غزوة الغابة وذي قرد
وبعد قفوله والمسلمين إلى المدينة بليال أغار عُيَيْنَةُ بن حِصن الفَزَارِي في بني عبد الله بن غَطَفَان فاستلحموا لِقاح النبي صلى الله عليه وسلم بالغابة وكان فيها رجل من بني غِفار وامرأته فقتلوا الرجل وحملوا المرأة ونزل بخن سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسْلَمِي وكان ناهضاً فعلاً ثنية الوداع وصاح بأعلى صوته نذيراً بهم. ثم أتبعهم واستنقذ ما كان بأيديهم ولما وقعت الصيحة بالمدينة ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم ولحق به المقداد بن الأسود وعباد بن بشر وسعد بن زيد من بني عبد الأشهل وعُكاشة بن محصن ومُحْرِز بن نَضْلَة الأسدِي وأبو قتادة من بني سلمة في جماعة من المهاجرين والأنصار. وأمَر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد وانطلقوا في اتباعهمِ حتى أدركوهم فكانت بينهم جولة قتل فيها محرز بن نضلة قتله عبد الرحمن بن عُيَيْنة وكان أول من لحق بهم. ثم ولى المشركون منهزمين وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقال له ذو قَرَد فأقام عليه ليلة ويومين ونحر ناقة من لقاحه المسترجعة ثم قفل إلى المدينة. غزوة بني المصطلق وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شعبان من هذه السنة السادسة ثم غزا بني المُصْطَلِق من خزاعة لما بلغه أنهم يجتمعون له وقائدهم الحرث بن أبي ضرار أبو جُويرِيَة أم المؤمنين فخرج إليهم واستخلف أبا ذر الغِفَاري وقيل نُمَيْلَة بن عبد الله اللَّيْثي ولقيهم بالمُرَيْسع من مياههم ما بين قديد والساحل فتزاحفوا وهزمهم اللهّ وقتل من قتل منهم وسُبِيَ النساءُ والذُريةُ وكانت منهم جُوَيْرِيَةُ بنت الحرث سيدهم ووقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها وأدى عليه السلام عنها وأعتقها وتزوجها. وأصيب في هذه الغزاة هشام بن صَبابَة الليْثييّ من بني لَيْثِ بن بكر قتله رجل من رهط عبادة بن الصامِت غلطاً يظنه من العدو. وفي مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الغزاة وفيها قال عبد الله بن أُبي بن سلول: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. لمشاجرة وقعت بين جهجاه بن مسعود الغِفَاريّ أجير عُمَرَ بن الخطاب وبين سنان بن واقد الجُهَنَي حليف بني عوف بن الخزرج فتثاوروا وتباهوا فقال ما قال وسمع زيد بن أرقم مقالته وبلغها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونزلت سورة المنافقين وتبرأ منه إبنه عبد الله وقال: يا رسول اللّه أنت واللّه الأعز وهو الأذل وإن شئت واللّه أخرجته. ثم اعترض أباه عند المدينة وقال: والله لا تدخل حتى يأذن لك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأذن له وحينئذ دخل وقال: يا رسول اللّه بلغني أنك تريد قتل أبي وإني أخشى أن تأمر غيري فلا تدعني نفسي أن أقاتله وإن قتلته وقتلت مؤمناً بكافر ولكن مرني بذلك فأنا والله أحمل إليك رأسه. فجزاه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً وأخبره أنه لا يصل إلى أبيه سوء. وفيها قال أهل الإفك ما قالوا في شأن عائشة مما لا حاجة بنا إلى ذكره وهو معروف في كتب السير. وقد أنزل اللّه القرآن الحكيم ببراءتهما وتشريفهما وقد وقع في الصحيح أن مراجعته وقعت في ذلك بين سعد بن عَبادة وسعد بن مَعاذ وهو وهم ينبغي التنبيه عليه لأن سعد بن معاذ مات بعد فتح بني قُرَيْظَةَ بلا شك داخل السنة الرابعة وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة بعد عشرين شهراً من موت سعد. والملاحاة بين الرجلين كانت بعد غزوة بني المُصْطَلِق بأزيد من خمسين ليلة. والذي ذكر ابن اسحق عن الزُّهْريّ عن عبيد الله بن عبد الله وغيره: إن المقاول لسعد بن عَبادة إنما هو أُسَيْدُ بن الحُصَيْن ولما علم المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج جُوَيْرِيَةَ اعتقوا كل من كان في أيديهم من بني المُصْطَلِقِ أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق بسببها مائة من أهل بيتها. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بعامين الوليد بن عُقْبَةَ بن أبي مَعِيط لقبض صدقاتهم فخرِجوا يتلقونه فخافهم على نفسه ورجع وأخبر أنهم هموا بقتله. فتشاور المسلمون في غزوهم ثم جاء وفدهم منكرين ما كان من رجوع الوليد قبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ونزل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق " الآية. عمرة الحديبية ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السادسة من ذي القعدة منها معتمراً بعد بني المصطلق بشهرين واستنفر الأعراب حوالي المدينَة فأبطأ أكثرهم فخرج بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب فيما بين الثلاثمائة بعد الألف إلى الخمسمائة وساق الهدي وأحرم من المدينة ليعلم الناس أنه لا يريد حرباً. وبلغ ذلك قريشاً فأجمعوا على صده عن البيت وقتاله دونه وقدموا خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغَميم. وورد خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بِعَسفَانَ فسلك على ثَنيةِ المرار حتى نزل الحُدَيْبِيةَ مِن أسفل مكة. وجاء من ورائهم فكرّ خالد في خيله إلى مكة فلما جاء صلى الله عليه وسلم إلى مكة بركت ناقته. فقال الناس خلأت فقال: ما خلأت وما هو لها بِخُلق ولكن حبسها حابس الغيل ثم قال: والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خِطةٍ يسألوني فيها صلَةَ الرَحِم إلا أعطيتهم إياها. ثم نزل واشتكى الناس فقد الماء فأعطاهم سهماً من كِنَانَتِهِ غرزوه في بعض القلوب من الوادي فجاش الماء حتى كفى جميع الجيش. يقال نزل به البَراءُ بن عازِب ثم جرت السفراء بين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش وبعث عُثمان بن عَفَّان بينهما رسولاً. وشاع الخبر أنَّ المشركين قتلوه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وجلس تحت شجرة فبايعوه على الموت وأن لا يفروا وهي بيعة الرضوان. وضرب عليه السلام بيسراه على يمينه وقال: هذه عن عثمان. ثم كان سهيل بن عمرو آخر من جاء من قريش فقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً على أن ينصرف عامه ذلك ويأتي من قابل معتمراً ويدخل مكة وأصحابه بلا سلاح حاشا السيوف في القُرَب فيقيم بها ثلاثاً ولا يزيد وعلى أن يتصل الصلح عشرة أعوام يتداخل فيه الناس ويؤمن بعضهم بعضاً. وعلى أن من هاجر من الكفار إلى المسلمين من رجل أو امرأه يرد إلى قومه ومن ارتد من المسلمين إليهم لم يردوه. وعظم ذلك على المسلمين حتى تكلم فيه بعضهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم أن هذا الصلح سبب لأمن الناس وظهور الإسلام وأن الله يجعل فيه مَزَجاً للمسلمين وهو أعلم بما علَمه ربه. وكتب الصحيفة علي وكتب في صدرها: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأبى سهيل من ذلك وقال: لو نعلم أنك رسول اللّه ما قاتلناك. فأمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علياً أن يمحوها فأبى وتناول هو الصحيفة بيده ومحا ذلك وكتب محمد بن عبد اللّه. ولا يقع في ذهنك من أمر هذه الكتابة ريب فإنها قد ثبتت في الصحيح وما يعترض في الوهم من أن كتابته قادحة في المعجزة فهو باطل. لأن هذه الكتابة إذا وقعت من غير معرفة بأوضاع الحروف ولا قوانين الخط وأشكالها بقيت الأمية على ما كانت عليه وكانت هذه الكتابة الخاصة من إحدى المعجزات انتهى. ثم أتى أبو جندل بن سهيل يوسف في قيوده وكان قد اسلم فقال سهيل: هذا أول ما نقاضي عليه. فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيه وعظم ذلك على المسلمين. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أبا جندل أن الله سيجعل له فرجَاَ. وبينما هم يكتبون الكتاب إذ جاءت سرية من جهة قريش قيل ما بين الثلاثين والأربعين يريدون الإيقاع بالمسلمين فأخذتهم خيول المسلمين وجاءوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم وإليهم ينسب العتيقيون ولما تم الصلح وكتابه أمر رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم أن ينحروا ويحلقوا فتوقفوا فغضب حتى شكى إلى زوجته أم سلمة فقالت: يا رسول الله أخرج وانحر واحلق فإنهم متابعوك فخرج ونحر وحلق رأسه حينئذ خراش بن أُمًيّةَ الخُزاعي ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وما فتح من قبله فتح كان أعظم من هذا الفتح. قال الزهري: لما كان القتال حيث لا يلتقي الناس فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس بعضهم بعضاً فالتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالإسلام أحداً يفعل شيئاً إلا دخل فيه. فلقد دخل في ذينك السنتين في الإسلام مثلما كان قبل ذلك أو أكثر. ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لحقه أبو بصير عُتْبَة بن أُسَيْد بن حارثةَ هاربأ وكان قد أسلم وحبسه قومه بمكة وهو ثقفي من حلفاء بني زُهْرَةَ. فبعث إليه الأزهِرُ بن عبد عَوْف عم عبد الرحمن بن عوف والأخنس بن شريف سيد بني زُهْرَةَ رجلاً من بني عامر بن لُؤي مع مولىً لهم. فأسلمه النبي صلى الله عليه وسلم فاحتملاه. فلما نزلوا بذي الحليفة أخذ أبو بصير السيف من أحد الرجلين ثم ضرب به العَامِرَيّ فقتله وفَرّ الآخرون. وأتى أبو بصير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! قد وفت ذمتك وأطلقني الله. فقال عليه السلام: وَيْلُمِّهِ. مسعر حرب لو كان له رجال فبكى. ففطن أبو بصير من لحن هذا القول أنه سيرده. وخرج إلى سيف البحر عليه طريق قريش إلى الشام وانضاف إليه جمهور من يفرّ عن قريش ممَّن أراد الإسلام. فآذوا قريشاً وقطعوا على رفاقهم وسابِلَتِهِم. فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمهم بالمدينة. ثم هاجرت أم كلثوم بنت عُقْبَةَ بن أبي مَعِيط. وجاء فيها أخواها عَمَارَةَ والوليد فمنع الله من ردِّ النساء وفسخ ذلك الشرط المكتتب. ثم نسخت براءةَ ذلك كلِّه وحرَّم الله حينئذ على المسلمين إمساك الكوافر في عصمتهم فانفسخ نكاحهن. ارسال الرسل إلى الملوك قال ابن اسحاق: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين الحُدَيْبيًةِ ووفاته رجالاً من أصحابه إلى ملوك العرب والعجم دعاة إلى الله عز وجلّ. فبعث سَلِيطَ بن عمرو بن عبد شمس بن عَبْدِ وِدّ أخا بني عامر بن لُؤَي إلى هَوْذَةَ بن عليٍّ صاحب اليمامة. وبعث العلاء ابن الحَضْرَمِيّ إلى المنذر بن ساوى أخي بني عبد القَيْس صاحب البحرين وعمرو بن العاص إلى جيفر بن جَلَنْدَى بن عامر بن جلندى صاحب عُمان. وبعث حاطِبَ بن أبي بَلْتَعَةَ إلى المُقَوْقَس صاحب الإسكندرية فأدىّ إليه كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأهدى المُقَوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جوارٍ منهن مارِيَةُ أم إبراهيم ابنه. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دِحْيَةَ بن خليفة الكَلْبيّ إلى قيصر وهو هِرَقْل ملك الروم فوصل إلى بُصْرى وبعثه صاحب بُصرى إلى هرقل. وكان يرى في ملاحمهم أن ملك الختان قد ظهر وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول اللهّ إلى هِرَقْل عظيم الروم! السلام على من اتَّبَعَ الهُدى. أما بعد اسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللهُ أجْرَكَ مَرَّتَيْن فإن تَوَلَيْتَ فإن عليك إثم الارِيسِييِّن. وفي رواية: إثم الأكَارين عليك تعيا بحمله. فطلب من في مملكته من قوم النبي صلى الله عليه وسلم فأحضروا له من غزة وكان فيهم أبو سفيان فسأله كما وقع في الصحيح فأجابه وعلم أحواله وتفرس صحة أمره وعرض على الروم أتباعه فأبوا ونفروا فلاطفهم بالقول وأقصر. ويروى عن ابن اسحق أنه عرض عليهم الجزية فأبوا فعرض عليهم أن يصالحوا بأرض سورية. قالوا: وهي أرض فِلَسْطين والأردن ودِمَشْقَ وحِمْصَ وما دون الدرب. وما كان وراء الدرب فهو الشام. . . فأبوا قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب الأسَدِي أخا بني أسد بن خُزَيْمَةَ إلى المنذر بن الحرث بن شَمرِ الغَساني صاحب دمشق وكتب معه: السلام على من اتَبَعَ الهدَى وآمن به أدعوك إلى أن تؤمن باللّه وحده لا شريك له يبقى لك ملكك. فلما قرأ الكتاب قال: من ينزع ملكي أنا سائر إليه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: باد ملكه. قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أُميةَ الضمري إلى النجاشي في شأن بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشِيّ الأصْحَم الحبشة سلام عليك! فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم الطيبة البتول الحصينة فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه وإِني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين فإذا جاءوك فاقرهم ودع التَجَرّي وإني أدعوك وجنودك إلى اللّه فلقد بلَّغت ونصحت فاقبلوا نُصْحي والسلام على من اتبع الهدى. فكتب إِليه النجاشي: إلى محمد رسول اللّه من النجاشي الأصحم بن الحُرّ. . . سلام عليك يا رسول اللّه ورحمة الله وبركاته. أحمد اللّه الذي لا إِله إِلا هو الذي هدانا للإسلام أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول اللّه. فيما ذكرت من أمر عيسى فوربّ السماء والأرض إن عيسى ما يزيد بالرأي على ما ذكرت أنه كما قلت وقد عرفنا ما بعثت به إِلينا وقد قربنا ابن عمك وأصحابه فأشهد إنك رسول اللّه صادقاً مصدقاً فقد بايعتك وبايعت ابن عمك واسلمت للّه ربّ العالمين. وقد بعثت إليك بابني أرخا الأصحم فإني لا أملك إِلا نفسي. وإِن شئت أن آتيك فعلت يا رسول اللّه فإني أشهد أن الذي تقول حق والسلام عليك فذكر أنه بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة فغرقت بهم وقد جاء أنه أرسل إلى النجاشي ليزوّجه أم حُبَيْبَة وبعث إليه بالخطبة جاريته فأعطته أوضاحاً وفتحاً ووكلت خالد بن سعيد بن العاص فزوّجها ودفع النجاشي إلى خالد بن سعيد أربعمائة دينار لصداقها وجاءت إليها بها الجارية فأعطتها منها خمسين مثقالاً فردّت الجارية ذلك بأمر النجاشي. وكانت الجارية صاحبة دُهْنِهِ وثيابه. وبعث إليها نساء النجاشي بما عندهن من عودٍ وعَنبَر وأركبها في سفينتين مع بقية المهاجرين فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وبلع أبا سفيان تزويج أم حبيبة منه فقال: ذلك الفحل الذي لا يقدع أنفه. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه السنة إلى كسرى وبعث بالكتاب عبد اللّه بن حُذَافَةَ السهمي وفيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس! سلام على من اتَّبَعَ الهُدى وآمن بالله ورسلِه. أما بعد فإني رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حياً. أسلِم تسلم فإن أبيت فعليك إِثم المجوس. فمزق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مزَّق اللّه ملكه. وفي رواية ابن اسحق بعد قوله وآمن باللّه ورسله وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له وأن محمدأ عبده ورسوله وأدعوك بدعاء اللّه فإني أنا رسول اللّه إلى الناس كافة لأنْذِر من كان حياً ويحق القول على الكافرين. - فإن أبيت فإثم الأريسيين عليك قال: ثم كتب كسرى إلى باذان وهو عامله على اليمن أن أبعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جَلِدَيْن فليأتَياني به. فبعث باذان قهرمانه بانَوَيْهِ وكان حاسباً كاتباً بكتاب فارس ومعه خرخسرة من الفرس وكتب إليه معهما أن ينصرف إلى كسرى وقال لقهرمانه إختبر الرجل وعرفني بأمره وأول ما قدما الطائف وسألا عنه فقيل هو بالمدينة. وفرح من سمع بذلك من قريشٍ وكانوا بالطائف فقالوا: قطب له كسرى وقد كُفِيتُمُوه وقَدِما علم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة فكلَّمه بانَوَيْه وقال: إِنَّ شاهِنْشَاه قد كتب إلى الملك باذان أن يبعث إَليه من يأتيه بك وبعثني لتنطلق معي ويكتب معه إليك فينفعك وإِن أبيت فهو من علمت ويهلك قومك ويخرب بلادك. وكانا قد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فنهاهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالا: أمرنا به ربنا يعنون به كِسْرَى فقال لهما: لكنّ ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقصّ شاربي لم أؤخرهما إلى غد. وجاءه الوحي بأن اللّه يسلِّط على كسرى ابنه شيرويه فيقتله ليلة كذا من شهر كذا لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع فدعاهما وأخبرهما فقالا: هل تدري ما تقول يحزنانه عاقبة هذا القول فقال: اذهبا وأخبراه بذلك عني وقولا له: إِن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى وإِنِ اسلمت أعطيتك ما تحت يدك وملكتك على قومك كل الأبناء وأعطى خرخسرة قطعةَ فيها ذهب وفضة كان بعض الملوك أهداها له. فقد على باذان وأخبراه فقال: ما هذا كلام ملك ما أرى الرجل إِلا نبياً كما يقول ونحن ننتظر مقالته فلم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: أما بعد فإني قد قتلت كسرى ولم أقتله إِلا غضباً لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم وتسخيرهم في ثغورهم. فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قِبَلَكَ وأنظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه كثيراً إِليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه فلما بلغ باذان الكتاب وأسلمت الأبناء تسعة من فارس ممَّن كان منهم باليمن. وكانت حِمْيَر ُتسمي خَرْخَسْرَةَ ذا المفخرة للمنطقة التي أعطاه إِياها النبي صلى الله عليه وسلم والمنطقة بلسانهم المفخرة وقد كان بانويه قال لباذان ما كلمت رجلاً قط أهيب عندي منه فقال: هل معك شرط قال لا! قال الواقدي: وكتب إلى المقوقس عظيم القبط يدعوه إلى الإسلام فلم يسلم. غزوة خيبر ثم خرج رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم من المدينة غازياً إلى خيبر في بقية المحًرّم آخر السنة السادسة وهو في ألف وأربعمائة راجل ومائتي فارس. واستخلف نميلة بن عبد اللّه الليْثي وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب وسلك عن الصَهْبَاء حتى نزل بواديها إلى الرجيع فحيل بينهم وبين عَطَفَان. وقد كانوا أرادوا إمداد يهود خيبر فلما خرجوا لذلك قذف اللهّ في قلوبهم الرُّعْب لِحِسٍّ سمعوه من ورائهم فانصرفوا وأقاموا في أماكنهم. وجعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يفتح حصون خيبر حِصْناً حِصْناً فافتتح أولاً منها حصن ناعم وألقيت على محمود بن سلمة من أعلاه رحىً فقتله. ثم افتتح القَمُوصُ حِصن ابن أبي الحُقَيْقِ وأصيبت منهم سبايا: كانت منهن صَفِيَّةُ بنت حييَّ بن أخْطَبَ وكانت عروساً عند كنانة بن الربيع بن أبي الحُقَيْقِ فوهبها عليه السلام لِدِحْيَة الكلبِي ثم ابتاعها منه بسبعة أرؤس ووضعها عند أم سلمة حتى اعتدّت وأسلمت ثم اعتقها وتزوجها. ثم فتح حصن الصعب بن معاذ ولم يكن بخيبر أكثر طعاماً وودكاً منه. وآخر ما افتتح من حصونهم الوَطيحُ والسلالم حصرهما بضع عشرة ليلة ودفع إلى عليٍّ الراية في حصار بعض حصونه فافتتحه وكان أرمد فتفل في عينيه صلى الله عليه وسلم فبرأ. وكان فتح بعض خيبر عنوة وبعضها وهو الأكثر صلحاً على الجلاء. فقسمها صلى الله عليه وسلم وأقر اليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم ولهم النصف من كل ما تُخْرِج من زرع أو تمر يقرهم على ذلك ما بدا له. فبقوا على ذلك إلى آخر خلافة عُمَرَ فبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: لا يبقى دينان بأرض العرب فأمر بإجلائهم عن خيبر وغيرها من بلاد العرب. وأخذ المسلمون ضياعهم من مغانم خيبر فتصرفوا فيها. وكان متولي قسمتها بين أصحابها جابِرُ بن صَخْرٍ من بني سلمة وزيد بن سلمة من بني النجار. واستشهد من المسلمين جماعة تنيف على العشرين من المهاجرين والأنصار منهم عامر بن الأكوع وغيره. وفي الغزاة حرمت لحوم الحُمًرِ الأهلية فأكْفِئَت القدور وهي تفور بلحمها. وفيها أهدت اليهود زينب بنت الحرث امرأة سلام بن مُشْكِمَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاة مصْلِيَةً وجعلت السُم في الذراع منها وكان أحب اللحم إليه فتناوله ولاك منه مضغة ثم لفظها وقال: إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم وأكل معه بشير بن البَرَّاء بن مَعْروُرٍ وازدرد لقمته فمات منها. ثم دعا باليهودية فاعترفت ولم يقتلها لإسلامها حينئذ على ما قيل ويقال إنه دفعها إلى أولياء بشر فقتلوها. قدوم مهاجرة الحبشة وكان مُهَاجِرَة الحَبَشَةِ قد جاء جماعة منهم إلى مكة قبل الهجرة حين سمعوا بإسلام قريش ثم هاجروا إِلى المدينة وجاء آخرون منهم قبل خيبر بسنتين ثم جاء بقيتهم إِثر فتح خيبر. بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عمرو بن أُمَيَّةَ الضُّمْرِيِّ إِلى النَّجَاشيِّ في شأنهم ليقدمهم عليه فَقَدِم جعفر بن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عمَيْسَ وبنوهما عبد اللهّ ومحمد وعون وخالدُ بن سعيد بن العاص بن أمية وامرأته أمينة بنت خَلَف وابنهما سعيد وأم خالد وعمرو بن سعيد بن العاص ومعَيْقِبً بن أبي فاطمة حليف أبي سعيد بن العاص وولِّي بيت المال لعمر وأبو موسى الأشعري حليف آل عُتْبَةَ بن ربيعة والأسود بن نوفل بن خُوَيْلِدَ ابن أخي خديجة وجهم بن قيس بن شُرْحَبِيلَ بن عبد الدار وابناه عمرو وخزَيْمَةَ والحرث بن خالد بن صخر من بني تميم وعثمان بن ربيعة بن أهبان من بني جمع ومَحْنِيَّة بن جَوْن الزُّبَيدِيّ حليف بني سهم وَليَ لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم الأخماس ومعمر بن عبد الله بن نضْلَهَ من بني عَدِيّ وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عامر بن لُؤَيّ وأبي عمرو مالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس. فكان هؤلاء آخر من بقي بأرض الحبشة ولما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر قبلَ ما بين عينيه والتزمه وقال: ما أدري بأيِّهما أنا أسَرّ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر. . فتح فدك ووادي القرى ولما اتصل بأهل فدك شأن أهل خيبر بعثوا إِلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسألونه الأمان على أن يتركوا الأموال فأجابهم إِلى ذلك فكانت خالصة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف عليه بخَيل ولا ركاب فلم يقسمها ووضعها حيث أمره الله. ثم انصرف عن خيبر إلى وادي القرى فافتتحهما عَنْوَةً وقسمهما وقتل بها غلامه مدغم قال فيه لما شهد له الناس بالجنة: كلالة الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم قبل القسم لتشتعل عليه ناراً ثم رجع إلى المدينة في شهر صفر. عمرة القضاء وأقام صلى الله عليه وسلم بعد خيبر إلى انقضاء شوال من السنة السابعة ثم خرج في ذي القعدة لقضاء العُمْرَة التي عاهده عليها قريش يوم الحُدَيْبيَّة وعقد لها الصلح وخرج ملأ قريش عن مكة عداوة لله ولرسوله وكرهاً في لقائه. فقضى عمرته وتزوج بعد إِحْلاَلِهِ بَميْمُونة بنت الحرث من بني هِلال بن علي ابن خالة ابن عباس وخالد بن الوليد وأراد أن يبني بها وقد تمت الثلاثة التي عاهده قريش على المقام بها وأوصوا إليه بالخروج واعجلوه على ذلك فبنى بها بَسَرْفٍ. غزوة جيش الامراء او غزوة مؤته وأقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه من عمرة القضاء إلى جمادى الأول من السنة الثانية ثم بعث الأمراء إلى الشام. وقد كان أسلم قبل ذلك عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة وهم من كبراء قريش. وقد كان عمرو بن العاص مضى عن قريش إلى النجاشيّ يطلبه في المهاجرن الذين عنده ولقي هنالك عمرو بن أُمَيَّة الضمْرِيّ وافد النبي صلى الله عليه وسلم فغضب النجاشي لما كلمه في ذلك فوفقه اللّه ورأى الحق فأسلم وكتم إسلامه. ورجع إلى قريش ولقي خالد بن الوليد فأخبره فتفاوضا ثم هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالداً مع بعث الشام وأمرَ على الجيش مولاه زيد بن حارثَةَ وكانوا نحواً من ثلاثة آلاف. وقال إن أصابه قَدَرٌ فالأمير جعفر بن أبي طالب فإن أصابه قدر فالأمير عبد اللّه بن رَواحَة فإن أصيب فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلوه أميراً عليهم. وشَيَّعَهُم صلى الله عليه وسلم وودعهم ونهضوا حتى انتهوا إلى مَعَانٍ من أرض الشام فأتاهم الخبر بأن هِرَقْل ملك الروم قد نزل مؤاب من أرض البَلْقَاء في مائة ألف من الروم ومائة ألف من نصارى العرب البادين هنالك من لَحْمٍ وَجُذَامٍ وقبائل قُضَاعَةَ من بَهْرا وبَلِيّ والقَيْس وعليهم مالك بن زَاحِلَةَ من بني اراشَةَ فأقام المسلمون في معان ليلتين يتشاورون في الكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتظار أمره ومدده. ثم قال لهم عبد الله بن رَوَاحَةَ: انتم إنما خرجتم تطلبون الشهادة وما نقاتل الناس بعدد ولا قوه إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فهي إحدى الحُسْنَيَيْنِ إما ظهوره وإما شهادتنا فوافقوه ونهضوا إلى تخوم البلقاء فلقوا جموع هرقل عند قرب مؤتة ورتبوا المَيْمَنَةَ والميسرة واقتتلوا فقتل زيد بن حارثة ملاقياً بصدره الرماح والراية في يده. فأخذها جعفر بن أبي طالب وعقر فرسه ثم قاتل حتى قطعت يمينه فأخذها بيسار فقطعت فقتل كذلك وكان ابن ثلاث وثلاثين سنة. فأخذها عبد الله بن رواحة وتردد عن النزول بعض الشيء ثم صمم إلى العدو فقاتل حتى قتل. فأخذ الراية ثابت بن أقرن من بني العجلان وناولها لخالد بن الوليد فانحاز بالمسلمين وأنذر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل هؤلاء الأمراء قبل ورود الخبر وفي يوم قتلهم. واستشهد مع الأمراء جماعة من المسلمين يزيدون على العشرة أكرمهم الله بالشهادة. ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأحزنه موت جعفر ولقيهم خارج المدينة وحمل عبد الله بن جعفر بين يديه على دابته وهو صبي وبكى عليه واستغفر له وقال: أبدله الله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة فسمي ذا الجناحين.