.فَصْلٌ في الإجابة عن بعض الاستشكالات:
وَمِمَّا اسْتَشْكَلُوهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قبلا} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ الْمَانِعِ مِنَ الْإِيمَانِ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أبعث الله بشرا رسولا} فَهَذَا حَصْرٌ فِي ثَالِثٍ غَيْرِهِمَا.وَأَجَابَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ:
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} إِلَّا إِرَادَةُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةٌ مِنَ الْخَسْفِ وَغَيْرِهِ
{أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} فِي الْآخِرَةِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَهُمْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ إِرَادَةَ الله مَانِعَةٌ مِنْ وُقُوعِ مَا يُنَافِي الْمُرَادَ فَهَذَا حَصْرٌ فِي السَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَانِعُ فِي الْحَقِيقَةِ وَمَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ:
{وَمَا منع النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} إِلَّا اسْتِغْرَابُ بَعْثِهِ بَشَرًا رَسُولًا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ مانعا من الإيمان لأنه لا يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَابِ بِالِالْتِزَامِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَانِعِيَّةِ وَاسْتِغْرَابُهُمْ لَيْسَ مَانِعًا حَقِيقِيًّا بَلْ عَادِيًّا لِجَوَازِ خُلُوِّ الْإِيمَانِ مَعَهُ بِخِلَافِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا حَصْرٌ فِي الْمَانِعِ الْعَادِيِّ وَالْأُولَى حَصْرٌ فِي الْمَانِعِ الْحَقِيقِيِّ فَلَا تَنَافِيَ انْتَهَى.وَقَوْلُهُ(لَيْسَ مَانِعًا مِنَ الْإِيمَانِ) فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ إِنْكَارَهُمْ بَعْثَهُ بَشَرًا رَسُولًا كُفْرٌ مَانِعٌ مِنَ الْإِيمَانِ وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ إِنْكَارَهُمْ بعثته مانع من الإيمان.
.فصل في وقوع التعارض بين الآية والحديث:
وَقَدْ يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ شَيْءٍ لِلتَّنْبِيهِ لِأَمْثَالِهِ فَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى والله يعصمك من الناس وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ شُجَّ يَوْمَ أُحُدٍ وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ كَانَتْ سَنَةَ ثَلَاثٍ مِنَ الْهِجْرَةِ وَسُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ.وَالثَّانِي: بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْأَخِيرِ فَالْمُرَادُ الْعِصْمَةُ مِنَ الْقَتْلِ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَمِلَ كُلَّ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ فَمَا أَشَدَّ تكليف الأنبياء.وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تعملون} مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ».وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: وَنُقِلَ عَنْ سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ- كَانُوا يَقُولُونَ: النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ بِعَفْوِ اللَّهِ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ بِرَحْمَتِهِ وَانْقِسَامُ الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ بِالْأَعْمَالِ وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ:
«إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا نَزَلُوا فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَاءَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَدْلُولُهَا مُخْتَلِفٌ فَفِي الآية باء المقابلة وهي الداخلة على الأعراض وَفِي الْحَدِيثِ لِلسَّبَبِيَّةِ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ بِعِوَضٍ قَدْ يُعْطِي مَجَّانًا وَأَمَّا الْمُسَبَّبُ فَلَا يُوجَدُ بِدُونِ السَّبَبِ وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ هَذَا الْجَوَابَ وَقَالَ الْبَاءُ فِي الْآيَةِ لِلسَّبَبِيَّةِ وَفِي الْحَدِيثِ لِلْعِوَضِ وَقَدْ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ:
«سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَنْجُوَ بِعَمَلِهِ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
«وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا:
{فِي سِتَّةِ أيام} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ بَقِيَ لَمْ يُخْلَقْ فِيهِ شَيْءٌ وَالظَّاهِرُ من الأحاديث الصحاح أن الخلق ابتدأ يَوْمَ الْأَحَدِ وَخُلِقَ آدَمُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ الْأَشْيَاءِ فَهَذَا يَسْتَقِيمُ مَعَ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَوَقَعَ في صحيح مسلم أن الخلق ابتدأ يَوْمَ السَّبْتِ فَهَذَا بِخِلَافِ الْآيَةِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ آدَمَ ثُمَّ يَكُونُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ هُوَ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا بَيْنُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِأَنَّ آدَمَ حِينَئِذٍ لَمْ يكن فيما بينهما.
