فصل: باب مَا جَاءَ فِي حِجَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: جمع الوسائل في شرح الشمائل



.باب مَا جَاءَ فِي حِجَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

الْحِجَامَةُ بِالْكَسْرِ اسْمٌ مِنَ الْحَجْمِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْحَجْمُ الْمَصُّ، يَحْجِمُ وَيَحْجُمُ، وَالْمِحْجَمُ وَالْمِحْجَمَةُ بِكَسْرِهِمَا مَا يُحْجَمُ بِهِ وَحِرْفَتُهُ الْحِجَامَةُ كَكِتَابَةٍ انْتَهَى.
وَلَعَلَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا فَالْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ هُوَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ فَتَأَمَّلْ، وَقَدِ احْتَجَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُفْطِرُ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ.
لِخَبَرِ (أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ)، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَأَوَّلَهُ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ مَعْنَاهُ تَعَرَّضَا لِلْإِفْطَارِ بِالْمَصِّ لِلْحَاجِمِ وَالضَّعْفِ لِلْمَحْجُومِ أَوْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَوَّلًا، ثُمَّ نُسِخَ كَمَا وَرَدَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَزْمٍ (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ) بِالتَّصْغِيرِ (سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ كَسْبِ الْحَجَّامِ) أَيْ: طَيِّبٌ أَمْ خَبِيثٌ؟ (فَقَالَ أَنَسٌ) أَيْ: كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنْهُ أَيْضًا لَكِنَّ فِيهِ بَعْضَ مُخَالَفَةٍ يَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا (احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: كَثِيرًا أَوْ مَرَّةً (حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَمُوَحَّدَةٍ وَاسْمُهُ نَافِعٌ عَلَى الصَّحِيحِ.
فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ السَّكَنِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُحَيِّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ لَهُ غُلَامٌ حَجَّامٌ يُقَالُ لَهُ نَافِعٌ أَبُو طَيْبَةَ فَانْطَلَقَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنْ خَرَاجِهِ... الْحَدِيثَ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي اسْمِ أَبِي طَيْبَةَ أَنَّهُ دِينَارٌ وَوَهَّمُوهُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دِينَارًا الْحَجَّامَ تَابِعِيٌّ رَوَى عَنْ أَبِي طَيْبَةَ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَكَذَلِكَ جَزَمَ أَبُو أَحْمَدَ وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى أَنَّ دِينَارًا الْحَجَّامَ يَرْوِي عَنْ أَبِي طَيْبَةَ لَا أَنَّهُ أَبُو طَيْبَةَ نَفْسُهُ وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ فِي الصَّحَابَةِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ أَنَّ اسْمَ أَبِي طَيْبَةَ مَيْسَرَةُ قَالَ مِيرَكُ: وَكَأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بَاسْمِ أَبِي جَمِيلَةَ الرَّاوِي حَدِيثَ الْحِجَامَةِ كَمَا سَيَأْتِي، وَأَمَّا الْعَسْكَرِيُّ فَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ اسْمَهُ وَذَكَرَ ابْنُ الْحَدَّادِ فِي رِجَالِ الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَذَكَرَ الْكِرْمَانِيُّ أَنَّهُ عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ، وَهُوَ وَهْمٌ أَيْضًا بَلْ هُوَ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ مَوْلَاهُ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِكَوْنِهِ قِنًّا لِبَنِي بَيَاضَةَ، صَرَّحَ النَّوَوِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ وَاعْتَرَضَ (فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ) مُثَنَّى صَاعٍ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَهْلِ الْحِجَازِ، وَثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الْعِرَاقِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الصَّاعَ اتِّفَاقًا مِكْيَالٌ يَسَعُ أَرْبَعَةَ أَمْدَادٍ، وَلَكِنَّ الْمُدَّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَقِيلَ: رِطْلٌ وَثُلُثٌ، وَقِيلَ رِطْلَانِ، وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: مِعْيَارُهُ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ أَرْبَعُ حَفَنَاتٍ بِكَفِّ الرَّجُلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَظِيمِ الْكَفَّيْنِ وَلَا صَغِيرِهِمَا، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَكَانٍ يُوجَدُ فِيهِ صَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: وَجَرَّبْتُ ذَلِكَ فَوَجَدْتُهُ صَحِيحًا، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ فَأَعْطَاهُ، وَلَا مُنَافَاةَ إِذِ الْآمِرُ بِالْإِعْطَاءِ يُسَمَّى مُعْطِيًا، قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى فَأَمَرَ بِإِعْطَائِهِ، قَالَ مِيرَكُ: وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ: أَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ أَوْ مُدَّيْنِ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الشَّكُّ مِنْ شُعْبَةَ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ: فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَمْ يَشُكَّ، وَأَفَادَ تَعْيِينَ مَا فِي الصَّاعِ، قُلْتُ: فَقَوْلُهُ (مِنْ طَعَامٍ) يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ بِتَمْرٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَسْبُ الْحَجَّامِ حَرَامًا لَمَا أَمَرَ لَهُ بِالْإِعْطَاءِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ (وَكَلَّمَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَهْلَهُ) أَيْ: مَوَالِيَهُ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: مَوَالِيهِ بَنُو حَارِثَةَ عَلَى الصَّحِيحِ وَمَوْلَاهُ مِنْهُمْ مُحَيِّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْمَوَالِيَ مَجَازًا كَمَا يُقَالُ: بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا رَجُلًا وَيَكُونُ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ وَاحِدًا، قُلْتُ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ، وَالْمُرَادُ: مَوْلَاهُ وَأَتْبَاعُهُ، قَالَ: وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ فَهُوَ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: أَبُو هِنْدٍ (فَوَضَعُوا) أَيْ: مَوَالِيهِ عَنْهُ (مِنْ خَرَاجِهِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ مَا يُوَظَّفُ عَلَى الْمَمْلُوكِ كُلَّ يَوْمٍ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مِقْدَارِهِ (وَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ أَوْ إِنَّ مِنْ أَمْثَلِ دَوَائِكُمْ) أَيْ: مِنْ أَفْضَلِ مَا تَتَدَاوَوْنَ بِهِ (الْحِجَامَةُ) وَفِي الْعِبَارَةِ الْأُولَى مُبَالَغَةٌ لَيْسَتْ فِي الثَّانِيَةِ، قَالَ مِيرَكُ: شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي وَأَظُنُّهُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ جَعْفَرٍ، فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ (إِنَّ مِنْ أَمْثَلِ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ) وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ: عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ (خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ).
وَمِنْ طَرِيقِ مُعْتَمِرٍ: عَنْ حُمَيْدٍ بِلَفْظِ أَفْضَلَ أَيْ: مِنْ غَيْرِ شَكٍّ قَالَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ: الْخِطَابُ بِذَلِكَ لِأَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ أَهْلِ سَائِرِ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ؛ لِأَنَّ دِمَاءَهُمْ رَقِيقَةٌ وَتَمِيلُ إِلَى ظَاهِرِ الْأَبْدَانِ بِجَذْبِ الْحَرَارَةِ الْخَارِجَةِ مِنْهَا إِلَى سَطْحِ الْبَدَنِ.
وَفَصَّلَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هُنَا تَفْصِيلًا حَسَنًا فَقَالَ: إِنَّمَا وَاظَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِاحْتِجَامِ وَأَمَرَ بِهِ وَبَيَّنَ فَضْلَهُ، وَلَمْ يَفْتَصِدْ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ، مَعَ أَنَّ الْفَصْدَ رُكْنٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ الْمَوْجُودَةِ وَرَدِّ الصِّحَّةِ الْمَفْقُودَةِ؛ لِأَنَّ مِزَاجَ بَلَدِهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْبِلَادَ الْحَارَّةَ تُغَيِّرُ الْأَمْزِجَةَ تَغَيُّرًا عَجِيبًا كَبِلَادِ الزِّنْجِ وَالْحَبَشَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْبِلَادَ فِي غَايَةِ الْحَرَارَةِ فَلِهَذَا تُسَخِّنُ الْمِزَاجَ وَتُجَفِّفُهُ وَتَحْرِقُ ظَاهِرَ الْبَدَنِ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ تَجْعَلُ أَلْوَانَ أَهْلِهَا سُودًا وَشُعُورَهُمْ إِلَى الْجُعُودَةِ، وَتُدَقِّقُ أَسَافِلَ أَبْدَانِهِمْ وَتُطِيلُ وُجُوهَهُمْ وَتُكَبِّرُ آنَافَهُمْ وَتُجْحِظُ أَعْيُنَهُمْ، جُحُوظُ الْعَيْنِ: خُرُوجُ الْمُقْلَةِ أَوْ عِظَمُهَا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، وَتَخْرُجُ مِنْهُ مِزَاجُ أَدْمِغَتِهِمْ عَنِ الِاعْتِدَالِ فَيَظْهَرُ أَفْعَالُ النَّفْسِ النَّاطِفَةِ فِيهِمْ مِنَ الْفَرَحِ وَالطَّرَبِ وَصَفَاءِ الْأَصْوَاتِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمُ الْبَلَادَةُ لِفَسَادِ أَدْمِغَتِهِمْ، وَفِي مُقَابَلَةِ هَذِهِ الْبِلَادِ فِي الْمِزَاجِ بِلَادُ التُّرْكِ فَإِنَّهَا بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ تُبَرِّدُ الْمِزَاجَ وَتُرَطِّبُهُ وَتَجْعَلُ ظَاهِرَ الْبَدَنِ حَارًّا شَدِيدَ الِالْتِهَابِ؛ لِأَنَّ الْحَرَارَةَ تَمِيلُ مِنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ إِلَى الْبَاطِنِ هَرَبًا مِنْ ضِدِّهَا الَّتِي هِيَ بُرُودَةُ الْهَوَاءِ كَالْحَالِ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ، فَإِنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ تَمِيلُ إِلَى بَاطِنِ الْبَدَنِ لِبُرُودَةِ الْهَوَاءِ فَيَجُودُ بِذَلِكَ الْهَضْمُ وَيَقِلُّ الْأَمْرَاضُ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ قَالَ بُقْرَاطُ: إِنَّ الْأَجْوَافَ فِي الشِّتَاءِ أَسْخَنُ مَا يَكُونُ بِالطَّبْعِ، وَالنَّوْمُ أَطْوَلُ مَا يَكُونُ، وَقَالَ أَيْضًا أَسْهَلُ مَا يَكُونُ إِحْمَالُ الطَّعَامِ عَلَى الْأَبْدَانِ فِي الشِّتَاءِ فَلِهَذَا السَّبَبِ صَارَ الطَّعَامُ الْغَلِيظُ يَسْهُلُ انْهِضَامُهُ كَالْهَرَايِسِ وَاللُّحُومِ الْغِلَاظِ وَالْخُبْزِ الْفَطِيرِ، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا فِي الصَّيْفِ عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَتْ فِي الشِّتَاءِ؛ لِأَنَّ الْحَارَّ الْغَرِيزِيَّ الْمُصَحِّحَ لِلْغِذَاءِ مَائِلٌ إِلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ بِالْمُجَانَسَةِ إِلَى الْجِنْسِ، فَلِذَلِكَ يَفْسُدُ الْهَضْمُ وَيَكْثُرُ الْأَمْرَاضُ وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْإِطْنَابِ أَنَّ بِلَادَ الْحِجَازِ لَمَّا كَانَتْ حَارَّةً يَابِسَةً، فَالْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ بِالضَّرُورَةِ تَمِيلُ إِلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ بِالْمُنَاسَبَةِ الَّتِي بَيْنَ مِزَاجِهَا وَمِزَاجِ الْهَوَاءِ الْمُحِيطِ بِالْأَبْدَانِ فَيَبْرُدُ بَوَاطِنُ الْأَبْدَانِ وَبِهَذَا السَّبَبِ يُدْمِنُونَ أَكْلَ الْعَسَلِ وَالتَّمْرِ وَاللُّحُومِ فِي حَرَارَةِ الْقَيْظِ، وَلَا يَضُرُّهُمْ لِبَرْدِ أَجْوَافِهِمْ وَكَثْرَةِ التَّحَلُّلِ، وَإِذَا كَانَتِ الْحَرَارَةُ مَائِلَةً مِنْ بَاطِنِ الْبَدَنِ إِلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَحْتَمِلِ الْبَدَنُ الْفَصْدَ؛ لِأَنَّ الْفَصْدَ إِنَّمَا يَجْذِبُ الدَّمَ مِنْ أَعْمَاقِ الْعُرُوقِ وَبَوَاطِنِ الْأَعْضَاءِ، وَإِنَّمَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إِلَى الِاحْتِجَامِ؛ لِأَنَّ الْحِجَامَةَ تَجْتَذِبُ الدَّمَ مِنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ فَحَسْبُ، فَافْهَمْ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ الَّتِي أَشْرَفَ عَلَيْهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنُورِ النُّبُوَّةِ، وَقَالَ الْمُوَفَّقُ الْبَغْدَادِيُّ: الْحِجَامَةُ تُنَقِّي سَطْحَ الْبَدَنِ أَكْثَرَ مِنَ الْفَصْدِ، وَالْفَصْدُ لِأَعْمَاقِ الْبَدَنِ، وَالْحِجَامَةُ لِلصِّبْيَانِ وَالْبِلَادِ الْحَارَّةِ أَوْلَى مِنَ الْفَصْدِ وَآمَنُ غَائِلَةً، وَقَدْ تُغْنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَدْوِيَةِ، وَلِهَذَا وَرَدَتِ الْأَحَادِيثُ بِذِكْرِهَا دُونَ الْفَصْدِ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ غَالِبًا مَا كَانَتْ تَعْرِفُ إِلَّا الْحِجَامَةَ، وَقَالَ صَاحِبُ الْهُدَى: التَّحْقِيقُ فِي أَمْرِ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمِزَاجِ، وَالْحِجَامَةُ فِي الْأَزْمَانِ الْحَارَّةِ وَالْأَمَاكِنِ الْحَارَّةِ وَالْأَبْدَانِ الْحَارَّةِ الَّتِي دَمُ أَصْحَابِهَا فِي غَايَةِ النُّضْجِ أَنْفَعُ وَالْفَصْدُ بِالْعَكْسِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْحِجَامَةُ أَنْفَعَ لِلصِّبْيَانِ وَلِمَنْ لَا يَقْوَى عَلَى الْفَصْدِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَيْضًا أَنَّ الْخِطَابَ لِغَيْرِ الشُّيُوخِ لِقِلَّةِ الْحَرَارَةِ فِي أَبْدَانِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: إِذَا بَلَغَ الرَّجُلُ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَحْتَجِمْ، قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّهُ يَصِيرُ فِي انْتِقَاصٍ مِنْ عُمُرِهِ وَانْحِلَالٍ مِنْ قُوَى جَسَدِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَهُ وَهْنًا بِإِخْرَاجِ الدَّمِ، قَالَ مِيرَكُ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْتَقِرْ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَتَعَدَّ بِهِ، وَقَالَ ابْنُ سِينَا فِي أُرْجُوزَتِهِ:
وَمَنْ تَكُنْ عَادَتُهُ الْفَصَادَهْ ** فَلَا يُمْكِنُ قَطْعُ هَذِهِ الْعَادَهْ

ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ يُقَلِّلُ ذَلِكَ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ يَنْقَطِعَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ) بِالْجِيمِ وَاسْمُهُ مَيْسَرَةُ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: أَنَّهُ رَوَى عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَلَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ اتِّفَاقًا (عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَأَمَرَنِي) أَيْ: بِإِعْطَاءِ أُجْرَتِهِ (فَأَعْطَيْتُ الْحَجَّامَ أَجْرَهُ) وَهُوَ الصَّاعَانِ السَّابِقَانِ فَأَفَادَ الْحَدِيثُ تَعْيِينَ مَنْ بَاشَرَ وَجَمَعَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بَيْنَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ» وَبَيْنَ إِعْطَاءِ أُجْرَةِ الْحَجَّامِ بِأَنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ مَا إِذَا كَانَ الْأُجْرَةُ عَلَى مَعْلُومٍ وَمَحَلُّ الزَّجْرِ إِذَا كَانَتْ عَلَى عَمَلٍ مَجْهُولٍ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَكَرِهَ لِلْحُرِّ الِاحْتِرَافَ بِهَا وَحَرُمَ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا وَجَوَّزَ لَهُ الْإِنْفَاقَ عَلَى الرَّقِيقِ وَالدَّوَابِّ، وَأَبَاحَ لِلْعَبْدِ مُطْلَقًا، وَعُمْدَتُهُ حَدِيثُ مُحَيِّصَةَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَسْبِ الْحِجَامَةِ فَنَهَاهُ، وَذَكَرَ لَهُ الْحَاجَةَ فَقَالَ: اعْلِفْ نَوَاضِحَكَ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ أَجْرَ الْحَجَّامِ إِنَّمَا كُرِهَ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ إِعَانَتُهُ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا.
(حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ (حَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ جَابِرٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ مَنْسُوبٌ إِلَى شَعْبٍ بَطْنٍ مِنْ هَمْدَانَ قَالَ: أَدْرَكْتُ خَمْسَمِائَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرَ يَقُولُونَ: عَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ مَرَّ بِهِ ابْنُ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، وَهُوَ يُحَدِّثُ بِالْمَغَازِي فَقَالَ شَهِدْتُ الْقَوْمَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لِأَبِي بَكْرٍ الْهَمْدَانِيِّ: الْزَمِ الشَّعْبِيَّ فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يُسْتَفْتَى وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ بِالْكُوفَةِ وَالْحَسَنُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْعُلَمَاءُ أَرْبَعَةٌ: ابْنُ الْمُسَيَّبِ بِالْمَدِينَةِ، وَالشَّعْبِيُّ بِالْكُوفَةِ، وَالْحَسَنُ بِالْبَصْرَةِ، وَمَكْحُولٌ بِالشَّامِ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ فِي الْأَخْدَعَيْنِ) وَهُمَا عِرْقَانِ فِي جَانِبَيِ الْعُنُقِ (وَبَيْنَ الْكَتِفَيْنِ) وَسَيَجِيءُ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْهَاءِ مَا بَيْنَ الْكَتِفَيْنِ، وَقَالَ مِيرَكُ: هُوَ مُقَدَّمُ الظَّهْرِ مِمَّا يَلِي الْعُنُقَ، وَهُوَ الْكَتَدُ، وَالْحَدِيثُ عَلَى مَا فِي الْمَتْنِ حَسَّنَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ- وَسَلَّمَ- لَمَّا سُمَّ بِخَيْبَرَ احْتَجَمَ ثَلَاثَةً عَلَى كَاهِلِهِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الِاسْتِفْرَاغَ يَنْفَعُ السُّمَّ وَأَنْفَعُهُ الْحِجَامَةُ لَاسِيَّمَا فِي بَلَدٍ أَوْ زَمَنٍ حَارٍّ فَإِنَّ السُّمَّ يَسْرِي فِي الدَّمِ فَتَتْبَعُهُ فِي الْعُرُوقِ وَالْمَجَارِي حَتَّى تَصِلَ إِلَى الْقَلْبِ، وَبِخُرُوجِهِ يَخْرُجُ مَا خَالَطَهُ مِنَ السُّمِّ، ثُمَّ إِنْ كَانَ اسْتِفْرَاغًا عَامًّا أَبْطَلَهُ وَإِلَّا أَضْعَفَهُ فَتَقْوَى الطَّبِيعَةُ عَلَيْهِ وَتَقْهَرُهُ، وَإِنَّمَا احْتَجَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْكَاهِلِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْقَلْبِ لَكِنْ لَمْ تَخْرُجِ الْمَادَّةُ كُلُّهَا بِهِ لِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَكْمِيلِ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي وَدَّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِمُ بَيْنَ الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِجَامَةِ الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ فِي وَرِكِهِ مِنْ وَنًى كَانَ بِهِ.
وَرُوِيَ فِي الْحِجَامَةِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي إِذَا اسْتَلْقَى الْإِنْسَانُ أَصَابَتْهُ الْأَرْضُ مِنْ رَأْسِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّهَا شِفَاءٌ مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ دَاءً.
قَالَ ابْنُ سِينَا: إِنَّ الْحِجَامَةَ فِيهَا تُورِثُ النِّسْيَانَ حَقًّا، وَنَقَلَهُ حَدِيثًا وَلَفْظُهُ مُؤَخَّرُ الدِّمَاغِ مَوْضِعُ الْحِفْظِ وَيُضْعِفُهُ الْحِجَامَةُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ فَهِيَ إِنَّمَا تُضْعِفُهُ إِذَا كَانَتْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ لَهَا كَغَلَبَةِ الدَّمِ فَإِنَّهَا نَافِعَةٌ طِبًّا وَشَرْعًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ احْتَجَمَ فِي عِدَّةِ أَمَاكِنَ مِنْ قَفَاهُ وَغَيْرِهِ بِحَسَبِ مَا دَعَتْ ضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجِمُ ثَلَاثًا: وَاحِدَةً عَلَى كَاهِلِهِ وَاثْنَتَيْنِ عَلَى الْأَخْدَعَيْنِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجِمُ ثِنْتَيْنِ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَوَاحِدَةً فِي الْكَاهِلِ وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْوَتْرِ.
قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ فَصْدُ الْبَاسَلِيقِ يَنْفَعُ حَرَارَةَ الْكَبِدِ وَالطُّحَالِ وَالرِّئَةِ وَمِنَ الشَّوْصَةِ وَذَاتِ الْجَنْبِ وَسَائِرِ الْأَمْرَاضِ الدَّمَوِيَّةِ الْعَارِضَةِ مِنْ أَسْفَلِ الرُّكْبَةِ إِلَى الْوَرِكِ، وَفَصْدُ الْأَكْحَلِ يَنْفَعُ الِامْتِلَاءَ الْعَارِضَ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ إِذَا كَانَ دَمَوِيًّا، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ فَسَدَ، وَفَصْدُ الْقِيقَانِ يَنْفَعُ مِنْ عِلَلِ الرَّأْسِ وَالرَّقَبَةِ إِذَا كَثُرَ الدَّمُ أَوْ فَسَدَ وَفَصْدُ الْوَدَجَيْنِ لِلطُّحَالِ وَالرَّبْوِ وَوَجِعِ الْجَنْبَيْنِ، وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْكَاهِلِ يَنْفَعُ مِنْ وَجِعِ الْمَنْكِبِ وَالْحَلْقِ وَيَنُوبُ عَنْ فَصْدِ الْبَاسَلِيقِ وَالْحِجَامَةُ تَحْتَ الذَّقَنِ تَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ وَالْوَجْهِ وَالْحُلْقُومِ وَتَنْفِي الرَّأْسَ، وَالْحِجَامَةُ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ تَنُوبُ عَنْ فَصْدِ الصَّافِنِ، وَهُوَ عِرْقٌ عِنْدَ الْكَعْبِ وَتَنْفَعُ عَنْ قُرُوحِ الْفَخِذَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَانْقِطَاعِ الطَّمْثِ وَالْحُكَّةِ الْعَارِضَةِ لِلْأُنْثَيَيْنِ، وَالْحِجَامَةُ عَلَى أَسْفَلِ الصَّدْرِ نَافِعَةٌ مِنْ دَمَامِيلِ الْفَخِذِ وَبُثُورِهِ مِنَ النِّقْرِسِ وَالْبَوَاسِيرِ وَدَاءِ الْفِيلِ وَحَكَّةِ الظَّهْرِ، وَمَحَلُّ ذَلِكَ كُلِّهِ إِذَا كَانَ عَنْ دَمٍ هَائِجٍ وَصَادَفَ وَقْتَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْمِقْعَدِ يَنْفَعُ الْأَمْعَاءَ وَفَسَادَ الْحَيْضِ (وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَلَوْ كَانَ) أَيْ: أَجْرُهُ (حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ) وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ حَلَالٌ وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ، وَقَالُوا: هُوَ كَسْبٌ فِيهِ دَنَاءَةٌ وَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ فَحَمَلُوا الزَّجْرَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَتَقَدَّمَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى النَّسْخَ وَأَنَّهُ كَانَ حَرَامًا، ثُمَّ أُبِيحَ وَجَنَحَ إِلَى ذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ قَالَ مِيرَكُ: وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ قُلْتُ هَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ أَرْبَابِ الِاسْتِدْلَالِ فَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ دَلَالَةٌ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمَا مَالُوا إِلَى هَذَا الْمَقَالِ.
(حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا حَجَّامًا) وَهُوَ أَبُو طَيْبَةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ (فَحَجَمَهُ وَسَأَلَهُ) وَفِي نُسْخَةٍ فَسَأَلَهُ (كَمْ خَرَاجُكَ قَالَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ) بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَضَمِّ صَادٍ جَمْعُ صَاعٍ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ لَيْسَ فِي الْقَامُوسِ، وَلَا فِي الصِّحَاحِ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِيهِ أَصْوُعٌ بِالْوَاوِ وَأَصْؤُعٌ بِالْهَمْزِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ آصُعًا مَقْلُوبُ أَصْوُعٍ فَصَارَ أَءْصُعًا بِهَمْزَتَيْنِ، ثُمَّ قُلِبَتِ الثَّانِيَةُ أَلِفًا فَوَزْنُهُ أَعْفُلٌ وَنَظِيرُهُ آبَارٌ، وَآبَارٌ جَمْعُ بِئْرٍ، وَفِي رِوَايَةٍ صَاعَانِ (فَوَضَعَ عَنْهُ صَاعًا وَأَعْطَاهُ أَجْرَهُ) قَالَ مِيرَكُ: وَكَانَ هَذَا هُوَ السَّبَبَ فِي الشَّكِّ الْمَاضِي وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَجْمَعُ الْخِلَافَ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ أَبِي شَيْبَانَ أَنَّ خَرَاجَهُ كَانَ ثَلَاثَةَ آصُعٍ وَكَذَا لِأَبِي يَعْلَى عَنْ جَابِرٍ فَإِنْ صَحَّ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُ كَانَ صَاعَيْنِ وَزِيَادَةً فَمَنْ قَالَ صَاعَيْنِ أَلْغَى الْكَسْرَ وَمَنْ قَالَ ثَلَاثَةً جَبَرَهُ.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَطَّارُ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ) بِفَتْحٍ فَتَشْدِيدِ مِيمٍ (وَجَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ) بِسُكُونِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا لُغَةً، وَهِيَ أَصْلُ السَّيِّدِ (وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ) أَيْ: تَارَةً وَتَارَةً قَالَ مِيرَكُ: وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيِّ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْهُ وَسَعِيدٌ وَثَّقَهُ الْأَكْثَرُونَ وَلَيَّنَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ وَشَاهِدٌ آخَرُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ، وَرَوَى الْمُصَنِّفُ أَيْضًا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (خَيْرُ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ يَوْمَ سَابِعَ عَشَرَ وَتَاسِعَ عَشَرَ أَوْ وَاحِدٍ وَعِشْرِينَ لَا يَتَبَيَّغْ بِأَحَدِكُمُ الدَّمُ فَيَقْتُلَهُ) وَأَبُو دَاوُدَ فِي سُنَّتِهِ (مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَةَ عَشَرَ أَوْ تِسْعَةَ عَشَرَ أَوْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ) أَيْ: كُلِّ دَاءَ سَبَبُهُ غَلَبَةُ الدَّمِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي تَعْيِينِ الْأَيَّامِ لِلْحِجَامَةِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ رَفَعَهُ (الْحِجَامَةُ تَزِيدُ الْحَافِظَ حِفْظًا وَالْعَاقِلَ عَقْلًا فَاحْتَجِمُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَاحْتَجِمُوا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَاجْتَنِبُوا الْحِجَامَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَالْجُمُعَةِ وَالسَّبْتِ وَالْأَحَدِ) أَخْرَجَهُ مِنْ ضَعِيفَيْنِ وَلَهُ طَرِيقٌ ثَالِثَةٌ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ فِي الْإِفْرَادِ وَأَخْرَجَهُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَنَقَلَ الْخَلَّالُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ الْحِجَامَةَ فِي الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا.
وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَأَصَابَهُ مَرَضٌ لِكَوْنِهِ تَهَاوَنَ بِالْحَدِيثِ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْحِجَامَةَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ يَوْمُ الدَّمِ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ فِيهَا الدَّمُ.
أَقُولُ: وَلَعَلَّ الْكَرَاهَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى حَالِ الِاخْتِيَارِ وَنَفْيَهَا عَلَى وَقْتِ الِاضْطِرَارِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نَقَلَهُ الْخَلَّالُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَحْتَجِمُ فِي أَيِّ وَقْتٍ هَاجَ بِهِ الدَّمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْأَطِبَّاءُ عَلَى أَنَّ الْحِجَامَةَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ فِي الرُّبْعِ الثَّالِثِ مِنْ أَرْبَاعِهِ أَنْفَعُ مِنَ الْحِجَامَةِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ.
قَالَ الْمُوَفَّقُ الْبَغْدَادِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الْأَخْلَاطَ أَوَّلَ الشَّهْرِ تَهِيجُ، وَفِي آخِرِهِ تَسْكُنُ فَأَوْلَى مَا يَكُونُ الِاسْتِفْرَاغُ فِي أَثْنَائِهِ وَعِنْدَ الْأَطِبَّاءِ أَيْضًا: أَنَّ أَنْفَعَ الْحِجَامَةِ مَا يَقَعُ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَةِ مِنَ النَّهَارِ وَأَنْ لَا يَقَعَ عَقِيبَ اسْتِفْرَاغٍ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ جِمَاعٍ، وَلَا عَقِيبَ شِبَعٍ، وَلَا جُوعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْحِجَامَةُ عَلَى الرِّيقِ دَوَاءٌ وَعَلَى الشِّبَعِ دَاءٌ، وَفِي سَبْعَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ شِفَاءٌ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ صِحَّةٌ لِلْبَدَنِ وَلَقَدْ أَوْصَانِي خَلِيلِي جِبْرِيلُ بِالْحِجَامَةِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي بِمَلَأٍ إِلَّا قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أُمَّتَكَ بِالْحِجَامَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَلَيْكَ بِالْحِجَامَةِ يَا مُحَمَّدُ.
وَالْأَمْرُ فِيهَا لِلنَّدْبِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالتَّحَرُّزِ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَتَبَيَّغْ بِكُمُ الدَّمُ فَيَقْتُلَكُمْ» وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ نِعْمَ الْعَبْدُ الْحَجَّامُ يُذْهِبُ الدَّمَ وَيُحَفِّفُ الصُّلْبَ وَيَجْلُو الْبَصَرَ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَكَلَ مِنَ الشَّاةِ الَّتِي سَمَّتْهَا الْيَهُودِيَّةُ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ أُخْتُ الْمِرْحَبِ الْيَهُودِيِّ بِخَيْبَرَ احْتَجَمَ عَلَى كَاهِلِهِ مِنْ أَجْلِهِ.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ) قَالَ النَّوَوِيُّ: إِذَا أَرَادَ الْمُحْرِمُ الْحِجَامَةَ بِغَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنْ تَضَمَّنَتْ قَطْعَ شَعْرٍ فَهِيَ حَرَامٌ لِقَطْعِ الشَّعْرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ بِأَنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا شَعْرَ فِيهِ أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ شَعْرٌ وَلَمْ يُقْطَعْ جَازَتْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَلَا فِدْيَةَ، وَكَرِهَهَا مَالِكٌ وَعَنِ الْحَسَنِ فِيهَا الْفِدْيَةُ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ شَعْرًا، وَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ جَازَ قَطْعُ الشَّعْرِ وَيَجِبُ الْفِدْيَةُ وَخَصَّ أَهْلُ الظَّاهِرِ الْفِدْيَةَ بِشَعْرِ الرَّأْسِ انْتَهَى.
وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ الْفَصْدِ وَرَبْطِ الْجُرْحِ وَالدُّمَّلِ وَقَطْعِ الْعِرْقِ وَقَلْعِ الضِّرْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّدَاوِي إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ارْتِكَابُ مَا نُهِيَ الْمُحْرِمُ عَنْهُ مِنْ تَنَاوُلِ الطِّيبِ وَقَطْعِ الشَّعْرِ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَوْلُهُ (بِمَلَلٍ) ظَرْفٌ لِاحْتَجَمَ وَالْجُمْلَةُ مَا بَيْنَهُمَا حَالِيَّةٌ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ الْأُولَى مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ (عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ) قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: كَذَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ إِلَّا أَنَّ أَبَا دَاوُدَ حَكَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ فَأَرْسَلَهُ وَسَعِيدٌ أَحْفَظُ مِنْ مَعْمَرٍ وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِعِلَّةٍ قَادِحَةٍ قَالَ مِيرَكُ: وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ، وَلَفْظُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ، وَفِي أُخْرَى عَنْهُ أَيْضًا احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَأْسِهِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ وَجَعٍ بِهِ بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ (لَحْيُ جَمَلٍ) وَلَفْظُ حَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ بِلَحْيِ جَمَلٍ مِنْ طَرِيقِ مَكَّةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ، فَظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ فِي مَكَانِ الِاحْتِجَامِ وَمَحَلُّهُ أَيْضًا مِنَ الْبَدَنِ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِالْحَمْلِ عَلَى التَّعَدُّدِ وَجَزَمَ الْحَازِمِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْحِجَامَةَ وَقَعَتْ فِي وَسَطِ الرَّأْسِ كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الَّتِي فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ وَقَعَتْ فِيهَا أَيْضًا وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي إِحْدَى عُمْرَاتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ مِيرَكُ: وَقَوْلُهُ (لَحْيُ جَمَلٍ) وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِالتَّثْنِيَةِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالْإِفْرَادِ وَاللَّامُ مَفْتُوحَةٌ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَالْمُهْمَلَةُ سَاكِنَةٌ، وَجَمَلٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمِيمِ مَوْضِعٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ فِي اسْمِ الْعَقِيقِ، وَقَالَ هِيَ بِئْرُ جَمَلٍ الَّتِي وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي جَهْمٍ فِي التَّيَمُّمِ، وَقَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ وَغَيْرُهُ هِيَ بُقْعَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَهِيَ عَقِبَ الْجُحْفَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ السُّقْيَا وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِلَحْيِ الْجَمَلِ الْآلَةُ الَّتِي احْتَجَمَ بِهَا أَيِ احْتَجَمَ بِعَظْمِ جَمَلٍ، وَهُوَ وَهْمٌ وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ لِمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ حَيْثُ قَالَ بِمَاءٍ يُقَالُ لَهُ لَحْيُ جَمَلٍ، وَقَوْلُهُ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمُهْمَلَةِ، وَيَجُوزُ تَسْكِينُهَا أَيْ: مُتَوَسَّطُهُ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْيَافُوخِ فِيمَا بَيْنَ أَعْلَى الْقَرْنَيْنِ، قَالَ اللَّيْثُ: كَانَتْ هَذِهِ الْحِجَامَةُ فِي فَأْسِ الرَّأْسِ، وَأَمَّا الَّتِي فِي أَعْلَاهُ فَلَا؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا أَعْمَتْ، وَقَوْلُهُ مِنْ شَقِيقَةٍ كَانَتْ بِهِ، قَالَ الشَّيْخُ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَقَافَيْنِ عَلَى وَزْنِ عَظِيمَةٍ وَجَعٌ بِأَحَدِ جَانِبَيِ الرَّأْسِ وَفِي مُقَدَّمِهِ، وَذَكَرَ أَهْلُ الطِّبِّ أَنَّ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ أَبْخِرَةً مُرْتَفِعَةً أَوْ أَخْلَاطًا حَارَّةً أَوْ بَارِدَةً تَرْتَفِعُ إِلَى الدِّمَاغِ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَنْفَذًا أَحْدَثَتِ الصُّدَاعَ فَإِنْ مَالَتْ إِلَى أَحَدِ شِقَّيِ الرَّأْسِ أَحْدَثَتِ الشَّقِيقَةَ، وَإِنْ مَالَتْ إِلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ أَحْدَثَتْ دَاءَ الْبَيْضَةِ قَالَ: وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ رُبَّمَا أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ فَمَكَثَتْ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَا يَخْرُجُ قَالَ وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ أَكْلَةٍ أَكَلَهَا مِنْ شَاةٍ سَمَّتْهَا امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ فَلَمْ يَزَلْ شَاكِيًا.
وَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْمَكَانِ النَّاتِئِ مِنَ الرَّأْسِ فَوْقَ الْيَافُوخِ فَقَالَ هَذَا مَوْضِعُ مِحْجَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُقَيْلٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَمِّيهَا الْمُغِيثَةَ أَمَرَنِي جِبْرِيلُ حِينَ أَكَلْتُ طَعَامَ الْيَهُودِيَّةِ، وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ مِنْ مُرْسَلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: احْتَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِهِ حِينَ طُبَّ يَعْنِي سُحِرَ قَالَ وَوَرَدَ فِي فَضْلِ الْحِجَامَةِ عَلَى الرَّأْسِ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ (الْحِجَامَةُ فِي الرَّأْسِ تَنْفَعُ مِنْ سَبْعٍ: مِنَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالنُّعَاسِ وَالصُّدَاعِ وَوَجَعِ الضِّرْسِ وَالْعَيْنِ) وَعَمْرٌو مَتْرُوكٌ رَمَاهُ الْفَلَّاسُ وَغَيْرُهُ بِالْكَذِبِ قَالَ مِيرَكُ: وَلَكِنْ لِلْحَدِيثِ شَاهِدٌ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الْحَجَّامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبُكَيْرِيِّ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَمَحْدُوَةِ فَقَالَ يَا ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ لِمَ احْتَجَمْتَ وَسَطَ رَأْسِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا ابْنَ حَابِسٍ إِنَّ فِيهَا شِفَاءً مِنْ وَجَعِ الرَّأْسِ وَالْأَضْرَاسِ وَالنُّعَاسِ وَالْبَرَصِ». وَأَشُكُّ فِي الْجُنُونِ، لَيْثٌ شَكَّ، وَهَذَا، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا لَكِنَّ رِجَالَهُ ثِقَاتٌ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَالَ الْأَطِبَّاءُ إِنَّ الْحِجَامَةَ فِي وَسَطِ الرَّأْسِ نَافِعَةٌ جِدًّا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.

.باب مَا جَاءَ فِي أَسْمَاءِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

الْمُرَادُ بِالْأَسْمَاءِ هُنَا أَلْفَاظٌ تُطْلَقُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَلَمًا أَوْ وَصْفًا، وَقَدْ نَقَلَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي كِتَابِهِ الْأَحْوَذِيِّ فِي شَرْحِ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ لِلَّهِ أَلْفَ اسْمٍ وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْفَ اسْمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ بِضْعًا وَسِتِّينَ وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ مِنْهَا تِسْعَةً، وَقَدْ أَفْرَدَ السُّيُوطِيُّ رِسَالَةً فِي الْأَسْمَاءِ النَّبَوِيَّةِ سَمَّاهَا بِالْبَهْجَةِ السَّنِيَّةِ، وَقَدْ قَارَبَتِ الْخَمْسَمِائَةٍ وَلَخَّصْتُ مِنْهَا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا عَلَى طِبْقِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، وَذَكَرْتُهَا فِي ذَيْلِ شَرْحِ الصَّلَوَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْمُسَمَّى بِالصَّلَاةِ الْعُلْوِيَّةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الْمُسَمَّى (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ: وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا (قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ: جُبَيْرٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لِي أَسْمَاءً) هَذَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ إنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ أَيْ: أَخْتَصُّ بِهَا لَمْ يُسَمَّ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي إِذْ هِيَ مُعْظَمُهَا أَوْ هِيَ مَشْهُورُهَا فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَالْحَصْرُ الَّذِي أَفَادَهُ تَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ إِضَافِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ لِوُرُودِ الرِّوَايَاتِ بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا مَا يَأْتِي عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَفِي رِوَايَةٍ سِتَّةً وَزَادَ الْحَاتِمُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِي: فِي الْقُرْآنِ سَبْعَةُ أَسْمَاءٍ: مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَيس وَطه وَالْمُزَّمِّلُ وَالْمُدَّثِّرُ وَعَبْدُ اللَّهِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْعَدَدَ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الرَّاوِي بِالْمَعْنَى قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِيهِ نَظَرٌ لِتَصْرِيحِهِ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ (إِنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ) قَالَ مِيرَكُ: وَفِي هَذَا الْكَلَامِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ قُلْتُ: لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمُصَادَرَةِ (أَنَا مُحَمَّدٌ) اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ التَّحْمِيدِ مُبَالَغَةً نُقِلَ مِنَ الْوَصْفِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ يُسَمَّى بِهِ لِكَثْرَةِ خِصَالِهِ الْمَحْمُودَةِ أَوْ لِأَنَّهُ حُمِدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ أَوْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَمِدَهُ حَمْدًا كَثِيرًا بَالِغًا غَايَةَ الْكَمَالِ وَكَذَا الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ أَوْ تَفَاؤُلًا؛ لِأَنَّهُ يَكْثُرُ حَمْدُهُ كَمَا وَقَعَ أَوْ لِأَنَّهُ يَحْمَدُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ وَهُمْ تَحْتَ لِوَاءِ حَمْدِهِ فَأَلْهَمَ اللَّهُ أَهْلَهُ أَنْ يُسَمُّوهُ بِهَذَا الِاسْمِ لِمَا عَلِمَ مِنْ حَمِيدِ صِفَاتِهِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأَسْمَاءَ تَنْزِيلٌ مِنَ السَّمَاءِ (وَأَنَا أَحْمَدُ) أَيْ: أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ أَوْ أَحْمَدُ الْمَحْمُودِينَ فَهُوَ أَفْعَلُ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ كَـأَعْلَمُ أَوْ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَـأَشْهَرُ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ فِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ أَكْثَرُهُ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْسَبُ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ قَالَ السُّهَيْلِيُّ وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الشِّفَاءِ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ؛ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: يَفْتَحُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَحَامِدَ لَمْ يَفْتَحْ بِهَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ قَبْلِهِ فَيَحْمَدُ رَبَّهُ بِهَا وَلِذَلِكَ يُعْقَدُ لَهُ لِوَاءُ الْحَمْدِ وَيُخَصُّ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ كَمَا اخْتُصَّ بِسُورَةِ الْحَمْدِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدًا حَتَّى كَانَ أَحْمَدَ حَامِدٍ رَبَّهُ فَنَبَّأَهُ وَشَرَّفَهُ وَلِذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِ مُوسَى اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمَّةِ أَحْمَدَ وَقَوْلِ عِيسَى (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)؛ لِأَنَّ حَمْدَهُ لِرَبِّهِ كَانَ قَبْلَ حَمْدِ النَّاسِ لَهُ فَلَمَّا بُعِثَ كَانَ مُحَمَّدًا ذُكِرَ بِالْفِعْلِ فَبِأَحْمَدَ ذُكِرَ قَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ بِمُحَمَّدٍ وَلِذَلِكَ فِي الشَّفَاعَةِ يَحْمَدُ رَبَّهُ أَوَّلًا بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ الَّتِي لَمْ يَفْتَحْ بِهَا عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ فَيَكُونُ أَحْمَدَ الْحَامِدِينَ لِرَبِّهِ، ثُمَّ يُشَفَّعُ فَيَشْفَعُ فَيُحْمَدُ عَلَى شَفَاعَتِهِ فَيَكُونُ أَحْمَدَ الْمَحْمُودِينَ فَتَقَدَّمَ أَحْمَدُ ذِكْرًا وَوُجُودًا وَدُنْيَا وَأُخْرَى انْتَهَى.
هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْحَمَّادِ خِلَافًا لِمَا فَهِمَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فَإِنَّهُ مُبَالِغُ الْحَامِدِ فَأَيْنَ هُوَ مِنَ الْأَحْمَدِ الْمُطْلَقِ مَعَ أَنَّ صِيغَةَ الْفِعَالِ قَدْ تَأْتِي لِغَيْرِ الْمُبَالَغَةِ كَمَا لَا يَخْفَى بَلْ مِنْ صِفَةِ أُمَّتِهِ الْحَمَّادُونَ عَلَى مَا وَرَدَ، وَلَعَلَّهُ قَدَّمَ مُحَمَّدًا فِي الْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ أَشْهَرَ مِنْ أَحْمَدَ وَأَظْهَرَ بَلْ وَرَدَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ أَنَّهُ سُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ قَبْلَ الْخَلْقِ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَوَرَدَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّ اسْمَ مُحَمَّدٍ مَكْتُوبٌ عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ، وَفِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَفِي قُصُورِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا وَعَلَى نُحُورِ الْحُورِ الْعِينِ وَعَلَى قَصَبِ آجَامِ الْجَنَّةِ وَوَرَقِ طُوبَى وَسِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَعَلَى أَطْرَافِ الْحُجُبِ وَبَيْنَ أَعْيُنِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ مَزَايَاهُ مُوَافَقَتُهُ لِمَحْمُودٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى قَالَ حَسَّانُ:
وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ** فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ

فَفِي الْجَنَّةِ لِلِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ مَزِيَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْبَغِي تَحَرِّي التَّسْمِيَةِ بِهَا فَفِي خَبَرِ أَبِي نُعَيْمٍ: قَالَ اللَّهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا عَذَّبْتُ أَحَدًا يُسَمَّى بِاسْمِكَ فِي النَّارِ.
وَوَرَدَ: إِنِّي آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنِ اسْمُهُ أَحْمَدُ، وَلَا مُحَمَّدٌ، وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ عَنْ عَلِيٍّ: مَا مِنْ مَائِدَةٍ وُضِعَتْ فَحَضَرَ عَلَيْهَا مَنِ اسْمُهُ أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدٌ إِلَّا قَدَّسَ اللَّهُ ذَلِكَ الْمَنْزِلَ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ هَذَا.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَمِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ أَنَّهُ لَمْ يُسَمَّ بِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ صِيَانَةً لِهَذَا الِاسْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَرُبَ زَمَانُهُ وَبَشَّرَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِقُرْبِهِ سَمَّى قَوْمٌ أَوْلَادَهُمْ بِذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ وَأَشْهَرُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: ثَلَاثَةٌ أَوْ سِتَّةٌ (وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ) إِمَّا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ وَنَحْوِهَا مِمَّا وَعَدَ لَهُ أَنْ يَبْلُغَ مُلْكُ أُمَّتِهِ وَإِمَّا بِمَعْنَى الْغَلَبَةِ بِالْحُجَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: تَخْصِيصُ مَحْوِ الْكُفْرِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ عُقَيْلٍ وَحَمْزَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ: «يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ» انْتَهَى.
وَغَرَابَتُهُ لَا يَخْفَى؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى الْعَهْدِ لَا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِ فِي الْوُجُودِ، وَقِيلَ إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَغْلَبِ أَوْ أَنَّهُ يُمْحَى بِهِ لَكِنْ بِالتَّدْرِيجِ إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ فِي زَمَنِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْجِزْيَةَ، وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ كُفْرَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مَوْجُودٌ حِينَئِذٍ وَيُجَابُ بِأَنَّهُ وُجِدَ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا عَدَمُ الِاسْتِمْرَارِ فَأَمْرٌ آخَرُ بَلْ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى الْكَمَالِ تَعَقَّبَهُ الزَّوَالُ، وَلِذَا لَا تَقُومُ السَّاعَةُ، وَفِي الْأَرْضِ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ.
قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَفِي رِوَايَةِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ (وَأَنَا الْمَاحِي) فَإِنَّ اللَّهَ يَمْحُو بِهِ سَيِّئَاتِ مَنْ تَبِعَهُ، وَهَذَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي قُلْتُ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّهُ قَالَ يَمْحُو بِهِ لَا يَمْحُو بِي إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنْ يُقَالَ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ قَدْ يَكُونُ مُتَعَدِّدًا، قَالَ الْكِرْمَانِيُّ فَإِنْ قُلْتَ: الْمَاحِي وَنَحْوُهُ صِفَةٌ لَا اسْمٌ قُلْتُ يُطْلَقُ الِاسْمُ عَلَى الصِّفَةِ كَثِيرًا انْتَهَى.
وَكَانَ الظَّاهِرُ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَقُولَ الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ اعْتِبَارًا لِلْمَوْصُولِ إِلَّا أَنَّهُ الْمَعْنَى الْمَدْلُولُ لِلَفْظِ أَنَا كَقَوْلِ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ

وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ (وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي) حَيْثُ لَمْ يَقُلْ عَلَى قَدَمَيْهِ أَوْ عَلَى قَدَمِهِ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ أَوِ الْإِفْرَادِ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: بِكَسْرِ الْمِيمِ مُخَفَّفًا عَلَى الْإِفْرَادِ وَلِبَعْضِهِمْ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّثْنِيَةِ وَالْمِيمِ الْمَفْتُوحَةِ، ثُمَّ كُلٌّ مِنَ الْمَاحِي وَالْحَاشِرِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ مِمَّا ذُكِرَ فِي صِفَتِهِمَا فَإِطْلَاقُهُمَا عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لَهُمَا، ثُمَّ قَوْلُهُ يُحْشَرُ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْشَرُ قَبْلَ النَّاسِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ»، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ بَعْدِي أَوْ يَتْبَعُونِي، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ أَيْ: يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى إِثْرِ زَمَانِ نُبُوَّتِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ.
فَالْمُرَادُ: بِالْقَدَمِ الزَّمَانُ أَيْ: وَقْتَ قِيَامِي بِظُهُورِ عَلَامَاتِ الْحَشْرِ وَيُرَجِّحُهُ مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ نَافِعٍ أَنَا حَاشِرٌ بُعِثْتُ مَعَ السَّاعَةِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: فِي الْمَوَاهِبِ: الْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَلَى قَدَمِي بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ عَلَى الْإِفْرَادِ وَبِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّثْنِيَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: مَعْنَى الرِّوَايَتَيْنِ يُحْشَرُونَ عَلَى أَثَرِي وَزَمَانِي وَرِسَالَتِي قُلْتُ وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ عَقِبِي بَدَلَ قَدَمِي عَلَى مَا نَقَلَهُ شَارِحٌ (وَأَنَا الْعَاقِبُ) وَهُوَ جَاءَ عَقِبَ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَفِي النِّهَايَةِ هُوَ الَّذِي يَخْلُفُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي الْخَيْرِ (وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ) قِيلَ هَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُدْرَجٌ وَقَعَ لَكِنَّهُ فِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ أَيْ: فِي الْجَامِعِ بِلَفْظِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ) بِفَتْحِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ (الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ) أَيِ: الْمُقْرِئُ تِلْمِيذُ الْإِمَامِ عَاصِمٍ (عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ) وَاسْمُهُ شَقِيقُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ كَمَا قَالَهُ مِيرَكُ (عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ لَقِيتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ) أَيْ: سِكَكِهَا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمَقْرُوءَةِ الْمُصَحَّحَةِ بِلَفْظِ طَرِيقٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ (فَقَالَ أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ؛ لِأَنَّ مَا بُعِثْتُ بِهِ سَبَبُ سَعَادَتِهِمْ وَمُوجِبٌ لِصَلَاحِ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَقِيلَ كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْكُفَّارِ أَمْنُهُمْ بِهِ مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ (وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ) قَالَ الْإِمَامُ: مَعَانِي الثَّلَاثَةِ مُتَقَارِبَةٌ إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِالتَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ وَأَمَرَ بِالتَّوْبَةِ وَبِالتَّرَاحُمِ وَنَصَّ عَلَيْهِمَا وَأَنَّ أُمَّتَهُ تَوَّابُونَ رُحَمَاءُ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {التَّائِبُونَ} وَبِقَوْلِهِ: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ فِي أُمَّتِهِ تَكُونَانِ مَوْجُودَتَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ وَيَكْفِي هَذَا الْقَدْرُ فِي الِاخْتِصَاصِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِ الشَّيْءِ بِشَيْءٍ نَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ وَأَغْرَبَ الْحَنَفِيُّ حَيْثُ قَالَ أَوْ لِأَنَّهُ قَبِلَ مِنْ أُمَّتِهِ التَّوْبَةَ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِغْفَارِ، زَادَ مِيرَكُ بِخِلَافِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} الْآيَةَ، وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّوْبَةُ النَّصُوحُ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حِينَ يَفْرُطُ مِنْكَ فَتَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، ثُمَّ لَا تَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا»، وَأَرْكَانُ التَّوْبَةِ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ النَّدَمُ وَالْقَلْعُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ، وَلَا أَحَدَ جَعَلَ الِاسْتِغْفَارَ اللِّسَانِيَّ شَرْطًا لِلتَّوْبَةِ نَعَمْ لِلتَّوْبَةِ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهَا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَبِبَعْضِ حُقُوقِ اللَّهِ شُرُوطٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ بَسْطِهَا وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ بِشُرُوطِهَا الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا خَفَّفَهُ اللَّهُ بِبَرَكَتِهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوَّلُ مَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقِصَّةُ قَاتِلِ الْمِائَةِ وَتَوْبَتِهِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ نَعَمْ شَدَّدَ عَلَى قَوْمِ مُوسَى حِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ فَجَعَلَ مِنْ شَرَائِطِ تَوْبَتِهِمْ قَتْلَ أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ التَّوْبَةِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ (وَأَنَا الْمُقَفِّي) بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ أَيِ: الَّذِي قَفَّى آثَارَ مَنْ سَبَقَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَتَبِعَ أَطْوَارَ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَصْفِيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي أَصْلِ التَّوْحِيدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِبَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ بِالِاتِّفَاقِ، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هُوَ الْمُوَلِّي الذَّاهِبُ، يَعْنِي أَنَّهُ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَّبِعُ لَهُمْ فَإِذَا قَفَّى لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَفِي مَعْنَاهُ الْعَاقِبُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى وَرُوِيَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَيْ: أَنَا الَّذِي قُفِّيَ بِي عَلَى آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ أَيْ: أُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ بَعْدَهُمْ وَخُتِمَ بِي الرِّسَالَةُ يُقَالُ: قَفَوْتُ أَثَرَ فُلَانٍ أَيْ: تَبِعْتُهُ وَقَفَّيْتُ عَلَى أَثَرِهِ بِفُلَانٍ أَيْ: أَتْبَعْتُهُ إِيَّاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا} فَحَذَفَ حَرْفَ الصِّلَةِ فِي الْحَدِيثِ تَخْفِيفًا (وَنَبِيُّ الْمَلَاحِمِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ الْمَلْحَمَةِ، وَهِيَ الْحَرْبُ ذَاتُ الْقِتَالِ الشَّدِيدِ وَسُمِّيَ بِهَا لِاشْتِبَاكِ النَّاسِ فِيهَا كَالسَّدَى وَاللُّحْمَةِ فِي الثَّوْبِ، وَقِيلَ لِكَثْرَةِ لُحُومِ الْقَتْلَى فِيهَا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَثْرَةِ الْجِهَادِ مَعَ الْكُفَّارِ فِي أَيَّامِ دَوْلَتِهِ وَكَذَا بَعْدَهُ مُسْتَمِرٌّ فِي أُمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَقْتُلَ آخِرَهُمُ الدَّجَّالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ، وَفِي الْقَامُوسِ سُمِّيَ نَبِيَّ الْمَلَاحِمِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِالْتِيَامِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ، وَقَالَ شَارِحٌ: الْمَلْحَمَةُ الْوَقْعَةُ الْعَظِيمَةُ فِي الْفِتْنَةِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَمَعْلُومَةٌ لِلْأُمَمِ السَّالِفَةِ.
(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) بِالتَّصْغِيرِ (أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ عَنْ زِرٍّ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ (عَنْ حُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ) أَيْ: نَحْوَ مَبْنَاهُ (بِمَعْنَاهُ) أَيْ: فِي مُؤَدَّاهُ (هَكَذَا قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ)

.باب مَا جَاءَ فِي عَيْشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

أَيْ فِي كَيْفِيَّةِ مَعِيشَتِهِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ إِلَى وَقْتِ مَمَاتِهِ وَتَقَدَّمَ زِيَادَةُ بَسْطٍ فِي تَحْقِيقِ لَفْظِ الْعَيْشِ فِي الْبَابِ السَّابِقِ أَوَّلَ الْكِتَابِ، وَهُوَ مِنْ تَصَرُّفِ الرُّوَاةِ أَوْ مِنَ النُّسَّاخِ وَالْكُتَّابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَّا فَالْأَظْهَرُ جَعْلُهُ بَابًا عَلَى حِدَةٍ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْبَابُ الطَّوِيلُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَمَا فِي بَعْضِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَوْ فِي أَوَائِلِهِ قَبْلَ بَابِ مَا جَاءَ فِي خُفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ زِيَادَاتِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ فِي بَابٍ لَا يُوجِبُ تَكْرَارَ الْعُنْوَانِ مِنْ كِتَابٍ، وَقَدْ تَكَلَّفَ ابْنُ حَجَرٍ هُنَا لِتَوْجِيهِ التَّكْرَارِ مَا لَا يُجْدِي نَفْعًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالْأَخْبَارِ، وَقَالَ شَارِحٌ: اعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ هَذَا الْبَابُ مُخْتَلِفًا فَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَجَمِيعُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ مَذْكُورَةٌ فِيهِ، وَفِي بَعْضٍ آخَرَ وَقَعَ مُكَرَّرًا فَقِيلَ إِمَّا لِعَدَمِ التَّكَلُّفِ وَقَصْدَ الِاخْتِصَارِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوْ لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ هَذَا الْبَابِ أَوْ لِأَمْرٍ آخَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ) بِالْحَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَتَيْنِ (عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ) بِكَسْرِ السِّينِ (قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ) بِضَمِّ النُّونِ (ابْنَ بَشِيرٍ) عَلَى زِنَةِ نَذِيرٍ (يَقُولُ) حَالٌ (أَلَسْتُمْ) مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: (فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ) صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَلَسْتُمْ مُنَعَّمِينَ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مِقْدَارَ مَا شِئْتُمْ فِي التَّوْسِعَةِ وَالْإِفْرَاطِ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَمَا مَوْصُولَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَالْكَلَامُ فِيهِ تَعْبِيرٌ وَتَوْبِيخٌ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ (وَلَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَرَأَيْتُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى النَّظَرِ فَجُمْلَةُ قَوْلِهِ (وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ) بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ: رَدَيِّ التَّمْرِ (مَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ) يَكُونُ حَالًا، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْعَلَمِ يَكُونُ مَفْعُولًا، ثَانِيًا وَأَدْخَلَ الْوَاوَ تَشْبِيهًا لَهُ بِخَبَرِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ عَلَى مَا أَفَادَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَعَلَّ وَجْهَ إِضَافَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِي خَاطَبَهُمْ تَرْغِيبًا لَهُمْ إِلَى الْقَنَاعَةِ بِالْمُوَافَقَةِ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا وَتَرْهِيبًا عَنِ الْمُخَالَفَةِ لِحُصُولِ الْكَمَالِ فِي الْعُقْبَى، وَرَوَى مُسْلِمٌ (يَظَلُّ الْيَوْمَ مُلْتَوِيًا وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ) ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ فَقْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اخْتِيَارِيًّا لَا كُرْهًا وَاضْطِرَارِيًّا وَقَدِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مَا قَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْوَالِ وَبِالصَّوَابِ مِنَ الْأَقْوَالِ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَا طَرِيقَ لِلِقَاءٍ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَلَا يُمْكِنُ الْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِمَا إِلَّا بِسَلَامَةِ الْبَدَنِ، وَلَا تَصْفُو سَلَامَتُهُ إِلَّا بِتَنَاوُلِ مِقْدَارِ الْحَاجَةِ عَلَى تَكْرَارِ الْأَوْقَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ الْأَكْلُ مِنَ الدِّينِ وَعَلَيْهِ نَبَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} فَمَنْ أَكَلَ لِيَتَقَوَّى عَلَى الطَّاعَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَرْسِلَ فِيهِ اسْتِرْسَالَ الْبَهَائِمِ فِي الْمَرْعَى فَإِنَّمَا هُوَ ذَرِيعَةٌ إِلَى الدِّينِ، يَنْبَغِي أَنْ يَظْهَرَ أَنْوَارُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَظْهَرُ إِلَّا إِنْ وَزَنَ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ شَهْوَةَ الطَّعَامِ إِقْدَامًا وَإِحْجَامًا وَالشِّبَعُ بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ بَعْدَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَصَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ حَسْبُ الْآدَمِيِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ غَلَبَتِ الْآدَمِيَّ نَفْسُهُ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ». وَظَاهِرُ الْخَبَرِ تَسَاوِي الْأَثْلَاثِ وَيَحْتَمِلُ أَنِ الْمُرَادَ تَقَارُبُهَا، وَفِي حَدِيثٍ: «مَنْ كَثُرَ تَفَكُّرُهُ قَلَّ مَطْعَمُهُ وَمَنْ كَثُرَ مَطْعَمُهُ قَلَّ تَفَكُّرُهُ وَقَسَا قَلَبُهُ»، وَقَالُوا: لَا تَدْخُلُ الْحِكْمَةُ مَعِدَةً مُلِئَتْ طَعَامًا وَمَنْ قَلَّ أَكْلُهُ قَلَّ شُرْبُهُ فَخَفَّ نَوْمُهُ فَظَهَرَتْ بَرَكَةُ عُمُرِهِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ: «أَهْلُ الشِّبَعِ فِي الدُّنْيَا أَهْلُ الْجُوعِ فِي الْآخِرَةِ»، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ: «أَشْبَعُكُمْ فِي الدُّنْيَا أَجْوَعُكُمْ فِي الْآخِرَةِ»، وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: جَوِّعُوا أَنْفُسَكُمْ لِوَلِيمَةِ الْفِرْدَوْسِ، وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَمْ يَشْبَعْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ وَمَا كَانَ يَسْأَلُ عَنْ أَهْلِهِ طَعَامًا، وَلَا يَتَشَهَّاهُ إِنْ أَطْعَمُوهُ أَكَلَ وَمَا أَطْعَمُوهُ قَبِلَ وَمَا سَقَوْهُ شَرِبَ، وَالْمَذْمُومُ هُوَ الشِّبَعُ الْمُثْقِلُ الْمُوجِبُ لِلْكَسَلِ الْمَانِعُ عَنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.
(حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنَّا) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: إِنْ كُنَّا بِزِيَادَةِ إِنِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ، وَالْمَعْنَى إِنْ كُنَّا (آلَ مُحَمَّدٍ) بِالنَّصْبِ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ خَبَرُ كَانَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِفَادَةِ لَيْسَ كَوْنَهُمْ آلَ مُحَمَّدٍ بَلْ قَوْلَهَا (نَمْكُثُ)، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ لَنَمْكُثُ (شَهْرًا) نَقَلَ الرَّضِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى لُزُومِ اللَّامِ فِي الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي خَبَرِ إِنِ الْمُخَفَّفَةِ مِنَ الثَّقِيلَةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُجَابُ بِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْغَالِبِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ نُسْخَةَ نَمْكُثُ بِلَا لَامٍ مَبْنِيَّةٌ عَلَى نُسْخَةِ كُنَّا بِلَا أَنِ الْمُخَفَّفَةِ، وَعَكْسُهَا عَلَى عَكْسِهَا، وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ لِأَجْلِ التَّلْفِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ يُرْفَعُ (آلُ مُحَمَّدٍ)، قَالَ مِيرَكُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بَدَلًا مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ وَأَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ (مَا نَسْتَوْقِدُ بِنَارٍ) أَيْ: مَا نُوقِدُ نَارًا لِطَبْخِ شَيْءٍ وَخَبْزِهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ بَيَانٌ لِلْخَبَرِ الْأَوَّلِ، أَوْ صِفَةٌ لِـ (شَهْرًا) بِحَذْفِ الرَّابِطِ (إِنْ هُوَ) أَيْ: مَا الْمَطْعُومُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ، فَهُوَ أَوْلَى مِمَّا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيِ: الْمَأْكُولِ لِقَوْلِهِ (إِلَّا التَّمْرُ وَالْمَاءُ) وَفِي نُسْخَةٍ إِلَّا الْمَاءُ وَالتَّمْرُ إِيمَاءً إِلَى قِلَّةِ حُصُولِ التَّمْرِ، وَفِي أُخْرَى إِلَّا الْأَسْوَدَانِ يَتَغَلَّبُ التَّمْرُ وَإِلَّا فَالْمَاءُ لَا لَوْنَ لَهُ أَوْ لِأَنَّ الْمَاءَ يَتْبَعُ مَا فِي الْإِنَاءِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ عَلَى التَّمْرِ أَسْوَدُ لِأَنَّهُ غَالِبُ تَمْرِ الْمَدِينَةِ، وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَأَنَّهُ قِيلَ فَمَا كَانَ الْغِذَاءُ، ثُمَّ (آلَ مُحَمَّدٍ) يَشْمَلُهُ أَيْضًا قِيَاسًا أَوْلَوِيًّا؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا صَبَرُوا شَهْرًا فَهُوَ أَحَقُّ وَأَوْلَى لِتَعَذُّرِ شِبَعِهِ دُونَهُمْ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ عِنْدَ الضِّيقِ يُؤْثِرُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَلِزِيَادَةِ قُوَّتِهِ الْإِلَهِيَّةِ وَلِعَدَمِ وُجُودِ مَأْكُولٍ مَعَ نَفْيِ إِيقَادِ النَّارِ خَبْزًا وَطَبْخًا فَالْحَدِيثُ مُنَاسِبٌ لِلْبَابِ قَالَ مِيرَكُ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: قَوْلُهَا (ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ) يَجُوزُ فِيهِ الْجَرُّ وَالنَّصْبُ، وَقَوْلُهَا فِي شَهْرَيْنِ هُوَ بِاعْتِبَارِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَوَّلَ الشَّهْرِ، ثُمَّ رُؤْيَتِهِ ثَانِيًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّانِي، ثُمَّ رُؤْيَتِهِ ثَالِثًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الثَّالِثِ، فَالْمُدَّةُ سِتُّونَ يَوْمًا وَالْمَرْئِيُّ ثَلَاثَةُ أَهِلَّةٍ، قَالَ مِيرَكُ: وَلِهَذِهِ الرِّوَايَةِ شَاهِدٌ عِنْدَ ابْنِ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يَمُرُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِلَالٌ، ثُمَّ هِلَالٌ لَا يُوقَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ بُيُوتِهِ نَارٌ لَا لِخَبْزٍ، وَلَا لِطَبِيخٍ قُلْتُ: وَلِلْحَدِيثِ تَتِمَّةٌ، قَالَ عُرْوَةُ قُلْتُ يَا خَالَةُ فَمَا كَانَ يُقِيتُكُمْ؟ قَالَتِ: الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهَا فَيَسْقِينَاهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ مِيرَكُ: وَجِيرَانُهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ وَأَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَالْمَنَائِحُ بِنُونٍ وَمُهْمَلَةٍ جَمْعُ مِنْحَةٍ، وَهِيَ الْعَطِيَّةُ لَفْظًا وَمَعْنًى، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ عُرْوَةُ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ وَكَذَا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهَا بِلَفْظِ كَانَ يَأْتِي عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ الشَّهْرُ مَا تُرَى فِي بَيْتِهِ نَارٌ انْتَهَى.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَأْتِي عَلَى آلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ عَشَرَ لَيْلَةً مَا نُوقِدُ فِيهَا بِنَارٍ، وَفِي أُخْرَى عَنْهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ لَيَمُرُّ بِنَا الشَّهْرُ وَنِصْفُ الشَّهْرِ مَا يُوقَدُ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ لِمِصْبَاحٍ أَوْ لِغَيْرِهِ فَالْجَمْعُ بِأَنَّ الْأَمْرَ وَقَعَ مُكَرَّرًا فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقَلَتْ عَائِشَةُ كُلَّ ذَلِكَ لِعُرْوَةَ فِي مَجَالِسَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَرَوَى الشَّيْخَانِ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ يَوْمَيْنِ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا تَمْرٌ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَمْلَأْ بَطْنَهُ فِي يَوْمٍ مِنْ طَعَامَيْنِ كَانَ إِذَا شَبِعَ مِنَ التَّمْرِ لَمْ يَشْبَعْ مِنَ الشَّعِيرِ وَإِذَا شَبِعَ مِنَ الشَّعِيرِ لَمْ يَشْبَعْ مِنَ التَّمْرِ، وَرَوَى الدِّمْيَاطِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَمْسَى فِي آلِ مُحَمَّدٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ وَإِنَّهَا لِتِسْعَةُ أَبْيَاتٍ وَاللَّهِ مَا قَالَهَا اسْتِقْلَالًا لِرِزْقِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَأَسَّى بِهِ أُمَّتُهُ، قُلْتُ وَلْيَعْرِفُوا أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ يُعْجِبُهُ مِنَ الدُّنْيَا الطِّيبُ وَالنِّسَاءُ وَالطَّعَامُ فَأَصَابَ الْأَوَّلَيْنِ دُونَ الثَّالِثِ.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ (حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُوعَ وَرَفَعْنَا عَنْ بُطُونِنَا عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ) ذَكَرَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ الطِّيبِيِّ أَنَّ عَنِ الْأُولَى مُتَعَلِّقٌ بِرَفَعْنَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْكَشْفِ وَالثَّانِيَةُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: كَشَفْنَا ثِيَابَنَا عَنْ بُطُونِنَا كَشْفًا صَادِرًا عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ، فَالْمَعْنَى لَكَ مِنَّا حَجَرٌ وَاحِدٌ رُفِعَ عَنْهُ فَالتَّكْرِيرُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمُخْبِرِ عَنْهُمْ بِذَلِكَ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ التَّنْكِيرُ فِي حَجَرٍ عَلَى النَّوْعِ أَيْ: حَجَرٍ مَشْدُودٍ عَلَى بُطُونِنَا فَيَكُونُ بَدَلًا، وَعَادَةُ مَنِ اشْتَدَّ جُوعُهُ وَخَمَصَ بَطْنُهُ أَنْ يَشُدَّ حَجَرًا عَلَى بَطْنِهِ لِيَتَقَوَّمَ بِهِ صُلْبُهُ، قِيلَ وَلِئَلَّا يَنْتَفِخَ، وَقَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: عَنْ حَجَرٍ بَدَلُ اشْتِمَالٍ عَمَّا قَبْلَهُ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ كَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ عَنْ حُسْنٍ خَارِقٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَزُعِمَ أَنَّ هَاهُنَا حَرْفَ عَطْفٍ حُذِفَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ بَلْ رُبَّمَا يَفْسُدُ الْمَعْنَى لِإِنْهَائِهِ حِينَئِذٍ أَنْ لِكُلٍّ حَجَرَيْنِ، وَكَذَا زُعِمَ أَنَّ التَّقْدِيرَ: عَنْ حَجَرٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ حَجَرٍ آخَرَ، فَالْحَجَرُ الْأَخِيرُ صِفَةُ الْأَوَّلِ، ثُمَّ مَا قِيلَ بَدَلُ الِاشْتِمَالِ لَا يَخْلُو عَنْ ضَمِيرِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَلَا ضَمِيرَ هُنَا، فَلَا يَصِحُّ الْبَدَلُ مَدْفُوعٌ بِتَقْدِيرِ مَشْدُودٍ عَلَيْهَا فَإِنَّ الضَّمِيرَ هُنَا مُقَدَّرٌ وَمَا قِيلَ أَيْضًا مِنْ أَنَّ تَعَلُّقَ حَرْفَيْ جَرٍّ مُتَّحِدَيِ الْمَعْنَى بِعَامِلٍ وَاحِدٍ مَمْنُوعٌ رُدَّ بِأَنَّ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ فِي حُكْمِ حَرْفٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ مِنْهُ فِي نِيَّةِ الْمَطْرُوحِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مَعَ مَعْنَاهُ فِي مَحَلِّهِ وَمَبْنَاهُ (فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَطْنِهِ عَنْ حَجَرَيْنِ) قَالَ صَاحِبُ الْمُظْهِرِ: عَادَةُ أَصْحَابِ الرِّيَاضَةِ وَكَذَا الْعَرَبُ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ إِذَا اشْتَدَّ جُوعُهُمْ وَخَلِيَتْ بُطُونُهُمْ أَنْ يَرْبُطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَجَرًا عَلَى بَطْنِهِ كَيْلَا يَسْتَرْخِيَ بَطْنُهُ وَلِئَلَّا يَنْزِلَ أَمْعَاؤُهُ فَيَشُقَّ عَلَيْهِ التَّحَرُّكُ فَإِذَا يَرْبُطُ حَجَرًا عَلَى بَطْنِهِ يَشْتَدُّ بَطْنُهُ وَظَهْرُهُ فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَمَنْ كَانَ جُوعُهُ أَشَدَّ يَرْبُطُ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرَيْنِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَهُمْ جُوعًا وَأَشَدَّهُمْ رِيَاضَةً، فَرَبَطَ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرَيْنِ، وَرَبَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَجَرًا، وَقَالَ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ: فِي رَبْطِ الْحَجَرِ عَلَى الْبَطْنِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ يَخُصُّ أَحْجَارًا بِالْمَدِينَةِ تُسَمَّى الْمُشْبِعَةَ، كَانُوا إِذَا جَاعَ أَحَدُهُمْ يَرْبُطُ عَلَى بَطْنِهِ حَجَرًا مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِ بُرُودَةً تُسَكِّنُ الْجُوعَ وَحَرَارَتَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُقَالُ: لِمَنْ يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ: ارْبُطْ عَلَى قَلْبِكَ حَجَرًا فَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ، وَأَمَرَ أُمَّتَهُ هُوَ بِالصَّبْرِ قَالًا وَحَالًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، نَقَلَهُ مِيرَكُ، لَكِنْ كِلَاهُمَا لَا يَصْلُحُ لِلْمَقَامِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أَرَادَ بِرَفْعِ الثَّوْبِ عَنْ حَجَرَيْنِ إِلَّا الْإِشَارَةَ إِلَى أَنَّ جُوعَهُ أَشَدُّ فَلَا يُنَاسِبُهُ التَّسْلِيَةُ بِتَسْكِينِ الْجُوعِ وَحَرَارَتِهِ بِبُرُودَةِ الْحَجَرِ مَعَ أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ عَنِ الْعَادَةِ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِي الْمَدِينَةِ حَجَرٌ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ مَجَازٌ مَعْنَوِيٌّ وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَادِرٌ عَنْ حَجَرٍ حَقِيقِيٍّ، وَقِيلَ حِكْمَةُ رَبْطِ الْحَجَرِ أَنَّهُ يُسَكِّنُ بَعْضَ أَلَمِ الْجُوعِ؛ لِأَنَّ حَرَارَةَ الْمَعِدَةِ الْغَرِيزِيَّةِ مَا دَامَتْ مَشْغُولَةً بِالطَّعَامِ قَلَّتِ الْحَرَارَةُ بِهِ، فَإِذَا نَفَذَ اشْتَغَلَتْ بِرُطُوبَاتِ الْجِسْمِ وَجَوَاهِرِهِ فَيَحْصُلُ التَّأَلُّمُ حِينَئِذٍ وَيَزْدَادُ مَا لَمْ يُضَمُّ إِلَى الْمَعِدَةِ الْأَحْشَاءُ وَالْجِلْدُ، فَإِنَّ نَارَهَا حِينَئِذٍ تَخْمُدُ بَعْضَ الْخُمُودِ، فَيَقِلُّ الْأَلَمُ انْتَهَى.
فَيُفِيدُ أَنَّ شَدَّ الْحَجَرِ عَلَى قَدْرِ أَلَمِ الْجُوعِ فَكُلَّمَا زِيدَ زِيدَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(قَالَ أَبُو عِيسَى) أَيِ المص (هَذَا) أَيِ: الْحَدِيثُ السَّابِقُ (حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ) أَيْ: غَرَابَتُهُ نَاشِئَةٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي طَلْحَةَ لَا مِنْ سَائِرِ الطُّرُقِ (لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ) قَالَ مِيرَكُ: وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ يَعْنِي فَلَا يَضُرُّهُ الْغَرَابَةُ فَإِنَّهَا لَا تُنَافِي الْحُسْنَ وَالصِّحَّةَ، فَإِنَّ الْغَرِيبَ مَا يَتَفَرَّدُ بِرِوَايَتِهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ مِنْ رِجَالِ النَّقْلِ فَإِنْ كَانَ التَّفَرُّدُ بِرِوَايَةِ مَتْنِهِ فَهُوَ غَرِيبٌ مَتْنًا، وَإِنْ كَانَ بِرِوَايَتِهِ عَنْ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ عَنْهُ كَأَنْ يُعْرَفُ عَنْ صَحَابِيٍّ فَيَرْوِيهِ عَدْلٌ وَحْدَهُ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ فَهُوَ غَرِيبٌ إِسْنَادًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا (وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَرَفَعْنَا عَنْ بُطُونِنَا عَنْ حَجَرٍ حَجَرٍ كَانَ أَحَدُهُمْ يَشُدُّ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنَ الْجُهْدِ) بِضَمِّ الْجِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا فَقِيلَ بِالضَّمِّ الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ، وَقِيلَ الْمُبَالَغَةُ وَالْغَايَةُ، وَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ فِي الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ فَأَمَّا الْمَشَقَّةُ وَالْغَايَةُ فَالْفَتْحُ لَا غَيْرُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، ثُمَّ مِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ، وَالْمَعْنَى مِنْ أَجْلِ الْجُهْدِ (وَالضَّعْفِ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ، وَهُوَ كَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ، وَلِذَا قَالَ (الَّذِي بِهِ مِنَ الْجُوعِ) بِإِفْرَادِ الْمَوْصُولِ وَمِنْ بَيَانِيَّةٌ لِلْمَوْصُولِ أَوِ ابْتِدَائِيَّةٌ أَيْ: مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْجُهْدِ وَالضَّعْفِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ نَاشِئٌ مِنَ الْجُوعِ الشَّدِيدِ، هَذَا وَاسْتُشْكِلَ الْحَدِيثُ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تُوَاصِلُوا، فَقَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ فَقَالَ إِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى، وَفِي رِوَايَةٍ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي، وَفِي رِوَايَةٍ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي وَبِهَذَا تَمَسَّكَ ابْنُ حِبَّانَ فِي حُكْمِهِ بِبُطْلَانِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجُوعُ وَيَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ مِنَ الْجُوعِ، قَالَ: وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْحُجَزُ بِالزَّايِ، وَهُوَ طَرَفُ الْإِزَارِ إِذْ مَا يُغْنِي الْحَجَرُ مِنَ الْجُوعِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ عَدَمَ الْجُوعِ خَاصٌّ بِالْمُوَاصَلَةِ فَإِذَا وَاصَلَ يُعْطَى قُوَّةَ الطَّاعِمِ وَالشَّارِبِ أَوْ يُطْعَمُ وَيُسْقَى حَقِيقَةً، وَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الْمُوَاصَلَةِ فَلَا يَرِدُ فِيهِ ذَلِكَ فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ الْأَحَادِيثِ الصَّرِيحَةِ عَلَى جُوعِهِ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الْمُوَاصَلَةِ إِذْ تَحَقُّقُ الْجُوعِ وَرَبْطُ الْحَجَرِ ثَابِتٌ فِي الْأَحَادِيثِ.
مِنْهَا مَا سَبَقَ مَعَ اتِّفَاقِ الرُّوَاةِ وَاجْتِمَاعِ الْأُصُولِ عَلَى ضَبْطِ الْحَجَرِ بِالرَّاءِ، وَمِنْهَا مَا رَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَهُ جُوعٌ يَوْمًا فَعَمَدَ إِلَى حَجَرٍ فَوَضَعَهُ عَلَى بَطْنِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا رُبَّ نَفْسٍ طَاعِمَةٍ نَاعِمَةٍ فِي الدُّنْيَا جَائِعَةٌ عَارِيَةٌ، أَلَا رُبَّ مُكْرِمٍ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَهَا مُهِينٌ، أَلَا رُبَّ مُهِينٍ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَهَا مُكْرِمٌ، وَمِنْهَا مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ: كُنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ، وَهِيَ بِضَمِّ كَافٍ وَسُكُونِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ قِطْعَةٌ صُلْبَةٌ فَجَاءُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الْخَنْدَقِ، فَقَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا نَذُوقُ ذَوَّاقًا فَأَخَذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِعْوَلَ فَضَرَبَهُ فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ أَوْ أَهْيَمَ، وَهُوَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، زَادَ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنَّ تِلْكَ الصَّخْرَةَ لَا تَعْمَلُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ وَضَرَبَهَا ضَرْبَةً فَنَشَرَ ثُلُثَهَا، فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ وَاللَّهِ إِنِّي لِأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ السَّاعَةَ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ ثُلُثًا آخَرَ، فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ وَإِنِّي وَاللَّهِ لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الْأَبْيَضَ الْآنَ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ، فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِيَ السَّاعَةَ، وَمِمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مَعَ تَأَلُّمِهِ بِالْجُوعِ لِيُضَاعِفَ لَهُ الْأَجْرَ حَفِظَ كَمَالَ قُوَّتِهِ وَصَانَ نَضَارَةَ جِسْمِهِ حَتَّى إِنَّ مَنْ رَآهُ لَا يَظُنُّ بِهِ جُوعًا بَلْ كَانَ جِسْمُهُ الشَّرِيفُ وَوَجْهُهُ اللَّطِيفُ أَشَدَّ رَوْنَقًا وَبَهَاءً مِنْ أَجْسَادِ الْمُتْرَفِينَ، ثُمَّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْجُوعِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ: «مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّا كُنَّا نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ فَقَدْ كَذَبَكُمْ، فَلَمَّا فُتِحَتْ قُرَيْظَةُ أَصَبْنَا شَيْئًا مِنَ التَّمْرِ وَالْوَدَكِ» وَهُوَ مُحَرَّكَةٌ الدَّسَمُ، وَمِنْهَا مِمَّا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أَيِ: الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ (حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَاعَةٍ لَا يَخْرُجُ فِيهَا) أَيْ: فِي وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ، فَالْجُمْلَةُ صِفَةُ سَاعَةٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَلَا يَلْقَاهُ فِيهَا أَحَدٌ) أَيْ: بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ فِي حُجْرَتِهِ وَمُلَاقَاتِهِ بِاعْتِبَارِ عَادَتِهِ (فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ) أَيْ: فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ خُرُوجِهِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا جَاءَ بِكَ) الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَحْضَرَكَ فِي هَذَا الْوَقْتِ (يَا أَبَا بَكْرٍ) وَفِيهِ إِيمَاءٌ بِأَنَّ عَادَةَ الصِّدِّيقِ أَيْضًا كَانَتْ عَلَى وَفْقَ عَادَةِ النَّبِيِّ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ يَخْرُجُ إِلَّا حِينَ يَخْرُجُ (فَقَالَ خَرَجْتُ أَلْقَى) أَيْ: لَعَلِّي أَلْقَى (رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: أُرِيدُ ذَلِكَ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ. (وَأَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ وَالتَّسْلِيمَ عَلَيْهِ) بِالنَّصْبِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ، قَالَ مِيرَكُ: بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى الْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، أَيْ: أَلْقَى وَأَنْظُرُ وَأُرِيدُ التَّسْلِيمَ عَلَيْهِ، وَبِالْجَرِّ أَيْ: وَأَتَشَرَّفُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ أَوْ هُوَ عَطْفٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى عَلِّي أَلْقَى أَيْ: لِلِقَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ انْتَهَى، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ النَّصْبَ بِـأُسَلِّمُ أَوْ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى أَيْ: أُرِيدُ اللِّقَاءَ وَالنَّظَرَ وَالتَّسْلِيمَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ نِيَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ يَتَعَدَّدُ بِقَدْرِهَا الثَّوَابُ وَيَرْتَفِعُ بِمِقْدَارِهَا الْحِجَابُ (فَلَمْ يَلْبَثْ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (أَنْ جَاءَ عُمَرُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ النُّونِ أَيْ: لَمْ يَمْكُثِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنًا يَسِيرًا إِلَّا وَعُمَرُ قَدْ جَاءَ إِلَيْهِمَا، وَجَعَلَ ضَمِيرَ يَلْبَثُ لِعُمَرَ أَيْ: مَجِيئُهُ بَعِيدٌ وَيُؤَيِّدُ عَوْدَ الضَّمِيرِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِأَبِي بَكْرٍ قَوْلُهُ الْآتِي: فَلَمْ يَلْبَثُوا كَذَا أَفَادَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَمْرِيَّةٍ فِيهِ لَكِنَّ الْأَظْهَرَ هُنَا أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ هُوَ الْفَاعِلُ لِيَلْبَثَ، أَيْ: فَلَمْ يَلْبَثْ مَجِيءُ عُمَرَ بَلْ جَاءَ عُمَرُ سَرِيعًا بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ عَلَى قَدْرِ مَكَانِهِمَا فِي زَمَانِهِمَا، وَأَمَّا جَعْلُ ضَمِيرِ يَلْبَثْ لِمَجِيءِ عُمَرَ فَخَطَأٌ فَاحِشٌ إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ فَلَمْ يَلْبَثْ مَجِيءُ عُمَرَ أَنْ جَاءَ عُمَرُ، فَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَرُ قَالَ الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) أَيْ: جَاءَ بِي الْجُوعُ أَوِ الْجُوعُ جَاءَ بِي، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا أَرَادَهُ الصِّدِّيقُ مِنَ اللُّقِيِّ وَالنَّظَرِ وَالتَّسْلِيمِ فَكَأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْبَاعِثُ الْأَصْلِيُّ أَنَّهُ غَيْرُ وَقْتِ عَادَةِ خُرُوجِهِ أَيْضًا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا قَدْ وَجَدْتُ بَعْضَ ذَلِكَ) أَيِ: الْجُوعَ، وَفِي نُسْخَةٍ: ذَلِكَ بِغَيْرِ لَامٍ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَجَاذُبِ الْقُلُوبِ بِتَوْفِيقِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ، وَتَوَافُقِ الْحَالِ بِعَوْنِ الْمَلِكِ الْمُتَعَالِ، ثُمَّ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا: فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا. فَقِيلَ هُمَا قَضِيَّتَانِ أَوْ لَمَّا جَاءَ عُمَرُ وَذَكَرَ الْجُوعَ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ أَيْضًا، وَبَعْضُ الزِّيَادَاتِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَحْذُوفَةٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ جَائِعًا فَلَمْ يَجِدْ فِي أَهْلِهِ شَيْئًا يَأْكُلُهُ وَأَصْبَحَ أَبُو بَكْرٍ جَائِعًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ: عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا. فَقَالَ: آتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِّي أَجِدُ عِنْدَهُ شَيْئًا آكُلُهُ، فَأَتَاهُ فَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَصْبَحْتَ جَائِعًا فَلَمْ تَجِدْ شَيْئًا تَأْكُلُهُ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ اقْعُدْ وَأَصْبَحَ عُمَرُ... الْحَدِيثَ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: رُئِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْضِعٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْرَجَكَ؟ فَقَالَ الْجُوعُ، قَالَ وَأَنَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ أَخْرَجَنِي الْجُوعُ، قَالَ: ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ... الْحَدِيثَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ لِكَمَالِ الْإِيثَارِ، فَفَقْرُهُمْ إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ لَا عَلَى طَرِيقِ الِاضْطِرَارِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا فَقُلْتُ لَا يَا رَبِّ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ. رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَعَلَّ اخْتِيَارَ ذَلِكَ لِيَكُونَ مَقَامُهُ فِي دَرَجَةِ الْكَمَالِ وَحَالُهُ بَيْنَ تَرْبِيَتَيْ صِفَتَيِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَجِبْرِيلُ عَلَى الصَّفَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا جِبْرِيلُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَمْسَى لِآلِ مُحَمَّدٍ سُفَّةٌ مِنْ دَقِيقٍ، وَلَا كَفٌّ مِنْ سَوِيقٍ فَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ سَمِعَ هَدَّةً مِنَ السَّمَاءِ أَفْزَعَتْهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ اللَّهُ الْقِيَامَةَ أَنْ تَقُومَ؟ قَالَ لَا وَلَكِنَّ إِسْرَافِيلَ نَزَلَ إِلَيْكَ حِينَ سَمِعَ كَلَامَكَ، فَأَتَاهُ إِسْرَافِيلُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَمِعَ مَا ذَكَرْتَ فَبَعَثَنِي إِلَيْكَ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْكَ أُسَيِّرُ مَعَكَ جِبَالَ تِهَامَةَ زُمُرُّدًا وَيَاقُوتًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً فَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا، وَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ تَوَاضَعْ، فَقَالَ نَبِيًّا عَبْدًا ثَلَاثًا فَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، لَكِنْ قَالَ الْحَلِيمِيُّ كَمَا فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ تَعْظِيمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُوصَفَ بِمَا هُوَ عِنْدَ النَّاسِ مِنْ أَوْصَافِ الضِّعَةِ، فَلَا يُقَالُ: كَانَ فَقِيرًا: وَنَقَلَ السُّبْكِيُّ عَنِ الشِّفَاءِ وَأَقَرَّهُ أَنَّ فُقَهَاءَ الْأَنْدَلُسِ أَفْتَوْا بِقَتْلِ مَنِ اسْتَخَفَّ بِحَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَّاهُ أَثْنَاءَ مُنَاظَرَتِهِ بِالْيَتِيمِ، وَزَعَمَ أَنَّ زُهْدَهُ لَمْ يَكُنْ قَصْدًا، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الطَّيِّبَاتِ لَأَكَلَهَا، وَأَمَّا خَبَرُ الْفَقْرِ فَخْرِيٌّ وَبِهِ افْتَخَرَ فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحُفَّاظُ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْأَلَمِ وَنَحْوِهِ مِنْ حِكَايَةِ الْجُوعِ وَقِلَّةِ الْمَأْكُولِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّوَكُّلَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ شَكْوًى أَوْ جَزَعًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ فَتْحِ الْفُتُوحِ، وَهَذَا زَعْمٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ، فَإِنْ قِيلَ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ رَاوِيًا أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَ الْقَضِيَّةَ، فَلَعَلَّهُ سَمِعَهَا، قُلْنَا هَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَا ضَرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، نَعَمْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَلَّبُ فِي الْيَسَارِ تَارَةً، وَفِي الْعَسَارِ أُخْرَى كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ وَتُوُفِّيَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ فِي دَيْنٍ اسْتَدَانَهُ لِأَهْلِهِ فَكَانَ إِذَا أَيْسَرَ يَنْفَدُ مَا عِنْدَهُ لِإِخْرَاجِهِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ وَكَذَا كَانَ خُلُقُ صَاحِبَيْهِ، بَلْ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ (فَانْطَلَقُوا) أَيْ: ذَهَبُوا وَتَوَجَّهُوا (إِلَى مَنْزِلِ أَبِي الْهَيْثَمِ) وَاسْمُهُ مَالِكٌ (ابْنِ التِّيهَانِ) بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ، وَهُوَ لَقَبٌ وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَقِيلَ عَتِيكُ بْنُ عَمْرٍو (الْأَنْصَارِيِّ) قِيلَ هُوَ قُضَاعِيُّ، وَإِنَّمَا هُوَ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ فَنُسِبَ إِلَيْهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، فَالْقَضِيَّةُ مُتَعَدِّدَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لَهُمَا، وَعَلَى كُلٍّ فَفِيهِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إِذْ أَهَّلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ وَجَعَلَهُ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} (وَكَانَ) أَيْ: أَبُو الْهَيْثَمِ (رَجُلًا كَثِيرَ النَّخْلِ) وَاحِدُهُ نَخْلَةٌ وَزِيدَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَالشَّجَرِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ (وَالشَّاءِ) بِالْهَمْزِ جَمْعُ شَاةٍ بِالتَّاءِ فَفِي النِّهَايَةِ أَصْلُ الشَّاةِ شَاهَةٌ حُذِفَ لَامُهَا وَجَمْعُهَا شِيَاهٌ وَشَاءٌ وَتَصْغِيرُهَا شُوَيْهَةٌ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَدَمٌ) بِفَتْحَتَيْنِ، جَمْعُ خَادِمٍ، وَيَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ نَفْيَ الْجَمْعِ بَلِ الْإِفْرَادَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ خَادِمٌ، وَهَذَا تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ (فَلَمْ يَجِدُوهُ) أَيْ: فِي مَكَانِهِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى خُرُوجِهِ بِسَبَبِ خِدْمَةِ عِيَالِهِ، (فَقَالُوا لِامْرَأَتِهِ: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟) وَهُوَ أَحْسَنُ عِبَارَةً مِنْ زَوْجِكِ (فَقَالَتِ: انْطَلَقَ) أَيْ: ذَهَبَ (يَسْتَعْذِبُ) أَيْ: لَنَا كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (الْمَاءَ) وَفِيهِ تَجْرِيدٌ أَوْ تَأْكِيدٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْذَابَ طَلَبُ الْمَاءِ الْعَذْبِ، وَيُقَالُ: اسْتَعْذَبَ لِفُلَانٍ إِذَا اسْتَسْقَاهُ لَهُ، وَالِاسْتِسْقَاءُ نَزْحُ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ، وَقَالَ مِيرَكُ: الْعَذْبُ الْمَاءُ الطَّيِّبُ الَّذِي لَا مُلُوحَةَ فِيهِ، وَقَدْ عَذُبَ عُذُوبَةً وَاسْتَعْذَبَ الْقَوْمُ مَاءَهُمْ إِذَا اسْتَسْقَوْهُ عَذْبًا وَاسْتَعْذَبَهُ أَيْ: أَعَدَّهُ عَذْبًا، فَالْمَعْنَى يَجِيءُ لَنَا بِالْمَاءِ الْعَذْبِ وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الْحُلْوِ الْبَارِدِ يُخْلِصُ الْحَمْدَ لِلَّهِ، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ طَلَبَ الْمَاءِ الْحُلْوِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ التَّنَعُّمِ الْمُنْقِصِ لِمَقَامِ الْعُقْبَى، وَزَادَ مُسْلِمٌ: فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا (فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ) أَيْ: إِلَى أَنْ جَاءَ أَوْ لِأَنْ جَاءَ (أَبُو الْهَيْثَمِ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمُ انْتِظَارٌ كَثِيرٌ، بَلْ وَقَعَ لَهُمْ مُكْثٌ يَسِيرٌ لِقُرْبِ مَجِيئِهِ مِنْ مَجِيئِهِمْ إِلَى مَنْزِلِهِ فَجَاءَ (بِقِرْبَةٍ) أَيْ: أَتَى بِهَا، وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (يَزْعَبُهَا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ زَعَبَ الْقِرْبَةَ إِذَا مَلَأَهَا، وَقِيلَ حَمَلَهَا مُمْتَلِئَةً، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، أَيْ: يَتَدَافَعُ بِهَا وَيَحْتَمِلُهَا لِثِقَلِهَا، وَقِيلَ يَزْعَبُ بِحَمْلِهِ إِذَا اسْتَقَامَ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: الزَّعْبُ الدَّفْعُ وَزَعَبْتُهُ عَنِّي دَفَعْتُهُ، وَأَزْعَبْتُ الشَّيْءَ إِذَا حَمَلْتُهُ، وَجَاءَنَا سَيْلٌ يَزْعَبُ زَعْبًا أَيْ: يَتَدَافَعُ فِي الْوَادِي (فَوَضَعَهَا) أَيِ: الْقِرْبَةَ (ثُمَّ جَاءَ يَلْتَزِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: يَعْتَنِقُهُ (وَيُفَدِّيهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ) بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَكَسْرِ دَالٍ مُخَفَّفَةٍ فَفِي الْقَامُوسِ فَدَاهُ تَفْدِيَةً إِذَا قَالَ لَهُ جُعِلْتُ فَدَاكَ، فَالْمَعْنَى يَقُولُ: لَهُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ الْحَنَفِيُّ: وَالرِّوَايَةُ هُنَا بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَلَوْ قُرِئَ يَفْدِيهِ مُخَفَّفًا عَلَى وَزْنِ يَرْمِيهِ لَكَانَ صَحِيحًا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَفِي نُسْخَةٍ يَفْدِيهِ كَيَرْمِيهِ، وَفِي أُخْرَى يُفْدِيهِ مِنَ الْإِفْدَاءِ، وَكِلَاهُمَا بَعِيدٌ، قُلْتُ الظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِفَسَادِ الْمَعْنَى إِذِ الْمَعْنَى فَدَاهُ بِالتَّخْفِيفِ أَعْطَى شَيْئًا فَأَنْفَدَهُ كَفَادَاهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْقَامُوسِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} وَتَفْدُوهُمْ بِالْقِرَاءَتَيْنِ، وَيُقَالُ: أَفَدَى الْأَسِيرَ إِذَا قَبِلَ مِنْهُ فِدْيَتَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْقَامُوسِ، فَلَا شَكَّ فِي فَسَادِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَيُحْكَمُ عَلَى النُّسْخَتَيْنِ بِأَنَّهُمَا تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ، لَكِنْ نَقَلَ مِيرَكُ عَنِ الصِّحَاحِ فَدَاهُ بِنَفْسِهِ وَفَدَاهُ تَفْدِيَةً إِذَا قَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، وَهُوَ كَذَا فِي النِّهَايَةِ، فَالتَّخْفِيفُ مِنَ الْمُجَرَّدِ لَهُ وَجْهٌ، لَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ لِلِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ بِخِلَافِ التَّخْفِيفِ مِنَ الْمَزِيدِ، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَهَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ أَبَا الْهَيْثَمِ حِينَ جَاءَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَا أَجِدُ الْيَوْمَ أَكْرَمَ ضَيْفًا مِنِّي (ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى حَدِيقَتِهِ) أَيْ: ذَهَبَ مَعَهُمْ، فَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَلَا مَعْنَى لِتَرْدِيدِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهَا لِلتَّعْدِيَةِ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ لِعَدَمِ مُلَايَمَتِهِ لِمَقَامِ أَكْرَمِ الْكِرَامِ، وَالْحَدِيقَةُ هِيَ الرَّوْضَةُ ذَاتُ الشَّجَرِ، وَيُقَالُ: هِيَ كُلُّ بُسْتَانٍ لَهُ حَائِطٌ (فَبَسَطَ لَهُمْ بِسَاطًا) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، أَيْ: فَرَشَ لَهُمْ فِرَاشًا (ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلَةٍ) أَيْ: مِنْ نَخِيلِهِ (فَجَاءَ بِقِنْوٍ) بِكَسْرِ قَافٍ وَسُكُونِ نُونٍ، أَيْ: بِغَدَقٍ كَمَا فِي مُسْلِمٍ، وَهُوَ الْغُصْنُ مِنَ النَّخْلِ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، وَقِيلَ الْقِنْوُ مِنَ التَّمْرِ بِمَنْزِلَةِ الْعُنْقُودِ مِنَ الْعِنَبِ (فَوَضَعَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَلَا تَنَقَّيْتَ) مِنَ التَّنَقِّي، وَهُوَ التَّخْيِيرُ وَإِفْرَادُ الْجَيِّدِ مِنَ الرَّدِيءِ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٌ، أَيْ: أَسْرَعْتَ، أَفَلَا تَنَقَّيْتَ لَنَا (مِنْ رُطَبِهِ) أَيْ: وَتَرَكْتَ مَا فِيهِ مِنَ الْبُسْرِ حَتَّى يُرَطِّبَ فَيُنْتَفَعُ بِهِ (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تَخْتَارُوا) أَيْ: أَنْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ (أَوْ تَخَيَّرُوا) بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ أَيْ: تَتَخَيَّرُوا وَأَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي فَإِنَّ الِاخْتِيَارَ وَالتَّخْيِيرَ بِمَعْنَى التَّنْقِيَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ: أَوْ أَنْ تَخَيَّرُوا بِإِعَادَةِ أَنْ، وَفِي نُسْخَةٍ أَنْ تَخَيَّرُوا أَوْ تَخْتَارُوا بِتَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَتَكَلَّفَ تَكَلُّفًا صَارَ تَعَسُّفًا، ثُمَّ مِنْ فِي قَوْلِهِ (مِنْ رُطَبِهِ وَبُسْرِهِ) لِلِابْتِدَاءِ وَالْغَايَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَارَةً مِنْ رُطَبِهِ وَأُخْرَى مِنْ بُسْرِهِ بِحَسَبِ اشْتِهَاءِ الطَّبْعِ أَوْ بِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ فِي الْمَيْلِ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا، أَوْ إِلَى أَحَدِهِمَا وَأَمَّا تَرْجِيحُ التَّبْعِيضِ بِأَنَّهُ قَصَدَ إِبْقَاءَ بَعْضِهِ عِنْدَهُ لِيَتَبَرَّكَ بِهِ فَلَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِيهِ نَدْبُ إِحْضَارِ مَا حَضَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} وَاسْتِحْبَابُ تَقْدِيمِ الْفَاكِهَةِ؛ لِأَنَّهَا أَسْرَعُ هَضْمًا مِنْ غَيْرِهَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} (فَأَكَلُوا) أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْغَدَقِ (وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا) أَيِ: الْمُقَدَّمُ لَنَا (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) أَيْ: بِقُدْرَتِهِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فِي يَدِهِ، وَلِأَجْلِ تَأْكِيدِ الْحُكْمِ وَسَّطَ الْقَسَمَ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} أَيِ: الَّذِي يُتَنَعَّمُ بِهِ، وَالْمُرَادُ: بِالسُّؤَالِ عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهِ عَلَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ الَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ السُّؤَالَ هُنَا سُؤَالُ تَعْدَادِ النِّعَمِ، وَإِعْلَامِهِ بِالِامْتِنَانِ، وَإِظْهَارِ كَرَمِهِ بِإِسْبَاغِهَا، لَا سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَمُحَاسَبَةٍ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَلَمَّا شَبِعُوا وَرَوَوْا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ، وَفِيهِ جَوَازُ الشِّبَعِ، وَمَا وَرَدَ فِي ذَمِّهِ مَحْمُولٌ عَلَى شِبَعٍ مُضِرٍّ، أَوْ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ؛ لِأَنَّهُ يُقَسِّي الْقَلْبَ وَيُكْسِلُ الْبَدَنَ وَيُنْسِي الْإِخْوَانَ الْمُحْتَاجِينَ (ظِلٌّ بَارِدٌ) خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِلْمُبْتَدَأِ الْمَذْكُورِ، أَوْ لِمُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ، وَالْجُمْلَةُ قَامَتْ مَقَامَ التَّعْلِيلِ لِلْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَرُطَبٌ طَيِّبٌ) تَذْكِيرُ الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرُّطَبَ لَيْسَ بِجَمْعٍ بَلْ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يُطْلَقُ عَلَى الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ، وَلَعَلَّ تَرْكَ ذِكْرِ الْبُسْرِ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، أَوْ لِتَغْلِيبِ الرُّطَبِ عَلَيْهِ، أَوْ لِقِلَّةِ اسْتِعْمَالِ الْبُسْرِ، (وَمَاءٌ بَارِدٌ) أَيْ: وَحُلْوٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّ قَوْلَهُ ظِلٌّ بَارِدٌ إِلَى آخِرِهِ بَدَلٌ مِنْ هَذَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ، وَكَانَ عَدَمُ ذِكْرِ الْبُسْرِ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَخْتَارُوا مِنْهُ شَيْئًا فَلَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ مِنَ الْجِهَتَيْنِ (فَانْطَلَقَ) أَيْ: فَأَرَادَ الِانْطِلَاقَ (أَبُو الْهَيْثَمِ لِيَصْنَعَ لَهُمْ طَعَامًا) أَيْ: مَطْبُوخًا مَصْنُوعًا عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُطْلَقُ الطَّعَامُ عَلَى الْفَاكِهَةِ لُغَةً عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ: الطَّعَامُ الْبُرُّ وَمَا يُؤْكَلُ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ نَحْوَ الرُّطَبِ فَاكِهَةٌ لَا طَعَامٌ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ طَعَامًا مَصْنُوعًا لَا مُطْلَقًا كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ (لِيَصْنَعَ) عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ: التَّقْدِيرُ طَعَامًا آخَرَ فَتَدَبَّرْ، وَأَجَابَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْهُ بِمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا، هَذَا مَعَ أَنَّهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ الرُّطَبَ وَالرُّمَّانَ لَيْسَا بِفَاكِهَةٍ، بَلِ الرُّطَبُ غِذَاءٌ وَالرُّمَّانُ دَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الْفَاكِهَةُ مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ تَلَذُّذًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ، وَإِنِ احْتَمَلَ كَوْنَهُ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَذْبَحَنَّ لَنَا) قَالَ مِيرَكُ: لَعَلَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِمَ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ لَهُمْ شَاةً فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَذْبَحَنَّ لَنَا (ذَاتَ دَرٍّ) بِفَتْحِ دَالٍ وَتَشْدِيدِ رَاءٍ، أَيْ: لَبَنٍ وَلَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنْ تَكُونَ حَامِلًا، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ، وَإِنَّمَا نَهَاهُ عَنْ ذَبْحِهَا شَفَقَةً عَلَى أَهْلِهَا بِانْتِفَاعِهِمْ بِاللَّبَنِ مَعَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِغَيْرِهَا وَمِنْ ثَمَّةَ لَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إِلَّا هِيَ لَمْ يَتَوَجَّهْ هَذَا النَّهْيُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ نَهْيُ إِرْشَادٍ وَمُلَاطَفَةٍ، فَلَا كَرَاهَةَ فِي الْمُخَالَفَةِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ فِي إِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَإِنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِصُدُورِ نَحْوِ ذَلِكَ النَّهْيِ مِنْهُ، ثُمَّ لَيْسَ هَذَا مِنَ التَّكَلُّفِ الْمَكْرُوهِ لِلسَّلَفِ احْتَاجَ إِلَى تَكَلُّفِ السَّلَفِ، أَوْ إِذَا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُضِيفِ وَكِلَاهُمَا مَفْقُودَانِ هُنَا مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالَغَ فِي إِكْرَامِ الضَّيْفِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، لَاسِيَّمَا وَهَؤُلَاءِ الْأَضْيَافُ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ نَظِيرٌ فِي الْعَالَمِ مَعَ نُدُورِ حُصُولِ هَذَا الْمُغْتَنَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَذَبَحَ لَهُمْ عَنَاقًا) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَهُوَ الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ لَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ (أَوْ جَدْيًا) شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ الذَّكَرُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ مَا لَمْ يَبْلُغْ سَنَةً (فَأَتَاهُمْ بِهَا فَأَكَلُوا) مِنْهَا أَيْ: بَعْضَهَا (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لَكَ خَادِمٌ) أَيْ: غَائِبٌ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ عَلَى سُؤَالِهِ رُؤْيَتُهُ لَهُ، وَهُوَ يَتَعَاطَى خِدْمَةَ بَيْتِهِ بِنَفْسِهِ (قَالَ: لَا، قَالَ: فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ أَيْ: مَسْبِيٌّ مِنَ الْأُسَارَى عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً (فَأْتِنَا) فَاحْضُرْنَا، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى كَمَالِ كَرَمِهِ وَجُودِهِ حَيْثُ عَزَمَ عَلَى إِحْسَانِهِ وَمُكَافَأَتِهِ بِوَعْدِهِ (فَأُتِيَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: فَجِيءَ (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَأْسَيْنِ) أَيْ: بِأَسِيرَيْنِ اثْنَيْنِ (لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ) تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ (فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ) أَيِ اتِّفَاقًا، أَوْ بِالْقَصْدِ بِمُقْتَضَى الْوَعْدِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَرْ مِنْهُمَا) أَيْ: وَاحِدًا (فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ اخْتَرْ لِي) أَيْ: أَنْتَ فَإِنَّ اخْتِيَارَكَ لِي خَيْرٌ مِنِ اخْتِيَارِي لِنَفْسِي، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ عَقْلِهِ وَحُسْنِ أَدَبِهِ وَفَضْلِهِ(فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَادَ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا، فَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ، رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ سَمُرَةَ، وَزَادَ إِنْ شَاءَ أَشَارَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُشِرْ، وَفِي الْأَوْسَطِ عَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ- وَزَادَ فَإِذَا اسْتُشِيرَ فَلْيُشِرْ بِمَا هُوَ صَانِعٌ لِنَفْسِهِ، ثُمَّ الِاسْتِشَارَةُ اسْتِخْرَاجُ الرَّأْيِ مِنْ قَوْلِهِمْ شُرْتُ الْعَسَلَ إِذَا أَخْرَجْتَهَا مِنْ خَلَايَاهَا، وَالِاسْمُ الْمَشُورَةُ وَالْمَشْوَرَةُ، وَهُمَا لُغَتَانِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنِ اسْتَشَارَ ذَا رَأْيٍ فِي أَمْرٍ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وَجْهُ صَلَاحِهِ فَقَدِ ائْتَمَنَهُ وَاسْتَشْفَى بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُشِيرَ عَلَيْهِ بِمَا يَرَاهُ النُّصْحَ فِيهِ، وَلَوْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسْتَشَارَ أَمِينٌ فِيمَا يَسْأَلُ مِنَ الْأُمُورِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخُونَ الْمُسْتَشِيرَ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ وَامْتِنَاعِ نَصِيحَتِهِ (خُذْ هَذَا) إِشَارَةً إِلَى أَحَدِ الرَّأْسَيْنِ (فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي) أَيْ: وَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِأَمْرِهِ وَدَلِيلٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ (وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا) أَمْرُ مُخَاطَبٍ عَطْفًا عَلَى خُذْ مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتَوْصَى بِمَعْنَى أَوْصَى إِذَا أَمَرَ أَحَدًا بِشَيْءٍ وَيُعَدَّى بِالْبَاءِ، أَيْ: مُرْهُ بِالْمَعْرُوفِ وَعِظْهُ مَعْرُوفًا كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنِ اسْتَوْصَى إِذَا قَبِلَ وَصِيَّتَهُ أَحَدٌ، أَيْ: قَبِلَ وَصِيَّتِي فِي شَأْنِهِ بِالْمَعْرُوفِ، وَقِيلَ أَيِ اطْلُبِ الْوَصِيَّةَ وَالنَّصِيحَةَ لَهُ عَنْ نَفْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنَّ السِّينَ لِلطَّلَبِ مُبَالَغَةً وَاخْتَارَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَقَالَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ}.
الْكَشَّافُ السِّينُ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ: يَسْأَلُونَ أَنْفُسَهُمُ الْفَتْحَ عَلَيْهِمْ كَالسِّينِ فِي اسْتَعْجَبَ، أَقُولُ الْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَى يَسْتَفْتِحُونَ يَسْتَنْصِرُونَ، أَيْ: يَطْلُبُونَ الْفَتْحَ وَالنُّصْرَةَ مِنَ اللَّهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ كَانُوا أَعْدَاءً لِأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَعَالِمِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ هُوَ مِنْ بَابِ التَّجْرِيدِ؛ أَيْ: تَجَرَّدْ بِهِ عَنْ نَفْسِكَ شَخْصًا وَاطْلُبْ مِنْهُ الْمَعْرُوفَ وَالْخَيْرَ بِهِ، ثُمَّ انْتِصَابُ مَعْرُوفًا عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: اسْتِيصَاءً مَعْرُوفًا، وَفِي نُسْخَةٍ وَاسْتَوْصَى بِصِيغَةِ الْمَاضِي، أَيِ اسْتَوْصَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِالْعَبْدِ مَعْرُوفًا (فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ) أَيْ: فَذَهَبَ بِهِ (إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا أَنْتَ) أَيْ: لَوْ صَنَعْتَ مَا صَنَعْتَ مِنَ الْمَعْرُوفِ بِهِ، مَا أَنْتَ (بِبَالِغٍ) أَيْ: بِوَاصِلٍ (مَا قَالَ فِيهِ) أَيْ: فِي حَقِّهِ (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مِنَ الْمَعْرُوفِ (إِلَّا أَنْ تُعْتِقَهُ) مِنَ الْعَتَاقِ، وَالْخِطَابُ لِأَبِي الْهَيْثَمِ (قَالَ فَهُوَ) أَيْ: فَإِذَا هُوَ (عَتِيقٌ) أَيْ: مَعْتُوقٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: فَبِسَبَبِ مَا قُلْتُهُ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ هُوَ عَتِيقٌ فَرَّعَهُ عَلَى قَوْلِهَا إِعْلَامًا بِأَنَّ لَهَا تَسَبُّبًا عَظِيمًا فِي عِتْقِهِ، وَقَدْ صَحَّفِي الْحَدِيثِ أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ، (فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: بَعْدَ مَا أُخْبِرَ بِالْقَضِيَّةِ، وَإِبْهَامُ الْمُخْبِرِ أَوْلَى مِمَّا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ تَعْيِينِ أَبِي الْهَيْثَمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا، وَلَا خَلِيفَةً) أَيْ: مِنَ الْخُلَفَاءِ أَوِ الْعُلَمَاءِ أَوِ الْأُمَرَاءِ (إِلَّا وَلَهُ بِطَانَتَانِ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ، تَثْنِيَةُ بِطَانَةٍ، وَهِيَ الْمُحِبُّ الْخَالِصُ لِلرَّجُلِ، مُسْتَعَارٌ مِنْ بِطَانَةِ الثَّوْبِ، وَهِيَ خِلَافُ الظِّهَارَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ وَلِيجَتُهُ، وَهِيَ دَاخِلَةُ أَمْرِهِ وَصَاحِبُ سِرِّهِ الَّذِي يُشَاوِرُهُ فِي أَحْوَالِهِ، عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ هُوَ الَّذِي يُعَرِّفُهُ الرَّجُلُ أَسْرَارَهُ ثِقَةً بِهِ، شُبِّهَ بِبِطَانَةِ الثَّوْبِ كَمَا شُبِّهَ بِالشِّعَارِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ»، وَفِي الصِّحَاحِ يُقَالُ: بَطَنْتَ الرَّجُلَ إِذَا جَعَلْتَهُ مِنْ خَوَاصِّكَ (بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لَا تَأْلُوهُ) أَيْ: لَا تَمْنَعُهُ (خَبَالًا) أَيْ: فَسَادًا أَيْ: مِنْ فَسَادٍ يَفْعَلُهُ، أَوْ لَا تُقَصِّرُ فِي حَقِّهِ عَنْ إِدْخَالِ الْخَبَالِ عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} الْكَشَّافُ: يُقَالُ: أَلَا فِي الْأَمْرِ يَأْلُو إِذَا قَصَّرَ فِيهِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ مُعَدًّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ فِي قَوْلِهِمْ لَا آلُوكَ نُصْحًا، وَلَا آلُوكَ جُهْدًا، عَلَى التَّضْمِينِ، أَيْ: تَضْمِينِ مَعْنَى الْمَنْعِ أَوِ النَّقْصِ، وَالْمَعْنَى لَمْ أَمْنَعْكَ نُصْحًا، وَلَا أَنْقُصُكَ جُهْدًا (وَمَنْ يُوقَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنْ وَقَى يَقِي أَيْ: مَنْ يُحْفَظُ (بِطَانَةَ السَّوْءِ) بِفَتْحِ السِّينِ، وَيَجُوزُ ضَمُّهُ فَفِيهِ لُغَتَانِ كَمَا فِي الْكُرْهِ وَالضَّعْفِ إِلَّا أَنَّ الْمَفْتُوحَةَ غَلَبَتْ مَعَ أَنَّهُ يُضَافُ إِلَيْهَا مَا يُرَادُ ذَمُّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَّا السَّوْءُ فَجَارٍ مَجْرَى الشَّرِّ الَّذِي هُوَ نَقِيضُ الْخَيْرِ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعِ (فَقَدْ وُقِيَ) مَاضٍ مَجْهُولٌ أَيْ: حُفِظَ مِنَ الْفَسَادِ أَوْ جَمِيعِ الْأَسْوَاءِ وَالْمَكَارِهِ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ: وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ»، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ».
(حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ) بِضَمِّ مِيمٍ فَجِيمٍ، ثُمَّ كَسْرِ لَامٍ (ابْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنِي أَبِي) أَيْ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُجَالِدٍ (عَنْ بَيَانٍ) بِمُوَحَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَتَحْتِيَّةٍ، وَهُوَ ابْنُ بِشْرٍ عَلَى مَا فِي نُسْخَةٍ بِكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ فَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ، (حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ حَازِمٍ) وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ (قَالَ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) اسْمُهُ مَالِكُ بْنُ أُهَيْبٍ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَقِيلَ وُهَيْبٍ (يَقُولُ إِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ أَهَرَاقَ) بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِسُكُونِهَا، وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُهَا، وَفِي أُخْرَى هَرَاقَ بِلَا هَمْزٍ أَيْ: أَرَاقَ وَصَبَّ (دَمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: مِنْ شَجَّةٍ شَجَّهَا لِمُشْرِكٍ، كَمَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الِاسْتِخْفَاءِ، وَكَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِصَلَاتِهِمْ فِي الشِّعَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي نَفَرٍ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكَّةَ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ مُشْرِكُونَ وَهُمْ يُصَلُّونَ فَعَابُوهُمْ وَاشْتَدَّ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمْ فَضَرَبَ سَعْدٌ رَجُلًا مِنْهُمْ بَلَحَى بِعِيرٍ فَشَجَّهُ فَكَانَ أَوَّلَ دَمٍ أُرِيقَ فِي الْإِسْلَامِ (وَإِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ) أَوْ مِنَ الْعَرَبِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ (رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) قَالَ مِيرَكُ: ذَكَرَ أَكْثَرُ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي أَنَّ أَوَّلَ غَزْوَةٍ غَزَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَبْوَاءُ عَلَى رَأْسِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدِمِهِ الْمَدِينَةَ يُرِيدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَرَوَى ابْنُ عَائِذٍ فِي مَغَازِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَ الْأَبْوَاءَ بَعَثَ عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَيِ ابْنَ الْمُطَّلِبِ وَعَقَدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ لِوَاءٍ، وَهُوَ أَوَّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ فِي سِتِّينَ رَجُلًا، أَيْ: مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَلَقُوا جَمْعًا أَيْ: كَثِيرًا مِنْ قُرَيْشٍ قِيلَ أَمِيرُهُمْ أَبُو سُفْيَانَ فَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ، فَرَمَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِسَهْمٍ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَخَالَفَهُ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: فَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَالْأَبْوَاءُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمَدِّ قَرْيَةٌ، كَذَا ذَكَرَهُ، وَفِي الْقَامُوسِ أَنَّهُ مَوْضِعٌ، وَفِي النِّهَايَةِ جَبَلٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَعِنْدَهُ بَلَدٌ يُنْسَبُ إِلَيْهِ انْتَهَى.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ، وَلَا يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْقِتَالِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا يُنَافِي رَمْيَ وَاحِدٍ مِنْ جَانِبٍ (لَقَدْ رَأَيْتُنِي) أَيْ: أَبْصَرْتُ نَفْسِي (أَغْزُ وَفِي الْعِصَابَةِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ وَكَذَا الْعُصْبَةُ، وَلَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا (مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَأْكُلُ) أَيْ: شَيْئًا (الْأَوْرَاقَ الشَّجَرَ وَالْحُبْلَةَ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ ثَمَرَةُ السَّمُرَةِ يُشْبِهُ اللُّوبِيَا، وَقِيلَ ثَمَرَةُ الْعَضَاةِ، وَالْعَضَاةُ كُلُّ شَجَرٍ يَعْظُمُ وَلَهُ شَوْكٌ، وَالسَّمُرُ نَوْعٌ مِنْهُ، وَهِيَ مَنْصُوبَةٌ، وَفِي نُسْخَةٍ مَجْرُورَةٌ (حَتَّى أَنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشَّاةُ وَالْبَعِيرُ) يُرِيدُ أَنَّ فَضَلَاتِنَا لِعَدَمِ الْغِذَاءِ الْمَعْرُوفِ وَالطَّعَامِ الْمَأْلُوفِ يُشْبِهُ أَرْوَاثَهُمَا لِيَبَسِهِمَا، وَهَذَا كَانَ فِي غَزْوَةِ الْخَبَطِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَأَمِيرُهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ، زَوَّدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِرَابَ تَمْرٍ، فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِيهِمْ حَفْنَةً حَفْنَةً، ثُمَّ قَلَّلَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ صَارَ يُعْطِيهِمْ تَمْرَةً تَمْرَةً، ثُمَّ أَكَلُوا الْخَبَطَ حَتَّى صَارَ أَشْدَاقُهُمْ كَأَشْدَاقِ الْإِبِلِ، ثُمَّ أَلْقَى إِلَيْهِمُ الْبَحْرُ سَمَكَةً عَظِيمَةً جِدًّا فَأَكَلُوا مِنْهَا شَهْرًا أَوْ نِصْفَهُ، وَقَدْ وُضِعَ ضِلْعٌ مِنْهَا فَدَخَلَ تَحْتَهُ بَعِيرٌ بِرَاكِبِهِ، وَاسْمُهَا الْعَنْبَرُ، وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ، أَيْ: لِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سَعْدٌ، فِي غَزَاةٍ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْحُبْلَةُ... الْحَدِيثَ، فَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَعُنْوَانِ الْبَابِ ظَهَرَتْ عَلَى وَجْهِ الصَّوَابِ مَعَ أَنَّ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَيْضًا دَلَالَةٌ مِنْ حَيْثُ أَنَّ ضِيقَ عَيْشِ أَصْحَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى ضِيقِ عَيْشِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوسِعًا لَوَسَّعَ عَلَيْهِمْ، وَلَمَا اكْتَفَى بِجِرَابِ تَمْرٍ فِي زَادِ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحَارِبِينَ، (وَأَصْبَحَتْ) أَيْ: صَارَتْ (بَنُو أَسَدٍ) وَهُمْ قَبِيلَةٌ (يُعَزِّرُونَنِي فِي الدِّينِ) وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى الدِّينِ، وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ الْمَكْسُورَةِ مِنَ التَّعْزِيرِ بِمَعْنَى التَّأْدِيبِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ نُونِ الرَّفْعِ، وَفِي أُخْرَى بِصِيغَةِ الْوَاحِدَةِ الْغَائِبَةِ بِنَاءً عَلَى تَأْنِيثِ الْقَبِيلَةِ، أَيْ: يُوَبِّخُونَنِي بِأَنِّي لَا أُحْسِنُ الصَّلَاةَ، وَيُعْلِمُونَنِي بِآدَابِهَا مَعَ سَبْقِي فِي الْإِسْلَامِ، وَدَوَامِ مُلَازَمَتِي لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (لَقَدْ خِبْتُ) بِكَسْرِ خَاءٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ، فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْخَيْبَةِ بِمَعْنَى الْخُسْرَانِ وَالْحِرْمَانِ، أَيْ: لَقَدْ حُرِمْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَخَسِرْتُ (إِذَا) أَيْ: إِنْ كُنْتُ مُحْتَاجًا لِتَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ (وَضَلَّ) أَيْ: ضَاعَ وَبَطَلَ (عَمَلِي) وَفِي إِحْدَى رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ وَضَلَّ سَعْيِي كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ بَعْدَ قَوْلِهِ وَضَلَّ عَمَلِي، وَكَانُوا وَشَوْا بِهِ إِلَى عُمَرَ قَالُوا: لَا يُحْسِنُ يُصَلِّي، أَيْ: نَمَوْا وَشَكَوْا إِلَيْهِ عَنْهُ حِينَ كَانَ أَمِيرًا بِالْبَصْرَةِ، وَالْوِشَايَةُ السِّعَايَةُ، قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تُعَزِّرُنِي عَلَى الدِّينِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ تُعَزِّرُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْإِسْلَامِ وَالدِّينِ إِيذَانًا بِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ وَرَأْسُ الْإِسْلَامِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عِيسَى أَبُو نَعَامَةَ) بِفَتْحِ النُّونِ فِي الْأَصْلِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهَا وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، فَفِي الْمُغْنِي: يَزِيدُ بْنُ نُعَامَةَ بِضَمِّ النُّونِ وَأَبُو نَعَامَةَ بِفَتْحِ النُّونِ اسْمُهُ عِيسَى بْنُ سَوَادَةَ ثِقَةٌ (الْعَدَوِيُّ) بِفَتْحَتَيْنِ (قَالَ سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ عُمَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَشُوَيْسًا) بِمُعْجَمَةٍ، ثُمَّ مُهْمَلَةٍ (أَبَا الرُّقَادِ) بِضَمٍّ فَقَافٍ مُخَفَّفَةٍ (قَالَا) أَيْ: كِلَاهُمَا (بَعَثَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) أَيْ: فِي أَوَاخِرِ خِلَافَتِهِ (عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ) بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ وَسُكُونِ زَايٍ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ مُهَاجِرِيٌّ بَدْرِيٌّ (وَقَالَ) أَيْ: عُمَرُ (انْطَلِقْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ) أَيْ: مِنَ الْعَسْكَرِ (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي أَقْصَى أَرْضِ الْعَرَبِ) أَيْ: أَبْعَدِهَا (وَأَدْنَى بِلَادِ أَرْضِ الْعَجَمِ) أَيْ: أَقْرَبِهَا إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ هَذَا غَايَةُ سَيْرِكُمْ (فَأَقْبَلُوا) فِعْلٌ مَاضٍ مِنَ الْإِقْبَالِ أَيْ: تَوَجَّهُوا (حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْمِرْبَدِ) بِكَسْرِ مِيمٍ فَسُكُونٍ فَفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ مِنْ رَبَدَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ فِيهِ، وَرَبَدَهُ إِذَا حَبَسَهُ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُحْبَسُ فِيهِ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ، أَوْ يُجْمَعُ فِيهِ الرُّطَبُ حَتَّى تَجِفَّ، وَبِهِ سُمِّيَ مِرْبَدُ الْبَصْرَةِ (وَجَدُوا هَذَا الْكَذَّانَ) بِفَتْحِ كَافٍ وَتَشْدِيدِ ذَالٍ مُعْجَمَةٍ حِجَارَةٌ رَخْوَةٌ بِيضٌ كَأَنَّهَا مَدَرٌ وَنُونُهُ أَصْلِيَّةٌ أَوْ زَائِدَةٌ، وَالْبَصْرَةُ أَيْضًا حِجَارَةٌ رَخْوَةٌ مَائِلَةٌ إِلَى الْبَيَاضِ (فَقَالُوا) أَيْ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ (مَا هَذِهِ) أَيْ: اسْمُ هَذِهِ الْأَرْضِ (هَذِهِ الْبَصْرَةُ) أَيْ: قَالُوا كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّرَةً، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ، ثُمَّ الْبَصْرَةُ بَنَاهَا عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَنَةَ سَبْعَ عَشَرَ وَسَكَنَهَا النَّاسُ سَنَةَ ثَمَانِ عَشَرَ، قِيلَ وَلَمْ يُعْبَدْ بِأَرْضِهَا صَنَمٌ، وَيُقَالُ لَهَا قُبَّةُ الْإِسْلَامِ وَخِزَانَةُ الْعَرَبِ، وَالنِّسْبَةُ بَصْرِيٌّ عَلَى الْقِيَاسِ، وَأَكْثَرُ السَّمَاعِ بِالْكَسْرِ، وَرَوَى أَبُو زَيْدٍ ضَمَّهَا، وَالْبَصْرَتَانِ الْكُوفَةُ وَالْبَصْرَةُ (فَسَارُوا) أَيْ: فَتَعَدَّوْا عَنْهَا وَسَارُوا (حَتَّى إِذَا بَلَغُوا أَحِيَالَ الْجِسْرِ الصَّغِيرِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَتَحْتِيَّةٌ أَيْ: تِلْقَاءَهُ، وَمُقَابِلَهُ وَالْجِسْرُ بِكَسْرِ الْجِيمِ مَا يُبْنَى عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَيُرَكَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَلْوَاحِ وَالْحَشْيَانِ لِيَعْبُرُوا عَلَيْهِ (فَقَالُوا) أَيْ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ (هَاهُنَا) أَيْ: فِي هَذَا الْمَكَانِ (أُمِرْتُمْ) أَيْ: بِالنُّزُولِ وَالْإِقَامَةِ حِفْظًا لَهُ عَنْ عَدٍّ وَيَجْرِي لِأَخْذِهِ (فَنَزَلُوا فَذَكَرُوا) الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَذَكَرَا بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى خَالِدٍ وَشُوَيْسٍ، وَفِي نُسْخَةٍ فَذَكَرَ بِصِيغَةِ الْوَاحِدِ الْمَعْلُومِ أَيْ: مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَوْ أَبُو نَعَامَةَ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ، أَوْ ذَكَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّوَايَتَيْنِ (الْحَدِيثَ بِطُولِهِ) وَلَمْ يَسْتَكْمِلْهُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لِلْبَابِ هُوَ مَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ عُتْبَةَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضِيقِ عَيْشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ (قَالَ) أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ، وَهُوَ يُرَجِّحُ مِثْلَهُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْوِيلِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ قَالَا، أَيْ: كِلَاهُمَا (فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ لَقَدْ رَأَيْتُنِي) أَيْ: أَبْصَرْتُ نَفْسِي (وَإِنِّي) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: وَالْحَالُ إِنِّي (لَسَابِعُ سَبْعَةٍ) أَيْ: فِي الْإِسْلَامِ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ سِتَّةِ نَفَرٍ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: وَاحِدٌ مِنْ سَبْعَةٍ جَعَلَ نَفْسَهُ سَابِعًا؛ لِأَنَّهُ سَبَّعَ السِّتَّةَ، لَكِنَّ قَضِيَّةَ قَوْلِهِ الْآتِي بَيْنِي وَبَيْنَ سَبْعَةٍ أَنَّهُ ثَامِنٌ، لَكِنَّ قَوْلَهُ أُولَئِكَ السَّبْعَةُ بَدَلُ الْأَوَّلِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ هُنَاكَ بَقِيَّةُ سَبْعَةٍ، قُلْتُ وَسَيَأْتِي أَنَّ رِوَايَةَ الْأَصْلِ بَيْنَ سَعْدٍ، وَأَنَّ فِي نُسْخَةٍ بَيْنَ سَبْعَةٍ، وَهِيَ تَصْحِيفٌ وَتَحْرِيفٌ فَالْمَدَارُ عَلَيْهِ ضَعِيفٌ (مَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ (حَتَّى تَقَرَّحَتْ) بِالْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ قَرِحَتْ عَلَى زِنَةِ فَرِحَتْ، وَفِي أُخْرَى بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: جُرِحَتْ (أَشْدَاقُنَا) جَمْعُ شِدْقٍ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ جَانِبُ الْفَمِ، أَيْ: صَارَتْ فِيهَا أَقْرَاحٌ وَجِرَاحٌ مِنْ خُشُونَةِ الْوَرَقِ الَّذِي نَأْكُلُهُ وَحَرَارَتِهِ (فَالْتَقَطْتُ) أَيْ: أَخَذْتُ مِنَ الْأَرْضِ عَلَى مَا فِي الصِّحَاحِ (بُرْدَةً) بِضَمِّ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ رَاءٍ شَمْلَةٌ مُخَطَّطَةٌ، وَقِيلَ كِسَاءٌ أَسْوَدُ مُرَبَّعٌ، فِيهِ خُطُوطٌ صُفْرٌ، يَلْبَسُهُ الْأَعْرَابُ، وَقَالَ مِيرَكُ: الِالْتِقَاطُ أَنْ يُعْثَرَ عَلَى الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَطَلَبٍ (فَقَسَمْتُهَا) بِتَخْفِيفِ السِّينِ، وَيَجُوزُ تَشْدِيدُهَا (بَيْنِي وَبَيْنَ سَبْعَةٍ) أَيْ: ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ سَبْعَةٍ بَدَلَ سَعْدٍ، وَهُوَ سَهْوٌ لِمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ فَقَسَمْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ فَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا (فَمَا مِنَّا مِنْ أُولَئِكَ السَّبْعَةِ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ أَمِيرُ مِصْرٍ مِنَ الْأَمْصَارِ) أَيْ: وَهَذَا جَزَاءُ الْأَبْرَارِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَهُوَ خَيْرٌ وَأَبْقَى فِي دَارِ الْقَرَارِ (وَسَتُجَرِّبُونَ الْأُمَرَاءَ بَعْدَنَا) إِخْبَارٌ بِأَنَّ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأُمَرَاءِ لَيْسُوا مِثْلَ الصَّحَابَةِ فِي الْعَدَالَةِ وَالدِّيَانَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ وَالْأَغْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ، وَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَهُوَ مِنَ الْكَرَامَاتِ بِالْخَبَرِ عَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ، وَأَشَارَ إِلَى الْفَرْقِ بِأَنَّهُمْ رَأَوْا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ سَبَبًا لِرِيَاضَتِهِمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ وَتَقَلُّلِهِمْ فِي أَمْرِ مَعِيشَتِهِمْ، فَمَضَوْا بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى مَا هُنَالِكَ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ، فَلَا يَكُونُونَ عَلَى قَضِيَّةِ طِبَاعِهِمُ الْمَجْبُولَةِ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْقَبِيحَةِ، فَلَا يَسْتَقِيمُوا مَعَ الْحَقِّ عَلَى الصِّدْقِ، وَلَا مَعَ الْخَلْقِ عَلَى حُسْنِ الْخُلُقِ.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ أَسْلَمَ) بِفَتْحٍ وَسُكُونِ وَاوٍ، ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ (أَبُو حَاتِمٍ) بِكَسْرِ التَّاءِ (الْبَصْرِيُّ) بِالْفَتْحِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهُ (حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ) مَاضٍ مَجْهُولٌ مِنْ أَخَافَ بِمَعْنَى خُوِّفَ (وَمَا يُخَافُ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ، أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يَخَافُ (أَحَدٌ غَيْرِي) لِأَنِّي كُنْتُ وَحِيدًا فِي ابْتِدَاءِ إِظْهَارِ دِينِي، وَالْمَعْنَى وَمَا يُخَافُ مِثْلَمَا أُخِفْتُ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ (وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ) أَيْ: فِي دِينِهِ (وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ) أَيْ: وَلَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ يُوَافِقُنِي فِي تَحَمُّلِ أَذِيَّةِ الْكُفَّارِ حِينَئِذٍ (وَلَقَدْ أَتَتْ) أَيْ: مَرَّتْ وَمَضَتْ (عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ: تَأْكِيدٌ لِلشُّمُولِ أَيْ: ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَيْلَةً مُتَوَالِيَاتٍ لَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ، نَقَلَهُ مِيرَكُ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: فِيهِ تَأَمُّلٌ، قُلْتُ الظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ تَمْيِيزٌ لِثَلَاثِينَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْعَدَدَ نِصْفُ شَهْرٍ لَا شَهْرٌ كَامِلٌ (مَا لِي) وَفِي نُسْخَةٍ وَمَا لِي بِالْوَاوِ، وَجَعَلَهُ الْعِصَامُ أَصْلًا، وَقَالَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِدُونِ وَاوٍ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ وُجُودَ الْوَاوِ ظَهَرَ فِي إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَالِيَّةَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ لِي (وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ) أَيْ: عَلَى وَجْهِ الشِّبَعِ (ذُو كَبِدٍ) أَيْ: حَيَوَانٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قِلَّتِهِ (إِلَّا شَيْءٌ) أَيْ: قَلِيلٌ جِدًّا (يُوَارِيهِ) أَيْ: يَسْتُرُهُ (إِبِطُ بِلَالٍ) فَكَنَّى بِالْوَارِدَةِ تَحْتَ الْإِبِطِ عَنِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ وَعَنْ عَدَمِ مَا يُجْعَلُ مِنْ ظَرْفٍ وَشَبَهِهِ مِنْ مِنْدِيلٍ وَنَحْوِهِ، وَتَوْضِيحُهُ مَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي وَكَانَ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ تَمُرُّ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِي طَعَامٌ وَكُسْوَةٌ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِلَالٌ رَفِيقِي، وَمَا لَنَا شَيْءٌ مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا شَيْءٌ يَسِيرٌ قَلِيلٌ بِقَدْرِ مَا يَأْخُذُهُ بِلَالٌ تَحْتَ إِبِطِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ظَرْفٌ نَضَعُ الطَّعَامَ فِيهِ، وَاعْلَمْ أَنِّي رَأَيْتُ بِخَطِّ مِيرَكَ عَنِ السَّيِّدِ أَصِيلِ الدِّينِ قُدِّسَ سِرُّهُ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ سُكُونَ الْبَاءِ فِي إِبِطٍ، وَمَا سَمِعْنَا بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَيَقُولُونَ بِهَا أَهْلُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ، وَهُوَ غَلَطٌ فَاحِشٌ انْتَهَى، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ الْكَسْرُ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ فَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْإِبِطُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَكَسْرِهَا مَا تَحْتَ الْجَنَاحِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالْجَمْعُ آبَاطٌ، وَفِي الْقَامُوسِ: الْإِبِطُ بَاطِنُ الْمَنْكِبِ وَبِكَسْرِ الْبَاءِ، وَقَدْ يُؤَنَّثُ هَذَا، وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْمُصَنِّفُ فِي جَامِعِهِ أَيْضًا، وَقَالَ: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ حِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَارِبًا مِنْ مَكَّةَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، إِنَّمَا كَانَ مَعَ بِلَالٍ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَحْمِلُهُ تَحْتَ إِبِطِهِ.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عُثْمَانُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْتَمِعْ عِنْدَهُ غَدَاءٌ) بِفَتْحِ مُعْجَمَةٍ فَمُهْمَلَةٍ، وَهُوَ الَّذِي يُؤْكَلُ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَيُسَمَّى السُّحُورُ غَدَاءً؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ غَدَاءِ الْمُفْطِرِ (وَلَا عَشَاءٌ) وَهُوَ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ: مَا يُؤْكَلُ عِنْدَ الْعَشَاءِ، وَأَرَادَ بِالْعَشَاءِ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَشَاءِ مَا يُؤْكَلُ آخِرَ النَّهَارِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَكْلُهُمْ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ سُمِّيَ الْعَشَاءَ وَقَيَّدَهُ بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ اللَّيْلِ، وَإِلَّا فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَقُولَ الْمُرَادُ بِهِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ، إِذْ إِطْلَاقُ الْعِشَاءِ عَلَى الْمَغْرِبِ مَجَازٌ، وَقَوْلُهُمْ مَا بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ تَغْلِيبٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ (إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَالْعِشَاءُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ) فَيَعُمُّ الْحُكْمُ لَهُمَا، إِذِ الْغَرَضُ فَرَاغُ الْخَاطِرِ عَنْ تَوَجُّهِ النَّفْسِ إِلَى السِّوَى وَتَوْجِيهُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَوْلَى، وَلِذَا قِيلَ: طَعَامٌ مَخْلُوطٌ بِالصَّلَاةِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةٍ مَخْلُوطَةٍ بِالطَّعَامِ (مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ) أَيْ: لَا يَجْتَمِعُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي خُبْزٍ وَلَحْمٍ، وَالْمَعْنَى لَا يُوجَدَانِ اثْنَانِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، بَلْ إِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا فُقِدَ الْآخَرُ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ مِنْ زَائِدَةٌ أَوْ لَا يُوجَدُ مَزِيدٌ لِلْمُبَالَغَةِ (إِلَّا عَلَى ضَفَفٍ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ الْأُولَى، أَيْ: عَلَى حَالٍ نَادِرٍ، وَهُوَ تَنَاوُلُهُ مَعَ ضَيْفِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ شَيْخِ التِّرْمِذِيِّ (قَالَ بَعْضُهُمْ) أَيْ: مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَاللُّغَوِيِّينَ (هُوَ) أَيِ: الضَّفَفُ (كَثْرَةُ الْأَيْدِي) وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ: الضَّفَفُ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ كَثْرَةُ الْعِيَالِ وَأَنْشَدَ.
لَا ضَفَفَ يَشْغَلُهُ وَلَا ثِقَلُ.
أَيْ لَا يَشْغَلُهُ عَنْ حَجِّهِ وَنُسُكِهِ عِيَالٌ، وَلَا مَتَاعٌ، وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: سَأَلْتُ بَدَوِيًّا فَقَالَ: تَنَاوُلًا مَعَ النَّاسِ، وَقَالَ الْخَلِيلُ: كَثْرَةُ الْأَيْدِي مَعَ النَّاسِ كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَفِي النِّهَايَةِ الضَّفَفُ: الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ، وَمِنْهُ مَا يَشْبَعُ مِنْهُمَا إِلَّا عَنْ ضِيقٍ وَقِلَّةٍ، وَقِيلَ هُوَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ، أَيْ: لَمْ يَأْكُلْهُمَا وَحْدَهُ وَلَكِنْ مَعَ النَّاسِ، وَقِيلَ الضَّفَفُ أَنْ يَكُونَ الْأَكَلَةُ أَكْثَرَ مِنْ مِقْدَارِ الطَّعَامِ، وَالْحَفَفُ أَنْ يَكُونُوا بِمِقْدَارِهِ انْتَهَى، وَيُرْوَى (شَظَفٍ) بِشِينٍ وَظَاءٍ مُعْجَمَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ الضَّفَفُ وَالْحَفَفُ وَالشَّظَفُ كُلُّهَا الْقِلَّةُ وَالضِّيقُ فِي الْعَيْشِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جَاءَنَا عَلَى ضَفَفٍ وَحَفَفٍ أَيْ: عَلَى حَاجَةٍ، أَيْ: لَمْ يَشْبَعْ، وَهُوَ رَأْفَةُ الْحَالِ مُتَّسِعُ نِطَاقِ الْعَيْشِ، وَلَكِنْ غَالِبًا عَلَى عَيْشِهِ الضَّيِّقُ وَعَدَمُ الرَّفَاهِيَةِ، وَقِيلَ الضَّفَفُ اجْتِمَاعُ النَّاسِ أَيْ: لَمْ يَأْكُلْ وَحْدَهُ وَلَكِنْ مَعَ النَّاسِ كَذَا فِي الْفَائِقِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: الضَّفَفُ مُحَرَّكَةٌ كَثْرَةُ الْأَيْدِي عَلَى الطَّعَامِ أَوِ الضِّيقُ وَالشِّدَّةُ أَوْ يَكُونُ الْأَكَلَةُ أَكْثَرَ مِنَ الطَّعَامِ وَالْحَاجَةِ.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) مُصَغَّرًا (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ) بِالتَّصْغِيرِ (حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنَا (ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ وَبِفَتْحٍ (عَنْ نَوْفَلِ) بِفَتْحِ الْفَاءِ (بْنِ إِيَاسٍ) بِكَسْرِ الْهَمْزِ (الْهُذَلِيِّ) بِضَمِّ هَاءٍ وَفَتْحِ مُعْجَمَةٍ (قَالَ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ) وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- (لَنَا جَلِيسًا) أَيْ: مُجَالِسًا (وَكَانَ نِعْمَ الْجَلِيسُ) أَيْ: هُوَ (وَإِنَّهُ) بِكَسْرِ الْهَمْزِ (انْقَلَبَ) أَيْ: رَجَعَ (بِنَا) الْبَاءُ بِمَعْنَى مَعَ أَوِ الْمُصَاحَبَةِ، أَيِ انْقَلَبَ مَعَنَا أَوْ مُصَاحِبًا لَنَا مِنَ السُّوقِ أَوْ غَيْرِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ: رَدَّنَا مِنَ الطَّرِيقِ (ذَاتَ يَوْمٍ) أَيْ: يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ (حَتَّى إِذَا دَخَلْنَا بَيْتَهُ وَدَخَلَ) قَالَ شَارِحٌ: أَيْ بَيْتَهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ دَخَلَ مُغْتَسَلَهُ (فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ) قِيلَ حَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِانْقِلَابَ مَعَهُ صَارَ سَبَبًا لِمُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ، (وَأَتَيْنَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِتْيَانِ (بِصَحْفَةٍ فِيهَا خَبْزٌ وَلَحْمٌ) وَهِيَ إِنَاءٌ كَالْقَصْعَةِ الْمَبْسُوطَةِ وَنَحْوِهَا، وَجَمْعُهَا صِحَافٌ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (فَلَمَّا وُضِعَتْ) أَيِ: الصَّحْفَةُ (بَكَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ، فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَا يُبْكِيكَ؟) مِنَ الْإِبْكَاءِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَجْعَلُكَ بَاكِيًا؟ (قَالَ هَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: مَاتَ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ، قُلْتُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ يُوسُفَ: {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} (وَلَمْ يَشْبَعْ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ) أَيْ: نِسَاؤُهُ أَوْ أَوْلَادُهُ وَأَقَارِبُهُ (مِنْ خُبْزِ الشَّعَيْرِ) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، أَيْ: دَائِمًا، وَفِي بَيْتِهِ أَوْ يَوْمَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ كَمَا جَاءَ عَنْ عَائِشَةَ، فَلَا يُشْكِلُ بِمَا مَرَّ قَرِيبًا فِي قِصَّةِ أَبِي الْهَيْثَمِ، وَفِي الْجُمْلَةِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ضِيقَ عَيْشِهِ وَقِلَّةَ شِبَعِهِ كَانَ مُسْتَمِرًّا فِي حَالِ حَيَاتِهِ إِلَى حِينِ مَمَاتِهِ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ خِلَافَ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ تَذَكَّرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا فِي الصَّحْفَةِ كَانَ مُشْبِعًا لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ (فَلَا أَرَانَا) بِضَمِّ الْهَمْزِ أَيْ: فَلَا أَظُنُّ إِيَّانَا (أُخِّرْنَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (لِمَا خَيْرٌ لَنَا) يَعْنِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، إِذَا كَانُوا كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ، وَنَحْنُ بَعْدَهُ فِي سَعَةِ تَنَعُّمٍ، فَلَا أَظُنُّ أَنَّا أَبْقَيْنَا لِلَّذِي هُوَ خَيْرٌ لَنَا، كَلَّا بَلْ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ضِيقِ الْعَيْشِ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَمَّا مَا صِرْنَا إِلَيْهِ مِنَ السَّعَةِ فَهُوَ مِمَّا يُخْشَى عَاقِبَتُهُ، وَمِنْ ثَمَّةَ كَانَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- يَخَافُونَ أَنَّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ رُبَّمَا عُجِّلَتْ طَيِّبَاتُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، هَذَا وَقَدْ ضُبِطَ فِي الْأَصْلِ: فَلَا أُرَى بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُفْرَدِ وَأَنَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُهُ لِعَدَمِ سَبَبِ حَذْفِ لَامِ الْفِعْلِ مَعَ لَا النَّافِيَةِ.