، فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة. ومنهن: زينب بنت خذيمة بن الحارث بن عبدالله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية، كانت تسمى في الجاهلية أم المساكين، لإطعامها إياهم. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهرا من الهجرة، فمكثت عنده ثمانية أشهر، وتوفيت في حياته في آخر ربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهرا، ودفنت بالبقيع. ومنهن: جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية، أصابها في غزوة بني المصطلق فوقعت في سهم ثابت بن قيع بن شماس فكاتبها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها، وذلك في شعبان سنة ست، وكان اسم برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين. وقيل: سنة خمسين وهي ابنة خمس وستين. ومنهن: صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية، سباها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر واصطفاها لنفسه، وأسلمت وأعتقها، وجعل عتقها صداقها.. وفي الصحيح: أنها وقعت في سهم دحية الكلبي فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، وماتت في سنة اثنتين وخمسين. وقيل: سنة اثنتين وخمسين، ودفنت بالبقيع. ومنهن: ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة من بني النضير، سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعتقها، وتزوجها في سنة ست، وماتت مرجعه من حجة الوداع، فدفنها بالبقيع. وقال الواقدي: ماتت سنة ست عشرة وصلى عليها عمر. قال أبو الفرج الجوزي: وقد سمعت من يقول: إنه كان يطؤها بملك اليمين ولم يعتقها. قلت: ولهذا والله أعلم لم يذكرها أبو القاسم عبدالرحمن السهلي في عداد أزواج النبي صلى. ومنهن: ميمونة بنت الحارث الهلالية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف على عشرة أميال من مكة، وذلك في سنة سبع من الهجرة في عمرة القضية، وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وقدر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ودفنت هنالك، وذلك في سنة إحدى وستين. وقيل: ثلاث وستين. وقيل ثمان وستين. فهؤلاء المشهورات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وهن اللاتي دخل بهن، رضي الله عنهن. فأما من تزجهن ولم يدخل بهن فمنهن: الكلابية. واختلفوا في اسمها، فقيل فاطمة. وقيل عمرة. وقيل العالية. قال الزهري: تزوج فاطمة بنت الضحاك الكلابية فاستعاذت منه فطلقها، وكانت تقول: أنا الشقية. تزوجها في ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة، وتوفيت سنة ستين. ومنهن: أسماء بنت النعمان بن الجون بن الحارث الكندية، وهي الجونية. قال قتادة: لما دخل عليها دعاها فقالت: تعال أنت، فطلقها. وقال غيره: هي التي استعاذت منه. ومنهن: قتيلة بنت قيس، أخت الأشعث بن قيس، زوجها إياه الأشعث، ثم انصرف إلى حضرموت، فحملها إليه فبلغه وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فردها إلى بلاده، فارتد وارتدت معه. ثم تزوجها عكرمة بن أبي جهل، فوجد من ذلك أبو بكر وجدا شديدا. فقال له عمر: إنها والله ما هي من أزواجه، ما خيرها ولا حجبها. ولقد برأها الله منه بالارتداد. وكان عروة ينكر أن يكون تزوجها. ومنهن: أم شريك الأزدية، واسمها غزية بنت جابر بن حكيم، وكانت قبله عند أبي بكر بن أبي سلمى، فطلقها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها. وهي التي وهبت نفسها. وقيل: إن التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم. ومنهن: خولة بنت الهزيل بن هبيرة، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلكت قبل أن تصل إليه. ومنهن: شراف بنت خليفه، أخت دحية، تزوجها ولم يدخل بها. ومنهن ليلى بنت الخطيم، أخت قيس، تزوجها وكانت غيورا فاستقالته فأقالها. ومنهن: عمرة بنت معاوية الكندية، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم قال الشعبي: تزوج امرأة من كندة فجيء بها بعد ما مات. ومنهن: ابنة جندب بن ضمرة الجندعية. قال بعضهم: تزوجها رسول الله صلى الله عليه وأنكر بعضهم وجود ذلك. ومنهن: الغفارية. قال بعضهم: تزوج امرأة من غفار، فأمرها فنزعت ثيابها فرأى بياضا فقال: (الحقي بأهلك). ويقال: إنما رأى البياض بالكلابية. فهؤلاء اللاتي، عقد عليهن ولم يدخل بهن، صلى الله عليه وسلم فأما من خطبهن فلم يتم نكاحه معهن، ومن وهبت له نفسها: فمنهن: أم هانئ بنت أبي طالب، واسمها فاختة. خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني مرأة مصبية واعتذرت إليه فعذرها. ومنهن: ضباعة بنت عامر. ومنهن: أم شريك. وقد تقدم ذكرها. ومنهن: ليلى بنت الخطيم، وقد تقدم ذكرها. ومنهن: خولة بنت حكم بن أمية، وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فأرجأها، فتزوجها عثمان بن مظعون. ومنهن: جمرة بنت الحارث بن عوف المري، خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبوها: إن بها سوءا ولم يكن بها، فرجع إليها أبوها وقد برصت، وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر. ومنهن: سودة القرشية، خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مصبية. فقالت: أخاف أن يضغو صبيتي عند رأسك. فحمدها ودعا لها. ومنهن: امرأة لم يذكر اسمها. قوله تعالى}إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها} }إن} شرط، وجوابه }فتعالين}، فعلق التخيير على شرط. وهذا يدل على أن التخيير والطلاق المعلقين على شرط صحيحان، فينفذان ويمضيان، خلافا للجهال المبتدعة الذين يزعمون أن الرجل إذا قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار، أنه لا يقع الطلاق إن دخلت الدار، لأن الطلاق الشرعي هو المنجز في الحال لا غير. قوله تعالى}فتعالين} هو جواب الشرط، وهو فعل جماعة النساء، من قولك تعالى، وهو دعاء إلى الإقبال إليه يقال: تعال بمعنى أقبل، وضع لمن له جلالة ورفعة، ثم صار في الاستعمال لكل داع إلى الإقبال، وأما في هذا الموضع فهو على أصله، فإن الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم }أمتعكن} وقرئ }أمتعُكن} بضم العين. وكذا }أسرحكن} بضم الحاء على الاستئناف. والسراح الجميل: هو أن يكون طلاقا للسنة من غير ضرار ولا منع واجب لها. قلت: القول الأول أصح، واختلف العلماء في المخيرة إذا اختارت زوجها، فقال جمهور العلماء من السلف وغيرهم وأئمة الفتوى: إنه لا يلزمه طلاق، لا واحدة ولا أكثر، هذا قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس وعائشة. ومن التابعين عطاء ومسروق وسليمان بن يسار وربيعة وابن شهاب. وروي عن علي وزيد أيضا: إن أختارت زوجها فواحدة بائنة، وهو قول الحسن البصري والليث، وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك. وتعلقوا بأن قوله: اختاري، كناية عن إيقاع الطلاق، فإذا أضافه إليها وقعت طلقة، كقوله: أنت بائن. والصحيح الأول، لقول عائشة: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعده علينا طلاقا. أخرجه الصحيحان. قال ابن المنذر: وحديث عائشة دل على أن المخيرة إذا أختارت زوجها لم يكن ذلك طلاقا، ويدل على أن اختيارها نفسها يوجب الطلاق، ويدل على معنى ثالث، وهو أن المخيرة إذا اختارت نفسها أنها تطليقة يملك زوجها رجعتها، إذ غير جائز أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف ما أمره الله. وروي هذا عن عمر وابن مسعود وابن عباس. وبه قال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي. وروي عن علي أنها إذا أختارت نفسها أنها واحدة بائنة. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. ورواه ابن خويز منداد عن مالك. وروي عن زيد: بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها أنها ثلاث. وهو قول الحسن البصري، وبه قال مالك والليث، لأن الملك إنما يكون بذلك. وروي عن علي رضي الله عنه أنها إذا أختارت نفسها فليس بشيء. وروي عنه أنها إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية. ذهب جماعة من المدنيين وغيرهم إلى أن التمليك والتخيير سواء، والقضاء ما قضت فيهما جميعا، وهو قول عبدالعزيز بن أبي سلمة. قال ابن شعبان: وقد اختاره كثير من أصحابنا، وهو قول جماعة من أهل المدينة. قال أبو عمر: وعلى هذا القول أكثر الفقهاء. والمشهور من مذهب مالك الفرق بينهما، وذلك أن التمليك عند مالك وهو قول الرجل لامرأته: قد ملكتك، أي قد ملكتك ما جعل الله لي من الطلاق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، فلما جاز أن يملكها بعض ذلك دون بعض وادعى ذلك، كان القول قوله مع يمينه إذا ناكرها. وقالت طائفة من أهل المدينة: له المناكرة في التمليك وفي التخيير سواء في المدخول بها. والأول قول مالك في المشهور. وروى ابن خويز مندد. عن مالك أن للزوج أن يناكر المخيرة في الثلاث، وتكون طلقة بائنة كما قال أبو حنيفة. وبه قال أبو الجهم. قال سحنون: وعليه أكثر أصحابنا. وتحصيل مذهب مالك: أن المخيرة إذا أختارت نفسها وهي مدخول بها فهو الطلاق كله، وإن أنكر زوجها فلا نكرة له. وإن أختارت واحدة فليس بشيء، وإنما الخيار البتات، إما أخذته وإما تركته، لأن معنى التخيير التسريح، قال الله تعالى في آية التخيير}فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا} فمعنى التسريح البتات، قال الله تعالى واختلفت الرواية عن مالك متى يكون لها الخيار، فقال مرة: لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو الاشتغال بما يدل على الإعراض. فإن لم تختر ولم تقض شيئا حتى أفترقا من مجلسهما بطل ما كان من ذلك إليها، وعلى هذا أكثر الفقهاء. وقال مرة: لها الخيار أبدا ما لم يعلم أنها تركت، وذلك يعلم بأن تمكنه من نفسها بوطء أو مباشرة، فعلى هذا إن منعت نفسها ولم تختر شيئا كان له رفعها على الحاكم لتوقع أو، فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها. وعلى القول الأول إذا أخذت في غير ذلك من حديث أو عمل أو مشي أو ما ليس في التخيير بشيء كما ذكرنا سقط تخييرها. واحتج بعض أصحابنا لهذا القول بقوله تعالى قلت: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا، ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما} قال العلماء: لما اختار نساء النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم شكرهن الله على ذلك فقال تكرمة لهن قال قوم: لو قدر الزنى من واحدة منهن - وقد أعاذهن الله من ذلك - لكانت تحد حدين لعظم قدرها، كما يزاد حد الحرة على الأمة. والعذاب بمعنى الحد، قال الله تعالى قال أبو رافع: كان عمر رضي الله عنه كثيرا ما يقرأ سورة يوسف وسورة الأحزاب في الصبح، وكان إذا بلغ }يا نساء النبي} رفع بها صوته، فقيل له في ذلك فقال: (أذكرهن العهد). قرأ الجمهور}من يأت} بالياء. وكذلك }من يقنت} حملا على لفظ }من}. والقنوت الطاعة، وقد تقدم. وقرأ يعقوب}من تأت} و}تقنت} بالتاء من فوق، حملا على المعنى. وقال قوم: الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنى واللواط. وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي. وإذا وردت منعوتة فهي عقوق الزوج وفساد عشرته. وقالت فرقة: بل قوله }فاحشة مبينة} تعم جميع المعاصي. وكذلك الفاحشة كيف وودت. وقرأ ابن كثير }مبينة} بفتح الياء. وقرأ نافع وأبو عمرو بكسرها. وقرأت فرقة}يضاعف} بكسر العين على إسناد الفعل إلى الله تعالى وقرأ أبو عمرو فيما روى خارجة }يضاعف} بالنون المضمومة ونصب }العذاب} وهذه قراءة ابن محيصن. وهذه مفاعلة من واحد، كطارقت النعل وعاقبت اللص. وقرأ نافع وحمزة والكسائي }يضاعف} بالياء وفتح العين، }العذاب} رفعا. وهي قراءة الحسن وابن كثير وعيسى. وقرأ ابن كذ وابن عامر }نضعف} بالنون وكسر العين المشددة، }العذاب} نصبا. قال مقاتل هذا التضعيف في عذاب إنما هو في الآخرة، لأن إيتاء الأجر مرتين أيضا في الآخرة. وهذا حسن، لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتين بفاحشة توجب حدا. وقد قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وإنما خانت في الإيمان والطاعة. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعدن به }ضعفين} هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فكذلك الأجر. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، اللهم إلا أن يكون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لا ترفع عنهن حدوة الدنيا عذاب الآخرة، على ما هي حال الناس عليه، بحكم حديث عبادة بن الصامت. وهذا أمر لم يرو في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولا حفظ تقرره. وأهل التفسير على أن الرزق الكريم الجنة، ذكره النحاس. {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا} قوله تعالى}يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} يعني في الفضل والشرف. وقال}كأحد} ولم يقل كواحدة، لأن أحدا نفي من المذكر والمؤنث والواحد والجماعة. وقد يقال على ما ليس بآدمي، يقال: ليس فيها أحد، لا شاة ولا بعير. وإنما خص النساء بالذكر لأن فيمن تقدم آسية ومريم. وقد أشار إلى هذا قتادة، وقد تقدم في }آل عمران} الاختلاف في التفضيل بينهن، فتأمله هناك. ثم قال}إن اتقيتن} أي خفتن الله. فبين أن الفضيلة إنما تتم لهن بشرط التقوى، لما منحهن الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه، ونزول القرآن في حقهن. قوله تعالى}فلا تخضعن بالقول} في موضع جزم بالنهي، إلا أنه مبني كما بني الماضي، هذا مذهب سيبويه، أي لا تلن القول. أمرهن الله أن يكون قولهن جزلا وكلامهن فصلا، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين، كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه، مثل كلام المريبات والمومسات. فنهاهن عن مثل هذا. }فيطمع الذي في قلبه مرض} }فيطمع} بالنصب على جواب النهي. }الذي في قلبه مرض} أي شك ونفاق، عن قتادة والسدي. وقيل: تشوف الفجور، وهو الفسق والغزل، قال عكرمة. وهذا أصوب، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية. وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ }فيطمِع} بفتح الياء وكسر الميم. النحاس: أحسب هذا غلطا، وأن يكون قرأ }فيطمَعِ} بفتح الميم وكسر العين بعطفه على }تخضعن} فهذا وجه جيد حسن. ويجوز }فيطمع} بمعنى فيطمع الخضوع أو القول. }وقلن قولا معروفا} قال ابن عباس: أمرهن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمرأة تندب إذا خاطبت الأجانب وكذا المحرمات عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول، من غير رفع صوت، فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام. وعلى الجملة فالقول المعروف: هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس. {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} قوله تعالى}وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} }وقرن} قرأ الجمهور }وقرن} بكسر القاف. وقرأ عاصم ونافع بفتحها. فأما القراءة الأولى فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الوقار، تقول: وقر يقر وقارا أي سكن، والأمر قر، وللنساء قرن، مثل عدن وزن. والوجه الثاني: وهو قول المبرد، أن يكون من القرار، تقول: قررت بالمكان (بفتح الراء) أقر، والأصل أقررن، بكسر الراء، فحذفت الراء الأولى تخفيفا، كما قالوا في ظللت: ظللت، ومسست: مست، ونقلوا حركتها إلى القاف، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف. قال أبو علي: بل على إن أبدلت الراء ياء كراهة التضعيف، كما أبدلت في قيراط ودينار، ويصير للياء حركة الحرف المبدل منه، فالتقدير: إقيرن، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحرك الياء بالكسر، فتسقط الياء لاجتماع الساكنين، وتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها فيصير }قرن}. وأما قراءة أهل المدينة وعاصم، فعلى لغة العرب: قررت في المكان إذا أقمت فيه (بكسر الراء) أقر (بفتح القاف)، من باب حمد يحمد، وهي لغة أهل الحجاز ذكرها أبو عبيد في [1] معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع. فأمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفا لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى فقال}ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}. وقد تقدم معنى التبرج في }النور}. وحقيقته إظهار ما ستره أحسن، وهو مأخوذ من السعة، يقال: في أسنانه برج إذا كانت متفرقة، قاله المبرد. قلت: وهذا قول حسن. ويعترض بأن العرب كانت أهل قشف وضنك في الغالب، وأن التنعم وإظهار الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة، وهي المراد بالجاهلية الأولى، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المشية على تغنيج وتكسير وإظهار المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعا. وذلك يشمل الأقوال كلها ويعمها فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكن على تبذل وتستر تام. والله الموفق. ذكر الثعلبي وغيره: أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها. وذكر أن سودة قيل لها: لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقر في بيتي. قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها. رضوان الله عليها قال ابن العربي: لقد دخلت نيفا على ألف قرية فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء نابلس، التي رمي بها الخليل صلى الله عليه وسلم النار، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى. وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن معتكفهن حتى استشهدن فيه. قال ابن عطية: بكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل، وحينئذ قال لها عمار: إن الله قد أمرك أن تقري في بيتك. قال ابن العربي: تعلق الرافضة لعنهم الله - بهذه الآية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ قالوا: إنها خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت تقود الجيوش، وتباشر الحروب، وتقتحم مأزق الطعن والضرب فيما لم يفرض، عليها ولا يجوز لها. قالوا: ولقد حصر عثمان، فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقربت لتخرج إلى مكة، فقال لها مروان: أقيمي هنا يا أم المؤمنين، وردي هؤلاء الرعاع، فإن الإصلاح بين الناس خير من حجك. قال ابن العربي قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن عائشة رضي الله عنها نذرت عنها، نذرت الحج قبل الفتنة، فلم تر التخلف عن نذرها، ولو خرجت في تلك الثائرة لكان ذلك صوابا لها. وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها، وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجوا بركتها، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت إلى الخلق، وظنت هي ذلك فخرجت مقتدية بالله في قوله قوله تعالى}وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله} أي فيما أمر ونهى }إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} قال الزجاج: قيل يراد به نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته، على ما يأتي بيانه بعد و}أهل البيت} نصب على المدح قال: وإن شئت على البدل. قال: ويجوز الرفع والخفض. قال النحاس: إن خفض على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند أبي العباس محمد بن يزيد، قال لا يبدل من المخاطبة ولا من المخاطب، لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين. }ويطهركم تطهيرا} مصدر فيه معنى التوكيد.
|