.النوع السادس والثلاثون: مَعْرِفَةِ الْمُحْكَمِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ متشابهات} قِيلَ وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزل إليهم وَالْمُتَشَابِهُ لَا يُرْجَى بَيَانُهُ وَالْمُحْكَمُ لَا تُوقَفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى الْبَيَانِ.وَقَدْ حَكَى الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ لقوله تعالى:
{كتاب أحكمت آياته} وَالثَّانِي: كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{اللَّهُ نَزَّلَ أحسن الحديث كتابا متشابها} وَالثَّالِثُ:-وَهُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّ مِنْهُ مُحْكَمًا وَمِنْهُ مُتَشَابِهًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أم الكتاب}.فَأَمَّا الْمُحْكَمُ فَأَصْلُهُ لُغَةً الْمَنْعُ تَقُولُ أَحْكَمْتُ بِمَعْنَى رَدَدْتُ وَمَنَعْتُ وَالْحَاكِمُ لِمَنْعِهِ الظَّالِمُ مِنَ الظُّلْمِ وَحَكَمَةُ اللِّجَامِ هِيَ الَّتِي تَمْنَعُ الْفَرَسَ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ مَا أحكمته بالأمر وَالنَّهْيِ وَبَيَانِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.وَقِيلَ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وآتوا الزكاة} وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُنْسَخْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} وَقَوْلِهِ:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ وَهِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ حُكْمًا مَذْكُورَةً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقِيلَ: هُوَ النَّاسِخُ وَقِيلَ: الْفَرَائِضُ وَالْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ وَقِيلَ: الَّذِي وَعَدَ عَلَيْهِ ثَوَابًا أَوْ عِقَابًا وَقِيلَ: الَّذِي تَأْوِيلُهُ تَنْزِيلُهُ بِجَعْلِ الْقُلُوبِ تَعْرِفُهُ عِنْدَ سَمَاعِهِ كَقَوْلِهِ:
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} و:
{ليس كمثله شيء} وقيل: مالا يَحْتَمِلُ فِي التَّأْوِيلِ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا وَقِيلَ مَا تَكَرَّرَ لَفْظُهُ.وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ فَأَصْلُهُ أَنْ يَشْتَبِهَ اللَّفْظُ فِي الظَّاهِرِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ ثَمَرِ الْجَنَّةِ
{وأتوا به متشابها} أَيْ مُتَّفِقَ الْمَنَاظِرِ مُخْتَلِفَ الطُّعُومِ وَيُقَالُ لِلْغَامِضِ: مُتَشَابِهٌ لِأَنَّ جِهَةَ الشَّبَهِ فِيهِ كَمَا تَقُولُ لِحُرُوفِ التَّهَجِّي وَالْمُتَشَابِهُ مِثْلُ الْمُشْكِلِ لِأَنَّهُ أَشْكَلَ أَيْ دَخَلَ فِي شَكْلِ غَيْرِهِ وَشَاكَلَهُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقِيلَ: هُوَ الْمُشْتَبَهُ الَّذِي يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَقِيلَ: هُوَ الْمَنْسُوخُ الْغَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ وَقِيلَ: الْقَصَصُ وَالْأَمْثَالُ وَقِيلَ: مَا أُمِرْتَ أَنْ تُؤْمِنَ بِهِ وَتَكِلَ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ وَقِيلَ: فَوَاتِحُ السُّوَرِ وَقِيلَ: مَا لَا يُدْرَى إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ وَلَا بُدَّ من صرفه إليه كقوله:
{تجري بأعيننا} وَ:
{عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} وَقِيلَ: الْآيَاتُ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا وَقْتَ السَّاعَةِ وَمَجِيءَ الْغَيْثِ وَانْقِطَاعَ الْآجَالِ كَقَوْلِهِ:
{إِنَّ اللَّهَ عنده علم الساعة} وَقِيلَ: مَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا وَالْمُحْكَمُ مَا يَحْتَمِلُ وجها واحدا وقيل: مالا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ إِلَّا بِرَدِّهِ إِلَى غَيْرِهِ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ وَكُلُّهَا مُتَقَارِبٌ.وَفَصْلُ الْخِطَابِ فِي ذلك أن الله سبحانه قَسَمَ الْحَقَّ بَيْنَ عِبَادِهِ فَأَوْلَاهُمْ بِالصَّوَابِ مَنْ عَبَّرَ بِخِطَابِهِ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُرَادِ قَالَ سُبْحَانَهُ:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إليهم ولعلهم يتفكرون} ثم قال:
{ثم إن علينا بيانه} أَيْ عَلَى لِسَانِكَ وَأَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أُمَّتِكَ وَكَلَامُ السَّلَفِ رَاجِعٌ إِلَى الْمُشْتَبَهِ بِوَجْهٍ لَا إِلَى الْمَقْصُودِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالْمُتَشَابِهِ فِي خِطَابِهِ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ إِذَا دَقَّتْ تَدَاخَلَتْ وَتَشَابَهَتْ عَلَى مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِهَا كَالْأَشْجَارِ إِذَا تَقَارَبَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ تَدَاخَلَتْ أَمْثَالُهَا وَاشْتَبَهَتْ أي عَلَى مَنْ لَمْ يُمْعِنِ النَّظَرَ فِي الْبَحْثِ عَنْ مُنْبَعَثِ كُلِّ فَنٍّ مِنْهَا قَالَ تَعَالَى:
{وهو الذي أنشأ جنات معروشات} إِلَى قَوْلِهِ:
{مُتَشَابِهًا} وَهُوَ عَلَى اشْتِبَاكِهِ غَيْرُ مُتَشَابِهٍ وَكَذَلِكَ سِيَاقُ مَعَانِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ قَدْ تَتَقَارَبُ الْمَعَانِي وَيَتَقَدَّمُ الْخِطَابُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ويتأخر بعضه عن بعض لحكمة الله فِي تَرْتِيبِ الْخِطَابِ وَالْوُجُودِ فَتَشْتَبِكُ الْمَعَانِي وَتُشْكِلُ إِلَّا عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ فَيُقَالُ فِي هَذَا الْفَنِّ مُتَشَابِهٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَأَمَّا الْمُتَشَابِهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ فَهُوَ يُشَابِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحَقِّ وَالصِّدْقِ وَالْإِعْجَازِ وَالْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ وَكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَذَمَّ سُبْحَانَهُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ عَلَيْهِمُ افْتِتَانًا وَتَضْلِيلًا فَهُمْ بِذَلِكَ يتبعون ما تشابه عَلَيْهِمْ تَنَاصُرًا وَتَعَاضُدًا لِلْفِتْنَةِ وَالْإِضْلَالِ.
.تَفْرِيعَاتٌ:
.الْأَوَّلُ:
الْأَشْيَاءُ الَّتِي يَجِبُ رَدُّهَا عِنْدَ الْإِشْكَالِ إِلَى أُصُولِهَا فَيَجِبُ رَدُّ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ إلى محكم ليس كمثله شيء وَرَدُّ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الْأَفْعَالِ إِلَى قَوْلِهِ:
{قُلْ فلله الحجة البالغة} وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْمُوهِمَةُ نِسْبَةَ الْأَفْعَالِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ تُرَدُّ إِلَى مُحْكَمِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حرجا} وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ تَنَزُّلِ الْخِطَابِ أَوْ ضَرْبِ مِثَالٍ أَوْ عِبَارَةٍ عَنْ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ أَوْ مَعِيَّةٍ أَوْ مَا يُوهِمُ التَّشْبِيهَ فَمُحْكَمُ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله:
{ولله المثل الأعلى} وقوله:
{قل هو الله أحد}.وَمِنْهُ ضَرْبٌ فِي تَفْصِيلِ ذِكْرِ النُّبُوَّةِ وَوَصْفِ إِلْقَاءِ الْوَحْيِ وَمُحْكَمُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّا نَحْنُ نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقوله:
{وما ينطق عن الهوى}.وَمِنْهُ ضَرْبٌ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمِنْ ثَمَّ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ بِحَسْبِ فَهْمِهِمْ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ.وَمِنْهُ شَيْءٌ يَتَقَارَبُ فِيهِ بَيْنَ اللَّمَّتَيْنِ لَمَّةُ الْمَلَكِ وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ لَعَنَهُ اللَّهُ وَمُحْكَمُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الْآيَةَ وَلِهَذَا قَالَ عَقِبَهُ:
{يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أَيْ عِنْدَمَا يَلْقَى الْعَدُوَّ الَّذِي لَا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ بَلْ بِالشَّرِّ وَالْإِلْبَاسِ.وَمِنْهُ الْآيَاتُ الَّتِي اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ تَحْتَمِلُهَا الْآيَةُ وَلَا يُقْطَعُ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْوَالِ وَأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا مُفَصَّلًا بِحَيْثُ يُقْطَعُ بِهِ.
.الثَّانِي:
أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ أَعْنِي قَوْلَهُ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ الآية مِنْ حَيْثُ تَرَدُّدُ الْوَقْفِ فِيهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى
{إِلَّا اللَّهُ} وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وَتَرَدُّدُ الْوَاوِ فِي
{وَالرَّاسِخُونَ} بَيْنَ الِاسْتِئْنَافِ وَالْعَطْفِ وَمِنْ ثَمَّ ثَارَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ.فَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ أَنَّهَا لِلِاسْتِئْنَافِ وَأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى والراسخون
{إِلَّا اللَّهُ} وَأَنَّ اللَّهَ تَعَبَّدَ مِنْ كِتَابِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ كَمَا تَعَبَّدَهُمْ مِنْ دِينِهِ بِمَا لَا يَعْقِلُونَ وَهُوَ التَّعَبُّدَاتُ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ:
{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ كَوْنِهِ حَالًا فَضْلَةً وَخَبَرًا عُمْدَةً وَالثَّانِي أَوْلَى.وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ أَنَّهَا لِلْعَطْفِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفِ الْخَلْقَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ وَضَعَّفَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ إِلَّا لِيَنْتَفِعَ بِهِ عِبَادُهُ وَيَدُلَّ بِهِ عَلَى مَعْنًى أَرَادَهُ فَلَوْ كَانَ الْمُتَشَابِهُ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ اللَّهِ لَلَزِمَنَا وَلَا يَسُوغُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمِ الْمُتَشَابِهَ فَإِذَا جَازَ أَنْ يَعْرِفَهُ الرَّسُولُ مَعَ قَوْلِهِ:
{وما يعلم تأويله إلا الله} جَازَ أَنْ يَعْرِفَهُ الرَّبَّانِيُّونَ مِنْ صَحَابَتِهِ وَالْمُفَسِّرُونَ مَنْ أُمَّتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: أَنَا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ وَيَقُولُ عِنْدَ قِرَاءَةِ قَوْلِهِ فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ:
{ما يعلمهم إلا قليل} أَنَا مِنْ أُولَئِكَ الْقَلِيلِ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قوله تَعَالَى:
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ في العلم} يعلمونه ويقولون آمنا به وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ حَظٌّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فَضْلٌ عَلَى الْجَاهِلِ لِأَنَّ الْكُلَّ قَائِلُونَ ذَلِكَ وَنَحْنُ لَمْ نَرَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ تَوَقَّفُوا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالُوا: هُوَ مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ بَلْ أَمَرُّوهُ عَلَى التَّفْسِيرِ حَتَّى فَسَّرُوا الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ.فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَعْلَمَ الرَّاسِخُونَ وَاللَّهُ يَقُولُ:
{وَالرَّاسِخُونَ فِي العلم يقولون آمنا به} وَإِذَا أَشْرَكَهُمْ فِي الْعِلْمِ انْقَطَعُوا عَنْ قَوْلِهِ:
{يَقُولُونَ} لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا عَطْفٌ حَتَّى يُوجِبَ لِلرَّاسِخِينَ فِعْلَيْنِ! قُلْنَا: إِنَّ
{يَقُولُونَ} هُنَا فِي مَعْنَى الْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ:
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} قَائِلِينَ آمَنَّا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهَا ** وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي غَمَامَهْأَيْ لَامِعًا.وَقِيلَ الْمَعْنَى: يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ فَحَذَفَ وَاوَ الْعَطْفِ كقوله:
{وجوه يومئذ ناضرة} وَالْمَعْنَى يَقُولُونَ: عَلِمْنَا وَآمَنَّا لِأَنَّ الْإِيمَانَ قَبْلَ العلم محال.إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِيمَانُ مَعَ الْجَهْلِ وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَعْلَمُوهَا لَمْ يَكُونُوا مِنَ الرَّاسِخِينَ وَلَمْ يَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجُهَّالِ.