فصل: باب مَا جَاءَ فِي تَعَطُّرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: جمع الوسائل في شرح الشمائل



.باب فِي صِفَةِ شَرَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

أَيْ مَا كَانَ يَشْرَبُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بَابُ مَا جَاءَ إِلَخْ (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أَيِ ابْنُ عُيَيْنَةَ، كَمَا سَيَأْتِي (عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ) أَيِ ابْنِ الزُّبَيْرِ (عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ أَحَبُّ الشَّرَابِ) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ كَانَ وَقَوْلُهُ: (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مُتَعَلِّقٌ بِأَحَبِّ وَخَبَرُ كَانَ (الْحُلْوُ الْبَارِدُ) وَقِيلَ: بِالْعَكْسِ، وَهُوَ الْمَاءُ الْعَذْبُ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ مِنْ بُيُوتِ السُّقْيَا، وَهِيَ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَسُكُونِ الْقَافِ عَيْنٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ يَوْمَانِ، وَفِيهِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَاسْتِعْذَابُ الْمَاءِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ، وَلَا يَدْخُلُ فِي التَّرَفُّهِ الْمَذْمُومِ، بِخِلَافِ تَطْيِيبِهِ بِنَحْوِ الْمِسْكِ، فَقَدْ كَرَّهَهُ مَالِكٌ لِمَا فِيهِ مِنَ السَّرَفِ، وَقَدْ شَرِبَ الصَّالِحُونَ الْمَاءَ الْحُلْوَ وَطَلَبُوهُ، وَلَيْسَ فِي شُرْبِ الْمَاءِ الْمَالِحِ فَضِيلَةٌ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} وَهُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْفُرَاتُ الَّذِي يَكْسِرُ الْعَطَشَ وَالسَّائِغُ الَّذِي يَسْهُلُ انْحِدَارُهُ، وَالْأُجَاجُ الَّذِي يَحْرِقُ لِمُلُوحَتِهِ، كَانَ السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ يَقُولُ: إِذَا شَرِبْتُ الْمَاءَ الْحُلْوَ أَحْمَدُ رَبِّي مِنْ وَسَطِ قَلْبِي.
وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَاءَ الْمَمْزُوجَ بِالْعَسَلِ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرَ السُّكَّرَ عَلَى أَنَّ مَا فِي الْعَسَلِ مِنَ الشِّفَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} مَعَ نَظَرِ الِاعْتِبَارِ فِي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فِيهِ مِنْ حِفْظِ الصِّحَّةِ مَا لَا يَهْتَدِي لِمَعْرِفَتِهِ إِلَّا أَفَاضِلُ الْأَطِبَّاءِ، فَإِنَّ شُرْبَ الْعَسَلِ وَلَعْقِهِ عَلَى الرِّيقِ يُزِيلُ الْبَلْغَمَ، وَيَغْسِلُ حَمْلَ الْمَعِدَةِ، وَيَجْلُو لِزُوجَتَهَا، وَيَدْفَعُ عَنْهَا الْفَضَلَاتِ، وَيُسَخِّنُهَا بِاعْتِدَالٍ، وَيَفْتَحُ السُّدَدَ وَالْمَاءُ الْبَارِدُ رَطْبٌ، يَقْمَعُ الْحَرَارَةَ، وَيَحْفَظُ الْبَدَنَ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَاءَ الْمَنْقُوعَ فِيهِ تَمْرٌ وَزَبِيبٌ عَلَى مَا سَبَقَ فِي بَابِ النَّبِيذِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ يَشْرَبُ اللَّبَنَ خَالِصًا تَارَةً وَبِالْمَاءِ الْبَارِدِ أُخْرَى لِأَنَّ اللَّبَنَ عِنْدَ الْحَلْبِ يَكُونُ حَارًّا وَتِلْكَ الْبِلَادُ حَارَّةٌ غَالِبًا فَكَانَ يَكْسِرُ حَرَّهُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ.
فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أَنْصَارِيٍّ فِي حَائِطٍ لَهُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ- أَيْ: قِرْبَةٍ خَلِقَةٍ- وَإِلَّا كَرَعْنَا فَانْطَلَقَ لِلْعَرِيشِ فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ مَاءً، ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ فَشَرِبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَاصِلُ عُنْوَانِ الْبَابِ أَنَّ الْحُلْوَ الْبَارِدَ أَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ، وَهُوَ بِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْمَاءَ الْقَرَاحَ، وَالْمَخْلُوطَ بِالْحَلَاءِ وَاللَّبَنَ الْخَالِصِ، وَالْمَخْلُوطَ بِالْبَارِدِ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا سَيَأْتِي أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي اللَّبَنِ: زِدْنَا مِنْهُ، وَفِي غَيْرِهِ أَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ غَيْرِهِ هُوَ الطَّعَامُ لَا الشَّرَابُ، فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ.
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا وَفِي أُخْرَى أَخْبَرَنَا (عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ) أَيِ ابْنُ جُدْعَانَ (عَنْ عُمَرَ هُوَ) أَيْ عُمَرُ الْمَذْكُورُ هُوَ (ابْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا) ضَمِيرُ تَأْكِيدٍ تَصْحِيحًا لِلْعَطْفِ بِقَوْلِهِ: (وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى مَيْمُونَةَ) أَيْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (فَجَاءَتْنَا بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ مِنْ بَعْضِ مَا فِيهِ (وَأَنَا عَلَى يَمِينِهِ) أَيْ مُسْتَعْلٍ مُسْتَوْلٍ عَلَيْهَا لِسَبْقِي بِهَا (وَخَالِدٌ عَنْ شِمَالِهِ) أَيْ مُتَأَخِّرٌ مُتَجَاوِزٌ عَنْهَا لِتَأَخُّرِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِمَّا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ مُخَالَفَتَهُ بِعَلَى فِي حَقِّهِ، وَبِعْنَ فِي خَالِدٍ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَالِدٍ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ لِصِغَرِهِ وَقَرَابَتِهِ، فَقُدِّمَ جَبْرًا لِخَاطِرِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ التَّخَالُفَ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ فِي الْعِبَارَةِ، فَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ مُجَرَّدُ الْحُضُورِ مَعَهُ انْتَهَى. وَلِلطِّيبِيِّ كَلَامٌ مَبْسُوطٌ بَيَّنَاهُ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ، (فَقَالَ لِيَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَيُسَكَّنُ (الشَّرْبَةُ لَكَ) أَيْ لِأَنَّكَ صَاحِبُ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَرَدَ: الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ.
رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السِّتَّةِ عَنْ أَنَسٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْهُ تَقْدِيمُ الْأَيْمَنِ نَدْبًا وَلَوْ صَغِيرًا مَفْضُولًا؛ وَلِذَا قَالَ: (فَإِنْ شِئْتَ آثَرْتَ بِهَا خَالِدًا) أَيْ مُرَاعَاةً لِلْأَكْبَرِ أَوِ الْأَفْضَلِ.
وَفِي نِسْبَةِ الْمَشِيئَةِ إِلَيْهِ تَطْيِيبٌ لِخَاطِرِهِ، وَتَنْبِيهُ نَبِيِّهِ عَلَى أَنَّ الْإِيثَارَ أَوْلَى لَهُ.
وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ يُشْكَلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ أَئِمَّتِنَا يُكْرَهُ الْإِيثَارُ بِالْقُرَبِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ، حَيْثُ آثَرَ مَنْ لَيْسَ أَوْلَى مِنْهُ بِذَلِكَ، وَإِلَّا كَمَا هُنَا، وَكَتَقْدِيمِ غَيْرِ الْأَفْقَهِ مَثَلًا عَلَى الْأَفْقَهِ فِي الْإِمَامَةِ، فَلَا كَرَاهَةَ انْتَهَى.
وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ أَنَّهُ إِذَا قَدَّمَ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْإِمَامَةِ وَغَيْرِهَا، لَا يُسَمَّى إِيثَارًا، وَإِنَّمَا الْإِيثَارُ إِذَا كَانَ مُتَسَاوِيًا مَعَ غَيْرِهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، أَوْ هُوَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ فِي الِاتِّفَاقِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا الْمَبْحَثَ مَعَ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْأَعْرَابِيِّ فِي شَرْحِ الْمِشْكَاةِ (فَقُلْتُ: مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ) بِكَسْرِ اللَّامِ وَنَصْبِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّ اللَّامَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} أَيْ لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنِّي أَنْ أَخْتَارَ (عَلَى سُؤْرِكَ) بِضَمٍّ فَسُكُونِ هَمْزٍ، وَيُبْدَلُ أَيْ مَا بَقِيَ مِنْكَ (أَحَدًا) أَيْ غَيْرِي يَفُوزُ بِهِ، وَرُوِيَ مَا كُنْتُ لِأُوثِرَ بِفَضْلٍ مِنْكَ أَحَدًا، وَفِي النِّهَايَةِ وَمِنْهُ حَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ لَا أُوثِرُ بِسُؤْرِكَ أَحَدًا، أَيْ لَا أَتْرُكُهُ لِأَحَدٍ غَيْرِي، انْتَهَى.
وَلَعَلَّ الْقَضِيَّةَ مُتَعَدِّدَةٌ أَوِ الْمُرَادَ مِنْ إِطْلَاقِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الْفَضْلُ لِدَلِيلٍ آخَرَ، وَإِلَّا فَابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا أُطْلِقَ فَالْمُرَادُ بِهِ الْفَرْدُ الْأَكْمَلُ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى قَوَاعِدِ الْمُحَدِّثِينَ، كَمَا إِذَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللَّهِ فَالْمُرَادُ بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَإِذَا أُطْلِقَ الْحَسَنُ فَهُوَ الْبَصْرِيُّ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: أَيْ سُؤْرِ أَحَدٍ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَهُوَ تَقْدِيرٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مَنَعَ الْإِيثَارَ؛ لِأَنَّهُ يُحْرَمُ عَنْ سُؤْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقَعُ لَهُ سُؤْرُ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ خَالِدًا مَا كَانَ يَشْرَبُ سُؤْرَهُ كُلَّهُ، مَعَ إِفَادَةِ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ فَرَاغُ اللَّبَنِ بِشُرْبِ خَالِدٍ، لَكَانَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْإِيثَارِ أَوْلَى لِلْحِرْمَانِ الْكُلِّيِّ، لَكِنْ غَفَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَنَّ سُؤْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ بَقَاءِ سُؤْرِ خَالِدٍ أَفْضَلُ، فَكَانَ الْإِيثَارُ مُوجِبًا لِلْأَكْمَلِ، فَإِنَّ سُؤْرَ الْمُؤْمِنِ شِفَاءٌ؛ وَلِذَا لَمَّا أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْرَبَ مَاءَ زَمْزَمَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلْفَضْلِ: هَاتِ الشَّرْبَةَ مِنَ الْبَيْتِ، فَإِنَّ مَاءَ السِّقَايَةِ اسْتَعْمَلَتْهُ الْأَيَادِي، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا أُرِيدُ بَرَكَةَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَا هَذَا مَعْنَاهُ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ إِلَى الْمَطَاهِرِ أَيِ السِّقَايَاتِ، فَيُؤْتَى بِالْمَاءِ فَيَشْرَبُهُ، وَيَرْجُو بَرَكَةَ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ أَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ الرَّدَّ عَلَى قَائِلِ الْمُضَافِ، وَنَسَبَ قَوْلَهْ إِلَى الرَّكَاكَةِ وَغَيْرِهِمَا، مِمَّا يَتَعَجَّبُ مِنْهُ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ، (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ) أَيْ نَدْبًا بَعْدَ أَكْلِهِ وَالْحَمْدِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، فَلْيَقُلْ حَالَ الْأَكْلِ، فَإِنَّ آخِرَهُ إِلَى مَا بَعْدَهُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحَمْدِ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ حَالَ الْأَكْلِ لَا يُقَالُ أَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ، أَوْ زِدْنَا مِنْهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا) أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ جَمَاعَةَ الْآكِلِينَ (فِيهِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ رِعَايَةً لِلَّفْظِ الْوَارِدِ وَمُلَاحَظَةً لِعُمُومِ الْإِخْوَانِ، فَإِنَّهُ وَرَدَ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، (وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ) أَيْ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْنَاهُ (وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ لَبَنًا) أَيْ خَالِصًا أَوْ مَمْزُوجًا بِمَاءٍ وَغَيْرِهِ، (فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ) أَيْ مِنْ جِنْسِ اللَّبَنِ الَّذِي شَرِبْنَا مِنْهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي اللَّبَنِ بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إِلَى دَلِيلِهِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ) أَيِ ابْنُ عَبَّاسٍ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ) بِهَمْزَةٍ فِي آخِرِهِ مِنَ الْإِجْزَاءِ أَيْ لَا يُغْنِي وَلَا يَكْفِي، وَلَا يَقُومُ شَيْءٌ (مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ) أَيْ مَقَامَهُمَا (غَيْرَ اللَّبَنِ) مَنْصُوبٌ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى الْبَدَلِ، وَأَغْرَبَ مَنْ تَرَدَّدَ مِنَ الشُّرَّاحِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَلْحَقُ مَا عَدَا اللَّبَنَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ بِهِ أَوْ بِالطَّعَامِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ أَدْنَى تَأَمُّلٍ فِي الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى، (قَالَ أَبُو عِيسَى) أَيِ الْمُؤَلِّفُ بَعْدَ رِوَايَةِ الْحَدِيثَيْنِ فِي بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَمِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: (هَكَذَا) أَيْ مِثْلُ مَا سَبَقَ فِي إِيرَادِ الْإِسْنَادِ (رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ هَذَا الْحَدِيثَ) يَعْنِي الْأَوَّلَ (عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ) أَيْ مُتَّصِلًا كَمَا ذَكَرْنَا يَعْنِي وَلَهُ إِسْنَادٌ آخَرُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: (وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ وَكَثِيرٌ مِنَ الرُّوَاةِ (عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا) أَيْ بِحَذْفِ الصَّحَابِيِّ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ إِسْقَاطِ عُرْوَةَ، فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ مِنَ التَّابِعِينَ، سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَأَبَا الطُّفَيْلِ وَغَيْرَهُ، وَرَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ؛ وَلِذَا قَالَ: (وَلَمْ يَذْكُرُوا) أَيِ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالْأَكْثَرُونَ (فِيهِ) أَيْ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ (عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ، وَهَكَذَا رَوَى يُونُسُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا) أَيْ فَيَكُونُ ابْنُ عُيَيْنَةَ مُنْفَرِدًا مِنْ بَيْنِ أَقْرَانِهِ فِي إِسْنَادِهِ مَوْصُولًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (قَالَ أَبُو عِيسَى وَإِنَّمَا أَسْنَدَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ) أَيْ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ فَيَكُونُ حَدِيثُهُ غَرِيبًا إِسْنَادًا، وَالْغَرَابَةُ لَا تُنَافِي الصِّحَّةَ، وَالْحُسْنَ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ فَحَاصِلُهُ أَنَّ سَنَدَ الْإِرْسَالِ أَصَحُّ مِنْ سَنَدِ الِاتِّصَالِ، كَمَا صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِهِ فِي جَامِعِهِ، وَقَالَ: وَالصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا، انْتَهَى.
وَهُوَ لَا يَضُرُّ، فَإِنَّ مَذْهَبَنَا وَمَذْهَبَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إِذَا اعْتَضَدَ بِمُتَّصِلٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ رُوِيَ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ ذَلِكَ لِشُهْرَتِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْإِسْنَادِ، وَإِنْ كَثُرَتْ رُوَاةُ الْإِرْسَالِ؛ لِأَنَّ مَعَ الْمُسْنَدِ زِيَادَةَ عِلْمٍ، قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، انْتَهَى. (وَمَيْمُونَةُ) أَيِ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي (بِنْتُ الْحَارِثِ) أَيِ الْهِلَالِيَّةُ الْعَامِرِيَّةُ (زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يُقَالُ: إِنَّ اسْمَهَا كَانَ بَرَّةَ، فَسَمَّاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ، كَانَتْ تَحْتَ مُعَوَّذِ بْنِ عَمْرٍو الثَّقَفِيِّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَفَارَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا أَبُو دِرْهَمٍ وَتُوُفِّيَ عَنْهَا، فَتَزَوَّجَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ سَنَةَ سَبْعٍ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، بِسَرَفَ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ، وَقَدَّرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا مَاتَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا وَبَنَى بِهَا فِيهِ، سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّينَ، وَصَلَّى عَلَيْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَدُفِنَتْ فِيهِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ التَّنْعِيمِ وَالْوَادِي فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، وَبُنِيَ عَلَى قَبْرِهَا مَسْجِدٌ يُزَارُ وَيُتَبَرَّكُ بِهِ، وَهِيَ أُخْتُ أُمِّ الْفَضْلِ امْرَأَةِ الْعَبَّاسِ، وَأُخْتُ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، وَهِيَ آخِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَى عَنْهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقَوْلُهُ: (هِيَ خَالَةُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَخَالَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَخَالَةُ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ) بَيَانُ وَجْهِ دُخُولِهِمَا عَلَى مَيْمُونَةَ، وَزَيْدٌ يَزِيدُ اسْتِطْرَادًا (وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ) أَيِ الْحَدِيثِ الثَّانِي (عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ، (فَرَوَى بَعْضُهُمْ) أَيْ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ) كَمَا سَبَقَ فِي الْإِسْنَادِ (وَرَوَى شُعْبَةُ) أَيْ مِنْ بَيْنِ الْمُحَدِّثِينَ (عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ) أَيْ فَقَالَ شُعْبَةُ فِي إِسْنَادِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ: (عَنْ عَلِيٍّ عَنْ عَمْرِو بْنِ حَرْمَلَةَ، وَالصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ) أَيِ الصِّحَّةُ فِي مَوْضِعَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ الْأَوَّلُ عُمَرُ بِلَا وَاوٍ، الثَّانِي أَبِي حَرْمَلَةَ عَلَى الْكُنْيَةِ لَا بِالِاكْتِفَاءِ عَلَى الْعَلَمِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَعَادَ هَذَا الْبَيَانَ مَعَ اسْتِفَادَتِهِ مِنْ إِيرَادِ إِسْنَادِهِ، لِبَيَانِ الْمُرَادِ بِالتَّصْرِيحِ، وَلِمَقَامِ الِاخْتِلَافِ بِالتَّصْحِيحِ.

.باب مَا جَاءَ فِي شُرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ شُرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الشُّرْبُ بِتَثْلِيثِ أَوَّلِهِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى التَّشَرُّبِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي التَّاجِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَقَدْ قُرِئَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ لَكِنَّ الْكَسْرَ شَاذٌّ، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّصْبِ أَشْهَرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} فَالْكَسْرُ بِمَعْنَى الْمَشْرُوبِ، وَكَذَا الْفَتْحُ وَالضَّمُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا، وَأَمَّا نَقْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْحَنَفِيِّ أَنَّ الشَّرْبَ بِالْفَتْحِ جَمْعُ شَارِبٍ، كَصَحْبٍ جَمْعِ صَاحِبٍ، عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ وُرُودِهِ، فَلَا مُنَاسَبَةَ لَهُ بِالْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ) بِضَمِّ هَاءٍ وَفَتْحِ شِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ مُصَغَّرُ هِشَامٍ، (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (عَاصِمٌ الْأَحْوَلٌ وَمُغِيرَةُ) بِضَمٍّ فَكَسْرٍ، هُوَ ابْنُ مِقْسَمٍ الضَّبِّيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ الْفَقِيهُ الضَّرِيرُ أَبُو هِشَامٍ ثِقَةٌ مُتْقِنٌ إِلَّا أَنَّهُ يُدَلِّسُ، وَلَاسِيَّمَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ ذَكَرَهَ مِيرَكُ (عَنِ الشَّعْبِيِّ) بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ تَابِعِيٌّ مَشْهُورٌ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِبَ) قِيلَ: فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (مِنْ زَمْزَمَ) وَهِيَ بِئْرٌ مَعْرُوفَةٌ بِمَكَّةَ، سُمِّيَتْ بِهَا لِكَثْرَةِ مَائِهَا، وَيُقَالُ مَاءُ زَمْزَمَ وَزَمْزَمٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ عَلَمٍ لَهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ (وَهُوَ قَائِمٌ) وَفِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ، قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ، قَالَ عَاصِمٌ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعِكْرِمَةَ، فَحَلَفَ أَنَّهُ مَا كَانَ حِينَئِذٍ إِلَّا رَاكِبًا، وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى بَعِيرِهِ، ثُمَّ أَنَاخَهُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الطَّوَافِ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، فَلَعَلَّ شُرْبَهُ مِنْ زَمْزَمَ حِينَئِذٍ قَبْلَ أَنْ يَعُودَ إِلَى بَعِيرِهِ، وَيَخْرُجَ إِلَى الصَّفَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ عُمْدَةَ عِكْرِمَةَ فِي كَوْنِهِ شَرِبَ قَائِمًا، إِنَّمَا هُوَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَسَعَى كَذَلِكَ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَخَلُّلِ رَكْعَتِيِ الطَّوَافِ بَيْنَ ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّاهُمَا عَلَى الْأَرْضِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِهِ شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ، وَهُوَ قَائِمٌ كَمَا حَفِظَهُ الشَّعْبِيُّ كَذَا حَقَّقَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَهُوَ جَمْعٌ جَيِّدٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَمَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي سِيَاقِ حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَنَّهُ اسْتَسْقَى بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ عِنْدَ إِتْمَامِ الْمَنَاسِكِ، لَا يَنْفِي هَذَا التَّأْوِيلَ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى حَمْلِ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ: وَهُوَ قَائِمٌ، عَلَى أَنَّهُ رَاكِبٌ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ سَيَّرَهُ بِالْقَائِمِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ سَائِرًا، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ، أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ إِدِّعَاءُ كَوْنِ الشُّرْبِ مِنْ زَمْزَمَ وَقَعَ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ الْعَاصِمُ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا، بَلْ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدُكُمْ قَائِمًا، فَمَنْ نَسِيَ فَلْيَسْتَقِئْ»، وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّهْيَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَشُرْبُهُ قَائِمًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي الشُّرْبِ قَائِمَا عَلِيٌّ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِ السُّنَّةِ: وَأَمَّا النَّهْيُ فَنَهْيُ أَدَبٍ وَإِرْفَاقٍ؛ لِيَكُونَ تَنَاوُلُهُ عَلَى سُكُونٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، فَيَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ الْفَسَادِ، وَقَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينَ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ غَالِبًا قَاعِدًا، وَقَدْ شَرِبَ مَرَّةً قَائِمًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّهْيُ نَاسِخٌ لَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلنَّهْيِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الشُّرْبُ قَائِمًا كَانَ لِعُذْرٍ؛ وَلِذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْرَبَ قَائِمًا، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ النَّسْخَ أَوِ الضَّعْفَ فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا، وَكَيْفَ يُصَارُ إِلَى النَّسْخِ مَعَ إِمْكَانِ الْجَمْعِ لَوْ ثَبَتَ التَّارِيخُ، وَأَنَّى لَهُ بِذَلِكَ أَوْ إِلَى الْقَوْلِ بِالضَّعْفِ مَعَ صِحَّةِ الْكُلِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلْيَسْتَقِئْ، فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ إِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ حُمِلَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَامُ مُخْتَصًّا بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَبِفَضْلِ مَاءِ الْوُضُوءِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، أَنَّهُ شَرِبَ قَائِمًا، وَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَصْلِ أَيْضًا وَنُكْتَةُ التَّخْصِيصِ فِي مَاءِ زَمْزَمَ، هِيَ الْإِشَارَةُ إِلَى اسْتِحْبَابِ التَّضَلُّعِ مِنْ مَائِهِ، وَفِي فَضْلِ الْوُضُوءِ هِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى وُصُولِ بَرَكَتِهِ إِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ يُسَنُّ الشُّرْبُ مِنْ زَمْزَمَ قَائِمًا اتِّبَاعًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ الْمُتَقَدِّمُ حَيْثُ تَبِعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِيَامِ الْمَخْصُوصِ، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى عُمُومِ نَهْيِهِ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا، وَنَازَعَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ) بِكَسْرِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ (عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ) أَيِ ابْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (عَنْ أَبِيهِ) قَالَ مِيرَكُ: ضَمِيرُ أَبِيهِ رَاجِعٌ إِلَى عَمْرٍو، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (عَنْ جَدِّهِ) رَاجِعٌ إِلَى أَبِيهِ شُعَيْبٍ، وَهُوَ يَرْوِي عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الصَّحَابِيِّ الْمَشْهُورِ، وَمُحَمَّدٌ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَلَمْ يَرْوِ شُعَيْبٌ عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّدٍ، كَمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ النُّقَّادِ كَثِيرًا مَا وَقَعَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا، بِلَفْظِ: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَحَدِيثُهُ مُتَّصِلٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَرَادَ جَدَّهُ بِوَاسِطَةٍ أَوْ جَدَّ أَبِيهِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ الْأَفْضَلُ مِنْ أَبِيهِ، وَالْأَكْثَرُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ تَلَقِّيًا وَأَخْذًا لِلْعِلْمِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِينَئِذٍ فَحَدِيثُهُ مَوْصُولٌ وَرِوَايَتُهُ مُحْتَجٌّ بِهَا، وَلِهَذَا احْتَجَّ بِهَذَا السَّنَدِ أَكْثَرُ الْحُفَّاظِ لَاسِيَّمَا الْبُخَارِيِّ، خَرَّجَ لَهُ فِي الْقَدَرِ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمُ احْتَجُّوا بِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِقَرَائِنَ أَثْبَتَتْ عِنْدَهُمْ سَمَاعَهُ مِنْ جَدِّ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَأَنَّهُ خَالَفَ الْآخَرُونَ نَظَرًا لِاحْتِمَالِهِ الِانْقِطَاعَ، وَيَرُدُّهُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهَذَا الِاحْتِمَالِ مَعَ كَوْنِ الْأَكْثَرِينَ عَلَى خِلَافِهِ، وَزَعْمُ أَنَّهُ أَخَذَ هَذَا الْإِسْنَادَ مِنْ صَحِيفَةٍ لَا اعْتِدَادَ بِهَا لَمْ يَثْبُتْ هُوَ وَلَا مَا يُشِيرُ إِلَيْهِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ إِذَا عَرَضَ الْمُتَأَخِّرُونَ كَالْمُتَقَدِّمِينَ عَنْ ذَلِكَ وَاحْتَجُّوا بِهِ، (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ أَبْصَرْتُهُ (يَشْرَبُ قَائِمًا) أَيْ نَادِرًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَحَمْلُ النَّهْيِ عَنْهُ عَلَى التَّنْزِيهِ، أَوْ لِضَرُورَةٍ أَوْ لِخُصُوصِيَّةٍ، (وَقَاعِدًا) أَيْ مِرَارًا كَثِيرَةً لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ وَالْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَعَادَتِهِ الْأَجْمَلِ، وَهُمَا حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: أَيْ حَالَ كَوْنِهِ شَارِبًا فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ حَالَةَ الْقِيَامِ، وَحَالَةَ الْقُعُودِ، انْتَهَى. وَفِيهِ- لَا يَخْفَى، وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَزَّهٌ عَنْ فِعْلِ الْمَكْرُوهِ، فَكَيْفَ شَرِبَ قَائِمًا فَمَرْدُودٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا.
(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ جِيمٍ، (حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ) أَيِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَفْظُ قَالَ مَوْجُودٌ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ (سَقَيْتُ النَّبِيَّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَمَ، فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فَالْمُرَادُ بِتَعَدُّدِ الْإِسْنَادِ قُوَّةُ الِاعْتِمَادِ، وَفِي سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعَدُّدِ شُرْبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ إِحْدَاهُمَا، كَانَ عَلَى يَدِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ (مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ (وَمُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ (الْكُوفِيُّ قَالَا) أَيِ الْمُحَمَّدَانِ (أَنْبَأَنَا ابْنُ الْفُضَيْلِ) بِالتَّصْغِيرِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّكْبِيرِ (عَنِ الِأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ) بِفَتْحِ مِيمٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ تَحْتِيَّةٍ فَفَتَحَاتٍ، (عَنِ النَّزَّالِ) بِفَتْحِ نُونٍ وَتَشْدِيدِ زَايٍ، (بْنِ سَبْرَةَ) بِفَتْحِ سِينٍ مُهْمَلَةٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ، فَرَاءٍ فَتَاءِ تَأْنِيثٍ، (قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ) أَيْ جِيءَ (بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ وَهُوَ فِي الرَّحَبَةِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَيُسَكَّنُ، وَفِي الصِّحَاحِ الرَّحَبَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكَانُ الْمُتَّسِعُ، وَالرَّحْبَةُ بِالسُّكُونِ أَيْضًا الْمَكَانُ الْمُتَّسِعُ وَمِنْهُ أَرْضٌ رَحْبَةٌ بِالسُّكُونِ أَيْ مُتَّسِعَةٌ، وَرَحَبَةُ الْمَسْجِدِ بِالتَّحْرِيكِ هِيَ سَاحَتُهُ، قَالَ ابْنُ التِّينِ: فَعَلَى هَذَا يُقْرَأُ فِي الْحَدِيثِ بِالتَّحْرِيكِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: أَمَّا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ، فَإِنَّهُ مَكَانٌ وَسَطَ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْعُدُ فِيهِ وَيَعِظُ (فَأَخَذَ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الْمَاءِ أَوِ الْكُوزِ (كَفًّا) أَيْ قَدْرَ كَفٍّ مِنَ الْمَاءِ (فَغَسَلَ يَدَيْهِ) أَيْ إِلَى رُسْغَيْهِ (وَمَضْمَضَ) عَطْفٌ عَلَى أَخَذَ لَا عَلَى غَسَلَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَاسْتَنْشَقَ) إِلَخْ وَقَالَ الْعِصَامُ: الظَّاهِرُ عَطْفُ مَضْمَضَ عَلَى غَسَلَ، فَيَكُونُ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ وَمَسْحُ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَالرَّأْسِ مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ، وَلَا صَارِفَ عَنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَحَرَّرَ عَنْ لُزُومِ ذَلِكَ فَجَعَلَهُ عَطْفًا عَلَى أَخَذَ، انْتَهَى.
وَقُلْتُ: لَا صَارِفَ أَقْوَى مِنَ اسْتِبْعَادِ غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَمَسْحِ بَعْضِهَا مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ، مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ الشَّرْعِيِّ وَالْعَقْلِ الْعُرْفِيِّ، (وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ) أَيْ غَسَلَهَا غَسْلًا خَفِيفًا، فَالْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ فِي كَلَامِهِ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ، وَيُؤَيِّدُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ غَسَلَهَا، أَوْ لَمْ يَغْسِلْهَا، فَالْمُرَادُ بِهِ الْوُضُوءُ الْعُرْفِيُّ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّنْظِيفِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَرْكُ ذِكْرِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْأَصْلِ، فَيُحْمَلُ خِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ فِي الرَّحَبَةِ أَوْ تَرْجِيحِ إِحْدَاهُمَا (وَرَأْسَهُ) أَيْ وَمَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ وَرِجْلَيْهِ، أَيْ وَمَسَحَهُمَا أَيْ غَسَلَهُمَا غَسْلًا خَفِيفًا، وَفِي رِوَايَةٍ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (ثُمَّ شَرِبَ) أَيْ مِنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ أَيْ مِنْ فَضْلِ مَاءِ وَضُوئِهِ، (وَهُوَ قَائِمٌ) حَالٌ (ثُمَّ قَالَ هَذَا) أَيْ مَا ذُكِرَ، الْإِشَارَةُ لِمَا عَدَا الشُّرْبِ، (وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ) أَيْ مَنْ لَمْ يُرِدْ طُهْرَ الْحَدَثِ، بَلْ أَرَادَ التَّجْدِيدَ أَوِ التَّنْظِيفَ، وَإِلَّا فَوُضُوءُ الْمُحْدِثِ مَعْلُومٌ بِشَرَائِطَ مَعْرُوفَةٍ، (هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ) وَمِنْ بَعْضِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ الشُّرْبُ قَائِمًا، وَهَذَا هُوَ سَبَبُ إِيرَادِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ.
قَالَ مِيرَكُ: الظَّاهِرُ أَنَّ صَنِيعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، لَا لِبَيَانِ الِاسْتِحْبَابِ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ فَضْلِ الْوُضُوءِ وَالشُّرْبَ قَائِمًا جَائِزَانِ.
قُلْتُ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الشُّرْبِ مِنْ فَضْلِ الْوُضُوءِ؛ لِيَكُونَ فِعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِهِ، نَعَمْ شُرْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِحْبَابِ بِخُصُوصِ هَذَا الْمَاءِ الْمُتَبَرَّكِ عُقَيْبَ هَذَا الْفِعْلِ الْمُعَظَّمِ، وَهُوَ مُخْتَارُ مَشَايِخِنَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَمَلُ عَلِيٍّ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، كَانَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ.
ثُمَّ الْحَدِيثُ بِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَذْكُورٌ فِي الْمِشْكَاةِ، بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ شَرْحًا بَيِّنًا.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَيُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عِصَامٍ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهُوَ الْبَصْرِيُّ قِيلَ: اسْمُهُ ثُمَامَةُ، وَقِيلَ: خَالِدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْعَتَكِيُّ، رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، كَذَا حَقَّقَهُ الْجَزَرِيُّ وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا إِذَا شَرِبَ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُبِينُ الْإِنَاءَ عَنْ فِيهِ، فَيَتَنَفَّسُ ثُمَّ يَعُودُ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ التَّنَفُّسُ فِي الْإِنَاءِ، بِلَا إِبَانَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ أَنَسٍ (وَيَقُولُ) أَيِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (هُوَ) أَيِ الشُّرْبُ بِالتَّنَفُّسِ ثَلَاثًا (أَمْرَأُ) أَيْ أَسْوَغُ وَأَهْضَمُ (وَأَرْوَى) أَيْ أَكْثَرُ رِيًّا؛ لِأَنَّهُ أَقْمَعُ لِلْعَطَشِ، وَأَقَلُّ أَثَرًا فِي بَرْدِ الْمَعِدَةِ، وَضَعْفِ الْأَعْصَابِ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِ وَغَيْرُهُ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ أَمْرَأُ وَأَرْوَى وَأَبْرَأُ، أَيْ أَكْثَرُ بُرْأً وَصِحَّةً.
وَقَدْ وَرَدَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْرَبُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْفَاسٍ، وَإِذَا أَدْنَى الْإِنَاءَ إِلَى فِيهِ سَمَّى اللَّهَ، وَإِذَا أَخَّرَهُ حَمِدَ اللَّهَ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا.
هَذَا وَقَدْ قِيلَ: الْحِكْمَةُ فِي النَّهْيِ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الْإِنَاءِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْفَوَائِدِ الْمَذْكُورَةِ، فِي التَّنَفُّسِ خَارِجَ الْمَاءِ، أَنَّ التَّنَفُّسَ فِيهِ يُغَيِّرُ الْمَاءَ، إِمَّا لِتَغَيُّرِ الْفَمِ بِمَأْكُولٍ أَوْ تَرْكِ سِوَاكٍ، أَوْ لِأَنَّ التَّنَفُّسَ يَصْعَدُ بِبُخَارٍ فِي الْمَعِدَةِ.
قُلْتُ: وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْعَبِّ نَفَسًا وَاحِدًا، وَقَالَ: ذَلِكَ شُرْبُ الشَّيْطَانِ.
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ مُرْسَلًا: «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصَّ مَصًّا، وَلَا يَعُبُّ عَبًّا، فَإِنَّ الْكُبَادَ مِنَ الْعَبِّ».
وَفِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا: «إِذَا شَرِبْتُمُ الْمَاءَ فَاشْرَبُوهُ مَصًّا، وَلَا تَشْرَبُوهُ عَبًّا، فَإِنَّ الْعَبَّ يُورِثُ الْكُبَادَ».
وَمِنْ آفَاتِ الشُّرْبِ دُفْعَةً وَاحِدَةً أَنَّهُ يُخْشَى مِنَ الشَّرَقِ؛ لِانْسِدَادِ مَجْرَى الشَّرَابِ; لِكَثْرَةِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ، فَإِذَا شَرِبَ عَلَى دُفْعَاتٍ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ الْبَيْهَقِيِّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ وَالْبَيْهَقِيِّ، عَنْ سَعْدٍ مَرْفُوعًا التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ خَيْرٌ إِلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ.
(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) بِفَتْحِ خَاءٍ وَسُكُونِ شِينٍ مُعْجَمَتَيْنِ يُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ (أَنْبَأَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ رِشْدِينَ) فِي التَّقْرِيبِ هُوَ بِكَسْرٍ فَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ فَدَالٍ مَكْسُورَةٍ، فَتَحْتِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَنُونٍ قَالَ مِيرَكُ: هُوَ ضَعِيفٌ (ابْنِ كُرَيْبٍ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أَبِيهِ) أَيْ كُرَيْبٍ وَهُوَ ثِقَةٌ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا شَرِبَ تَنَفَّسَ مَرَّتَيْنِ) أَيْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَبِهِ يُجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي جَامِعِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَشْرَبُوا وَاحِدًا كَشُرْبِ الْبَعِيرِ، وَلَكِنِ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثُلَاثَ، وَسَمُّوا إِذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ وَاحْمَدُوا إِذَا أَنْتُمْ رَفَعْتُمْ».
قَالَ مِيرَكُ: وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ رَوَى بِنَفَسَيْنِ اكْتَفَى بِمَا، وَإِلَّا فَثَلَاثٌ وَهَذَا لَيْسَ نَصًّا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَرَّتَيْنِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ التَّنَفُّسُ فِي الْأَثْنَاءِ، وَسَكَتَ عَنِ التَّنَفُّسِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاقِعِ فِي الْخَتْمِ.
(حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ يَزِيدَ) اتَّفَقَ اسْمُ الْوَلَدِ وَالْأَبِ وَهَذَا كَثِيرٌ كَمَا وَقَعَ لِمُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغَزَالِيِّ، وَكَذَا الْجَزَرِيُّ (بْنِ جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ) قِيلَ: اسْمُهُ أَسِيدٌ، وَقِيلَ: أُسَامَةُ (عَنْ جَدَّتِهِ كَبْشَةَ) بِفَتْحِ كَافٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ فَشِينٍ مُعْجَمَةٍ، قَالَ مِيرَكُ: كَبْشَةُ بِنْتُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيَّةُ، أُخْتُ حَسَّانَ لَهَا صُحْبَةٌ وَحَدِيثٌ، وَيُقَالُ فِيهَا: كُبَيْشَةُ بِالتَّصْغِيرِ،، وَكَبْشَةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّةُ زَوْجُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَهَا صُحْبَةٌ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّاوِيَةَ هُنَا هِيَ الْأُولَى، انْتَهَى. وَجَزَمَ شَارِحٌ وَقَالَ: كَبْشَةُ هِيَ كَبْشَةُ الْأَنْصَارِيَّةُ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَيُقَالُ: كُبَيْشَةُ وَتُعْرَفُ بِالْبَرْصَاءِ، وَهِيَ جَدَّةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، وَهُوَ الرَّاوِي عَنْهَا، وَلَهَا صُحْبَةٌ (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ) أَيْ فِي بَيْتِي (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرِبَ مِنْ فِي قِرْبَةٍ) أَيْ مِنْ فَمِ قِرْبَةٍ (مُعَلَّقَةٍ قَائِمًا) أَيْ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الشُّرْبِ مِنْهَا قَاعِدًا.
وَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فِيِّ السِّقَاءِ، عَلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ وَالشَّيْخَيْنِ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ اخْتِنَاثِ الْأَسْقِيَةِ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: وَاخْتِنَاثُهَا أَنْ يَقْلِبَ رَأْسَهَا ثُمَّ يَشْرَبُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ نَهْيٌ تَنْزِيهِيٌّ لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ وَالْأَكْمَلِ، وَفَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، أَوْ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ، (فَقُمْتُ إِلَى فِيهَا) أَيْ قَاصِدًا إِلَى فَمِ الْقِرْبَةِ (فَقَطَعْتُهُ) أَيْ لِأَجْلِ التَّبَرُّكِ، أَوْ لِعَدَمِ الِابْتِذَالِ، قَالَهُ مِيرَكُ: وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَدِيثِ نَاقِلًا عَنِ التِّرْمِذِيِّ، وَقَطْعُهَا فَمَ الْقِرْبَةِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَصُونَ مَوْضِعًا أَصَابَهُ فَمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْتَذَلَ وَيَمَسَّهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَالثَّانِي أَنْ تَحْفَظَهُ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ وَالِاسْتِشْفَاءِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ، انْتَهَى. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) بِفَتْحِ مِيمٍ وَسُكُونِ هَاءٍ وَكَسْرِ دَالٍ مُهْمَلَةٍ وَيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ هَدَى يَهْدِي كَرَمَى، وَكَثِيرٌ مِنَ الْعَامَّةِ يَغْلَطُونَ فِي لَفْظِهِ فَيَكْسِرُونَ الْمِيمَ، وَفِي مَعْنَاهُ بِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْهَادِي (حَدَّثَنَا عَزْرَةُ) بِمُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَزَايٍ سَاكِنَةٍ فَرَاءٍ بَعْدَهَا هَاءٌ (بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ ثُمَامَةَ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ (بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ) أَيْ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ (ثَلَاثًا) أَيْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنَ التَّنَفُّسِ (وَزَعَمَ أَنَسٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بِفَتْحِ أَنَّ لِأَنَّهُ مَفْعُولُ زَعَمَ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى قَالَ، وَلِبَعْضِ الشُّرَّاحِ هُنَا مَقَالٌ كَاسِدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمٍ فَاسِدٍ (كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا) عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ الْمُعْتَادِ فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَفَّسُ مَرَّتَيْنِ أَحْيَانًا.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) بِالْجِيمَيْنِ مُصَغَّرًا (عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ) أَيِ ابْنِ مَالِكٍ الْجَزَرِيِّ (عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ زَيْدٍ) بِالتَّنْوِينِ (ابْنِ) بِالْأَلِفِ وَهُوَ مَجْرُورٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ ابْنِ زَيْدٍ مُضَافًا إِلَى (ابْنَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ) أَيْ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ، كَمَا فِي نُسْخَةٍ (وَقِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَشَرِبَ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ، وَهُوَ قَائِمٌ) حَالٌ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ) بِالتَّصْغِيرِ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهَا، وَهِيَ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا قَامَتْ وَمَشَتْ مُنْتَهِيَةً (إِلَى رَأْسِ الْقِرْبَةِ) أَيْ فَمِهَا (فَقَطَعَتْهَا) أَيْ فَقَطَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ رَأْسَ الْقِرْبَةِ، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا قِطْعَةً فِي الْمَآلِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ فَقَطَعَتْهُ وَهِيَ الْقِيَاسُ.
قَالَ مِيرَكُ: وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ ابْنُ حِبَّانَ فِي كِتَابِ أَخْلَاقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَرَأَى قِرْبَةً مُعَلَّقَةً فِيهَا مَاءٌ، فَشَرِبَ مِنْهَا وَهُوَ قَائِمٌ، فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فَقَطَعَتْهَا بَعْدَ شُرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، وَقَالَتْ: لَا يَشْرَبُ مِنْهَا أَحَدٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالِاخْتِصَارُ مِنْ سِيَاقِ التِّرْمِذِيِّ، وَقَعَ مِنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ أَوْ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ) بِفَتْحٍ فَسُكُونِ مُهْمَلَةٍ (النَّيْسَابُورِيُّ) بِفَتْحِ نُونٍ وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَسِينٍ مُهْمَلَةٍ، كَانَ يُذَاكِرُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ، وَصَامَ نَيِّفًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَتَصَدَّقَ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، مَاتَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ (أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ) أَيِ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ (الْفَرْوِيُّ) بِفَتْحِ فَاءٍ وَسُكُونِ رَاءٍ، مَنْسُوبٌ إِلَى جَدِّهِ أَبِي فَرْوَةَ (حَدَّثَتْنَا) بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ (عُبَيْدَةُ) بِالتَّصْغِيرِ، (بِنْتُ نَائِلٍ) بِالْهَمْزَةِ كَقَائِلٍ وَبَائِعٍ.
وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَذْكُورُ ثَانِيًا كَمَا سَيَأْتِي، فَإِطْلَاقُهُ مُوهِمٌ مُخِلٌّ، (عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَشْرَبُ قَائِمًا) أَيْ أَحْيَانًا أَوْ بَعْدَ فَرَاغِ الْوُضُوءِ أَوْ مَاءِ زَمْزَمَ (وَقَالَ بَعْضُهُمْ) وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي أُخْرَى قَالَ أَبُو عِيسَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَيْ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ، أَوْ بَعْضُ أَصْحَابِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ، وَأَخْطَأَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ: وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ أَبُو عِيسَى بَدَلَ قَالَ بَعْضُهُمْ، وَوَجْهُ الْخَطَأِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لَا يَخْفَى (عَنْ عُبَيْدَةَ بِنْتِ نَابِلٍ) أَيْ بِكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَالْمَذْكُورُ أَوَّلًا هُوَ بِالْيَاءِ آخِرِ الْحُرُوفِ، انْتَهَى. وَفِيهِ مُسَامَحَةٌ لِأَنَّهُ بِالْهَمْزِ وَلَعَلَّهُ اعْتَبَرَ أَصْلَهُ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ النَّيْلِ أَوْ رَاعَى الْمَرْكَزَ، لَكِنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ ذَكَرَ فِي مَادَّةِ النَّوْلِ أَنَّ نَائِلَةَ بِنْتَ أَسْلَمَ صَحَابِيَّةٌ، وَأَبُو نَائِلَةَ صَحَابِيٌّ، وَفِي مَادَّةِ النَّبْلِ بِالْمُوَحَّدَةِ نَبِيلَةُ بِنْتُ قَيْسٍ صَحَابِيَّةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَعْنَى إِلَّا أَبَا نَائِلَةَ، قَالَ مِيرَكُ: عُبَيْدَةُ بِالتَّصْغِيرِ بِنْتُ نَابِلٍ أَوَّلُهُ نُونٌ وَبَعْدَ الْأَلِفِ بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ كَذَا صَحَّحَهُ الْأَمِيرُ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا، وَلَمْ يُصَحِّحِ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرٍ يَعْنِي الْعَسْقَلَانِيَّ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ عُبَيْدَةَ، وَلَا أَبَاهَا نَابِلَ قَالَ: عُبَيْدَةُ بِنْتُ نَابِلٍ مَقْبُولَةٌ مِنَ السَّابِعَةِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَكَذَا لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهَا فِي تَحْرِيرِ الْمُشْتَبَهِ هَذَا، وَفِي نُسْخَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُبَيْدَةُ أَيْ بِالتَّصْغِيرِ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الشَّيْخِ نُورِ الدِّينِ الْأَيْجِيِّ، وَلَيْسَ فِيهَا بِنْتُ نَابِلٍ، فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهَذَا خِلَافُ تَصْحِيحِ ابْنِ مَاكُولَا، حَيْثُ قَالَ: عُبَيْدَةُ بِالتَّصْغِيرِ، فَالظَّاهِرُ إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ النُّسْخَةُ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَنْسُبْ عُبَيْدَةَ إِلَى أَبِيهَا، لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، بَلْ قَالَ: حَدَّثَتْنَا عُبَيْدَةُ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَمَّ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الثَّانِي أَوَّلُهُ بَابُ مَا جَاءَ فِي تَعَطُّرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

.باب مَا جَاءَ فِي تَعَطُّرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

التَّعَطُّرُ: اسْتِعْمَالُ الْعِطْرِ كَمَا أَنَّ التَّطَيُّبَ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ، وَرَجُلٌ مُعَطَّرٌ كَثِيرُ التَّعَطُّرِ، وَالْعِطْرُ بِالْكَسْرِ الطِّيبُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ طَيِّبَ الرِّيحِ دَائِمًا، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّ طِيبًا، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ أَنَسٌ: مَا شَمَمْتُ رِيحًا قَطُّ وَلَا مِسْكًا وَلَا عَنْبَرًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ بِلَفْظِ مِسْكَةً، وَلَا عَنْبَرَةً، وَالْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْخُلُقِ بِلَفْظِ مِسْكًا، وَلَا عِطْرًا كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَثَ فِي يَدِهِ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَ عُقْبَةَ، وَبَطْنَهُ فَعَبِقَ بِهِ طِيبٌ حَتَّى كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ كُلُّهُنَّ تَجْتَهِدُ أَنْ تُسَاوِيَهُ فِيهِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ مَعَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَطَيَّبُ.
وَرَوَى هُوَ وَأَبُو يَعْلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَتَ أَيْ مَسَحَ بِأُصْبُعِهِ لِمَنِ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى تَجْهِيزِ بِنْتِهِ مِنْ عَرَقِهِ فِي قَارُورَةٍ، وَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَطَّيِّبْ بِهِ فَكَانَتْ إِذَا تَطَيَّبَتْ بِهِ شَمَّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَلِكَ الطِّيبَ فَسُمُّوا بَيْتَ الْمُطَيَّبِينَ.
وَرَوَى الدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمُرُّ بِطَرِيقٍ فَيَتْبَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا عَرَفَ أَنَّهُ سَلَكَهُ مِنْ طِيبِ عَرَقِهِ وَعَرْفِهِ، وَلَمْ يَكُنْ يَمُرُّ بِحَجَرٍ إِلَّا يَسْجُدُ لَهُ.
وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ مِنْ طَرِيقٍ وَجَدُوا مِنْهُ رَائِحَةَ الطِّيبِ، وَقَالُوا: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ نَامَ عِنْدَ أُمِّ أَنَسٍ فَعَرِقَ فَسَلَتَتْ عَرَقَهُ فِي قَارُورَتِهَا فَاسْتَيْقَظَ فَقَالَ: مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ لِطِيبِنَا، وَهُوَ أَطْيَبُ الطِّيبِ.
وَأَمَّا فَضَلَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَوْ صَحِيحٍ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَاكَ تَدْخُلُ الْخَلَاءَ ثُمَّ يَأْتِي الَّذِي بَعْدَكَ فَلَا يَرَى لِمَا يَخْرُجُ مِنْكَ أَثَرًا فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْأَرْضَ أَنْ تَبْتَلِعَ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فَقَوْلُ الْبَيْهَقِيِّ هَذَا مِنْ مَوْضُوعَاتِ الْحَسَنِ بْنِ عِلْوَانَ لَا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ فَفِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي مُعْجِزَاتِهِ كِنَايَةٌ عَنْ كَذِبِ الْحَسَنِ بْنِ عِلْوَانَ يُحْمَلُ عَلَى مَتْنِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِخُصُوصِهِ، وَهُوَ.
أَمَا عَلِمْتِ أَنَّ أَجْسَادَنَا نَبَتَتْ عَلَى أَرْوَاحِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَا خَرَجَ مِنْهَا ابْتَلَعَتْهُ الْأَرْضُ. أَوْ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ خَاصٌّ بِتِلْكَ الطَّرِيقِ دُونَ بَقِيَّةِ الطُّرُقِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى تِلْكَ الطُّرُقِ وَهَذَا الْأَظْهَرُ.
ثُمَّ مَا ذَكَرَ إِنَّمَا هُوَ الْغَائِطُ وَأَمَّا الْبَوْلُ فَقَدْ شَاهَدَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَشَرِبَتْهُ بَرَكَةُ أُمُّ أَيْمَنَ مَوْلَاتُهُ وَبَرَكَةُ أُمُّ يُوسُفَ خَادِمَةُ أُمِّ حَبِيبَةَ صَحِبَتْهَا مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ لَهُ قَدَحٌ مِنْ عِيدَانٍ تَحْتَ سَرِيرِهِ يَبُولُ فِيهِ فَشَرِبَتْهُ بَرَكَةُ الثَّانِيَةُ فَقَالَ لَهَا: صَحَحْتِ يَا أُمَّ يُوسُفَ فَلَمْ تَمْرَضْ سِوَى مَرَضِ مَوْتِهَا.
وَصَحَّ عَنْ بَرَكَةَ الْأُولَى قَالَتْ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لَيْلَةٍ إِلَى فَخَّارَةٍ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ فَبَالَ فِيهَا فَقُمْتُ مِنَ اللَّيْلِ، وَأَنَا عَطْشَانَةٌ فَشَرِبْتُ مَا فِيهَا، وَأَنَا لَا أَشْعُرُ فَلَمَّا أَصْبَحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أُمَّ أَيْمَنَ قُوْمِي فَأَهْرِيقِي مَا فِي تِلْكَ الْفَخَّارَةِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ شَرِبْتُ مَا فِيهَا فَضَحِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَا يَنْجَعَنَّ بَطْنُكِ أَبَدًا.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ عَلَى طَهَارَةِ فَضَلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ وِفَاقًا لِجَمْعٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَدْ تَكَاثَرَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ وَعَدَّهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَقِيلَ سَبَبُهُ شَقُّ جَوْفِهِ الشَّرِيفِ وَغَسْلُ بَاطِنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) أَيِ الْقُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ سَمِعَ ابْنَ عُيَيْنَةَ وَمَعْنَ بْنَ عِيسَى وَالنَّضْرَ بْنَ شُمَيْلٍ وَغَيْرَهُمْ رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَكَانَ فَوْقَ الثِّقَةِ قَالَ زَكَرِيَّا: بَعَثَ إِلَيْهِ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَهُوَ يَأْكُلُ الْخُبْزَ مَعَ الْفُجْلِ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَتِ الشَّمْسُ رُءُوسَ الْحِيطَانِ أَيْ قَرُبَتْ أَنْ تَغْرُبَ مَاتَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ (وَغَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ كَثِيرٌ مِنَ الْمَشَايِخِ سِوَى مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ (قَالُوا) أَيْ هُوَ وَإِيَّاهُمْ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (أَبُو حُمَيْدٍ الزُّبَيْرِيُّ) نِسْبَةً إِلَى الْمُصَغَّرِ (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ كَانَتْ بِالتَّأْنِيثِ، وَكِلَاهُمَا مُسْتَقِيمٌ لِلْإِسْنَادِ إِلَى ظَاهِرٍ غَيْرِ حَقِيقِيٍّ فِي التَّأْنِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (سُكَّةٌ) بِضَمِّ سِينٍ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ كَافٍ ضَرْبٌ مِنَ الطِّينِ يُتَّخَذُ مِنْ مِسْكٍ وَرَامِكٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِفَتْحٍ وَهُوَ نَوْعُ عِطْرٍ وَاشْتُقَّ مِنَ الرُّمْكَةِ وَهُوَ لَوْنٌ أَبْيَنُ كَدَوْرَةٍ مِنَ الْوَرَقَةِ كَذَا فِي السَّامِي فِي مَعْرِفَةِ الْأَسَامِي (يَتَطَيَّبُ مِنْهَا) حَالٌ أَوْ هُوَ اسْتِئْنَافُ بَيَانٍ وَفِي النِّهَايَةِ: السُّكَّةُ طِيبٌ مَعْرُوفٌ يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الطِّيبِ وَيُسْتَعْمَلُ.
وَفِي الِاخْتِيَارَاتِ الْبَدِيعَةِ أَنَّ السُّكَّةَ عُصَارَةُ الْأَمْلَجِ وَأَحْسَنُهُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ هَكَذَا قِيلَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا ظَرْفٌ فِيهَا طِيبٌ. يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ مِنْهَا لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِهَا نَفْسَ الطِّيبِ لَقَالَ يَتَطَيَّبُ بِهَا، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: فِي تَصْحِيحِ الْمَصَابِيحِ السُّكَّةُ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْكَافِ طِيبٌ مَجْمُوعٌ مِنْ أَخْلَاطٍ، وَالسُّكَّةُ قِطْعَةٌ مِنْهُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ وِعَاءً. وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هِيَ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْكَافِ الْمُشَدَّدَةِ طِيبٌ مُرَكَّبٌ. قَالَ مِيرَكُ: إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا نَفْسَ الطِّيبِ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ كَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ لِيُشْعِرَ بِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بِدُفَعَاتٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ بِهَا، فَإِنَّهُ يُوهِمُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا بِدَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا الْوِعَاءَ فَمِنْ لِلِابْتِدَاءِ هَذَا.
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ صَاحِبُ الْقَامُوسِ: السُّكُّ طِيبٌ يُتَّخَذُ مِنَ الرَّامِكِ مَدْقُوقًا مَنْخُولًا مَعْجُونًا بِالْمَاءِ، وَيُعْرَكُ شَدِيدًا، وَيُمْسَحُ بِدُهْنِ الْخِيرِيِّ لِئَلَّا يَلْتَصِقَ بِالْإِنَاءِ، وَيُتْرَكُ لَيْلَةً ثُمَّ يُسْحَقُ الْمِسْكُ، وَيَلْقَمُهُ وَيُعْرَكُ شَدِيدًا، وَيُقَرَّصُ وَيُتْرَكُ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يُثْقَبُ بِمِسَلَّةٍ، وَيَنْتَظِمُ فِي خَيْطٍ قِنَّبٍ وَيُتْرَكُ سَنَةً، وَكُلَّمَا عُتِّقَ طَابَتْ رَائِحَتُهُ، وَالرَّامِكُ كَالصَّاحِبِ شَيْءٌ أَسْوَدُ يُخْلَطُ بِالْمِسْكِ، وَقَدْ يُفْتَحُ الْمِيمُ أَيْضًا انْتَهَى كَلَامُهُ. وَالْقِنَّبُ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَتَشْدِيدِ النُّونِ ضَرْبٌ مِنَ الْكِتَّانِ يُفْتَلُ مِنْهُ الْحِبَالُ كَذَا فِي شَمْسِ الْعُلُومِ.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ سَأَلْتُ عَائِشَةَ أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَطَيَّبُ قَالَتْ: نَعَمْ بِذِكَارَةِ الطِّيبِ الْمِسْكِ، وَالْعَنْبَرِ.
فِي النِّهَايَةِ ذِكَارَةُ الطِّيبِ بِالْكَسْرِ، وَذُكُورَتُهُ مَا تَصْلُحُ لِلرِّجَالِ، وَهُوَ مَا لَا لَوْنَ لَهُ كَالْمَسِّ وَالْعِنَبِ وَالْعُودِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَجْمِرُ بِأُلْوَةٍ غَيْرِ مُطَرَّاةٍ وَبِكَافُورٍ يَطْرَحُهُ مَعَ الْأُلْوَةِ.
فِي النِّهَايَةِ الْأَلْوَةُ الْعُودُ يُتَبَخَّرُ بِهِ، وَقِيلَ ضَرْبٌ مِنْ خِيَارِهِ، وَتُفْتَحُ هَمْزَتُهُ، وَتُضَمُّ وَهِيَ أَصْلِيَّةٌ، وَقِيلَ زَائِدَةٌ، وَالْأُلْوَةُ الْمُطَرَّاةُ الَّتِي يُعْمَلُ فِيهَا أَلْوَانُ الطِّيبِ وَغَيْرُهَا كَالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ وَالطِّيبِ، وَالْكَافُورِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَزْرَةُ) بِفَتْحِ مُهْمَلَةٍ، وَسُكُونِ زَايٍ قَرَأَ (بْنُ ثَابِتٍ عَنْ ثُمَامَةَ) بِضَمِّ مُثَلَّثَةٍ (بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ، وَقَالَ أَنَسٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ) هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا.
مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدُّهُ، فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ.
قَالَ مِيرَكُ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنْ قَالَ رَيْحَانٌ بَدَلَ طِيبٍ، وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ أَثْبَتُ قُلْتُ، وَسَيَأْتِي تَعْلِيلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْضًا بِأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ هَذَا، وَالْمَحْمِلُ هُنَا بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأُولَى، وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَمْلُ بِالْفَتْحِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ بِثَقِيلٍ بَلْ قَلِيلِ الْمِنَّةِ، وَمَعَ هَذَا طِيبُ الرَّائِحَةِ، فَالْهَدِيَّةُ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً، وَتَتَضَمَّنُ مَنْفَعَةً فَلَا تُرَدُّ لِئَلَّا يَتَأَذَّى الْمُهْدِي إِذَا لَمْ يَكُنْ طَمَّاعًا.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) بِالتَّصْغِيرِ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ جُنْدُبٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ، وَالدَّالِ، وَيُفْتَحُ (عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثٌ) أَيْ ثَلَاثُ هَدَايَا (لَا تُرَدُّ) بِالتَّأْنِيثِ وَقِيلَ بِالتَّذْكِيرِ أَيْضًا لَكِنْ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ أَوْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْهَدَايَا، وَيُرَادُ بِهَا مَا يُهْدَى ثُمَّ إِنَّهُ بِضَمِّ الدَّالِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ فَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ قِيلَ، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ فَيَكُونُ نَهْيًا صَرِيحًا فَتَأَمَّلْ.
وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: قَوْلُهُ ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ مَعْنًى فِي ثَلَاثٍ مِنَ الْعَظَمَةِ، وَالشَّرَفِ وَقِلَّةِ الْمُؤْنَةِ، وَخِفَّةِ الْمَحَمِلِ لِيَكُونَ صِفَةً نَكِرَةً مُبْتَدَأً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثٌ مُبْتَدَأً، وَلَا تُرَدُّ صِفَتُهُ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ (الْوَسَائِدُ) بَعْدَ عَطْفِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ انْتَهَى، وَالْوَسَائِدُ جَمْعُ الْوِسَادَةِ، وَهِيَ مَا يُجْعَلُ تَحْتَ الرَّأْسِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَيُقَالُ لَهَا الْمِخَدَّةُ إِذْ قَدْ يُوضَعُ تَحْتَ الْخَدِّ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ (وَالدُّهْنُ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بَدَلَهُ (وَالطِّيبُ) وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالدُّهْنِ هُوَ الَّذِي لَهُ طِيبٌ فَعَبَّرَ تَارَّةً عَنْهُ بِالطِّيبِ، وَأُخْرَى بِالدُّهْنِ (وَاللَّبَنُ) كَذَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ الْوَسَائِدُ وَالدُّهْنُ، وَاللَّبَنُ.
وَنُقِلَ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي جَامِعِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ أَيْضًا قِيلَ أَرَادَ بِالدُّهْنِ الطِّيبَ ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَهَذَا نَصٌّ مِنَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الدُّهْنَ هُوَ الْأَصْلُ، وَالطِّيبُ لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ فِيهِ أَصْلًا، فَتَأَمَّلْ يَظْهَرْ لَكَ وَجْهُ الْخَلَلِ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْمُعَلَّلِ كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ.
وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الطِّيبُ بَدَلُ (وَاللَّبَنُ) وَكَقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ وَفِي نُسْخَةٍ، وَاللَّبَنُ بَدَلُ الدُّهْنِ قَالَ مِيرَكُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ إِذَا أَكْرَمَ رَجُلٌ ضَيْفَهُ بِوِسَادَةٍ فَلَا يَرُدُّهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ إِذَا أَهْدَى رَجُلٌ إِلَى أَخِيهِ وِسَادَةً أَوْ دُهْنًا أَوْ لَبَنًا أَوْ طِيبًا؛ فَلَا يَرُدُّهَا لِأَنَّ هَذِهِ هَدَايَا قَلِيلَةُ الْمِنَّةِ؛ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ، وَهَذَا أَوْجَهُ، تَأَمَّلْ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوِسَادَةِ التَّافِهَةُ الَّتِي لَا مِنَّةَ عُرْفًا فِي قَبُولِهَا، وَحِينَئِذٍ يُلْحَقُ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ كُلُّمَا لَا مِنَّةَ عُرْفًا فِي قَبُولِهَا.
(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ) قِيلَ اسْمُهُ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ (الْحَفَرِيُّ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْفَاءِ نِسْبَةً إِلَى حَفَرَ مَحَلٍّ بِالْكُوفَةِ كَانَ يَنْزِلُهُ (عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْجُرَيْرِيِّ) بِضَمِّ الْجِيمِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ الْأُولَى اسْمُهُ سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنْ أَبِي نَضْرَةَ) بِفَتْحٍ، وَسُكُونِ مُعْجَمَةٍ أَيِ الْمُنْذِرِ بْنِ مَالِكٍ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنْ رَجُلٍ) وَفِي نُسْخَةٍ الطُّفَاوِيِّ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالْفَاءِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَسَيَأْتِي فِي السَّنَدِ الْآتِي بَدَلَهُ الطُّفَاوِيُّ مَنْسُوبٌ لِطُفَاوَةَ حَيٍّ مِنْ قِيسِ غَيْلَانَ، وَهُوَ مَجْهُولٌ أَيْضًا فَفِي الْحَدِيثِ مَجْهُولٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، قُلْتُ: الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَنَسٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: حَسَّنَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ تَابِعِيُّ، وَالرَّاوِي عَنْهُ ثِقَةٌ فَجَهَالَتُهُ تُغْتَفَرُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طِيبُ الرِّجَالِ) قَالَ مِيرَكُ: الطِّيبُ قَدْ جَاءَ مَصْدَرًا وَاسْمًا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَمَعْنَاهُ مَا يُتَطَيَّبُ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ انْتَهَى قِيلَ وَيَصِحُّ إِرَادَةُ الْمَصْدَرِ هُنَا، وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ بَعِيدٌ (مَا ظَهَرَ رِيحُهُ، وَخَفِيَ لَوْنُهُ) كَمَاءِ الْوُرُودِ، وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْكَافُورِ (وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ، وَخَفِيَ رِيحُهُ) كَالزَّعْفَرَانِ، وَالصَّنْدَلِ، وَفِي شَرْحِ ابْنِ حَجَرٍ، وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ وَكَالْحِنَّاءِ وَهُوَ عَجِيبٌ مِنْهُمْ إِذْ هُمْ شَافِعِيُّونَ، وَالْمُقَرَّرُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّ الْحِنَّاءَ لَيْسَتْ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ رَاوِي الْحَدِيثِ عَنْ قَتَادَةَ أَرَاهُمْ حَمَلُوا هَذَا عَلَى مَا إِذَا أَرَادَتِ الْخُرُوجَ فَأَمَّا إِذَا كَانَتْ عِنْدَ زَوْجِهَا؛ فَلْتَطَّيَّبْ بِمَا شَاءَتِ انْتَهَى؛ فَإِنَّ مُرُورَهَا عَلَى الرِّجَالِ مَعَ ظُهُورِ رَائِحَةِ الطِّيبِ مِنْهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ.
أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا؛ فَلَا تَشَهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الْآخِرَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى: «كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ وَمَرَّتْ بِالْمَجْلِسِ؛ فَهِيَ زَانِيَةٌ».
ثُمَّ الطِّيبُ يَتَأَكَّدُ لِلرِّجَالِ فِي نَحْوِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَالْعِيدِ، وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَحُضُورِ الْمَحَافِلِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالْمُعَلِّمِ، وَالذِّكْرِ، وَيَتَأَكَّدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ؛ فَإِنَّهُ مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ.
(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) بِضَمِّ مُهْمِلَةٍ، وَسُكُونِ جِيمٍ (أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْجُرَيْرِيِّ) سَبَقَ (عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنِ الطُّفَاوِيَّ) قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي جَامِعِهِ: هَذَا الْحَدِيثُ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ الطُّفَاوِيَّ لَمْ يُسَمَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا يُعْرَفُ اسْمُهُ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ) أَيْ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى فَقَوْلُهُ (بِمَعْنَاهُ) لِلتَّأَكُّدِ كَمَا أَنَّ الْإِيرَادَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ لِزِيَادَةِ الِاعْتِمَادِ فِي الِاسْتِنَادِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلِيفَةَ، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَا) أَيْ مُحَمَّدٌ، وَعَمْرٌو (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) بِضَمِّ زَايٍ فَفَتْحِ رَاءٍ (حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ) أَيِ ابْنُ أَبِي عُثْمَانَ (الصَّوَّافُ) بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ (عَنْ حَنَانٍ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ الْأُولَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ فَمُوَحَّدَةٍ مُخَفَّفَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بِمُوَحَّدَتَيْنِ، وَسَيَأْتِي تَرْجَمَتُهُ فِي كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ) بِفَتْحِ نُونٍ، وَسُكُونِ هَاءٍ مَنْسُوبٌ إِلَى بَنِي نَهْدٍ قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَلَّ بِتَثْلِيثِ مِيمٍ، وَلَامٍ مُشَدَّدَةٍ مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ مُخَضْرَمٌ مِنْ كِبَارِ الثَّانِيَةِ ثَبْتٌ ثِقَةٌ عَابِدٌ مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ، وَقِيلَ بَعْدَهَا، وَعَاشَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ أَكْثَرَ كَذَا فِي التَّقْرِيبِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ فِي أَسْمَائِهِ أَدْرَكَ الْجَاهِلِيَّةَ وَأَسْلَمَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَلْقَهُ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ مَسْعُودٍ، وَأَبَا مُوسَى، وَرَوَى عَنْهُ قَتَادَةُ، وَغَيْرُهُ انْتَهَى، فَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ مُرْسَلًا (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أُعْطِيَ أَحَدُكُمْ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ عُرِضَ عَلَيْهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ؛ فَلَا يَرُدُّهُ؛ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ طَيِّبُ الرِّيحِ، وَقَوْلُهُ (الرَّيْحَانُ) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ، وَهُوَ كُلُّ نَبْتٍ طَيِّبِ الرِّيحِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشْمُومِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ قَالَ مِيرَكُ: وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ يَخُصُّونَهُ بِالْآسِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ، وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، وَالشَّامِ يَخُصُّونَهُ بِالْحَبَقِ، وَالْحَبَقُ قِيلَ الْفَوْدَجُ، وَقِيلَ وَرَقُ الْخِلَافِ وَقِيلَ الشَّاهِسْفَرَمُ، وَقِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الطِّيبُ كُلُّهُ لِيُوَافِقَ مَا مَرَّ، وَيُطَابِقَ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ، وَمَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ، وَرِوَايَةَ الْبُخَارِيِّ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرُدَّ الطِّيبَ (فَلَا يَرُدَّهُ) بِفَتْحِ الدَّالِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَهُوَ نَصٌّ فِي كَوْنِهِ نَهْيًا بِخِلَافِ مَا رُوِيَ بِضَمِّ الدَّالِ؛ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ النَّهْيَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا بِمَعْنَى النَّهْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِضَمِّ الدَّالِ عَلَى الْفَصِيحِ الْمَشْهُورِ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ؛ فَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ خَبَرًا يَتَعَيَّنُ الضَّمُّ؛ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ عَلَى الْفَصِيحِ هَذَا، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ هُوَ الْفَتْحُ لَا غَيْرُ، فَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: رِوَايَةُ الْمُحَدِّثِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَا يَرُدَّهُ بِفَتْحِ الدَّالِ قَالَ: وَأَنْكَرَهُ مُحَقِّقُو شُيُوخِنَا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا: وَهَذَا غَلَطٌ مِنَ الرُّوَاةِ وَصَوَابُهُ ضَمُّ الدَّالِ قَالَ: وَوَجَدْتُهُ بِخَطِّ الْأَشْيَاخِ بِضَمِّ الدَّالِ، وَهُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ قُلْتُ عِبَارَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْفَتْحَ وَاجِبٌ فِي نَحْوِ رُدَّهَا، وَالضَّمَّ فِي رُدُّهُ عَلَى الْأَفْصَحِ، فَيَحْمِلُ رِوَايَةَ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى الْفَصِيحِ، وَتَخْطِئَتَهُمْ عَلَى غَيْرِ الصَّحِيحِ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يُوجَدُ فِيهِ الْفَصِيحُ، وَالْأَفْصَحُ ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ نَقْلَ الْمُحَدِّثِينَ هُوَ الْأَصَحُّ، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى اعْتِبَارِ مَا عِنْدَ اللُّغَوِيِّينَ مِنَ الْوَجْهِ الْأَرْجَحِ لَا سِيَّمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا فَائِدَةَ اخْتِيَارِ الْفَتْحِ فِي (فَلَا يَرُدَّهُ) لِيَكُونَ نَصًّا عَلَى النَّهْيِ بِخِلَافِ الضَّمِّ؛ فَإِنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ النَّهْيِ، وَالنَّفْيِ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَمْ يُوجَدْ فِي نَحْوِ رُدُّهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُفِيدٌ لِمَعْنَى الْأَمْرِ، فَتَأَمَّلْ، وَاخْشَ الزَّلَلَ، وَلَا تَكْسَلْ مِنَ الْمَلَلِ، وَبِهَذَا انْدَفَعَ قَوْلُ النَّوَوِيِّ مِنْ أَنَّ الْفَتْحَ هُوَ اخْتِيَارُ مَنْ لَا يُحَقِّقُ الْعَرَبِيَّةَ (فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ) يَعْنِي أَنَّ أَصْلَ الطِّيبِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَخَلَقَ اللَّهُ الطِّيبَ فِي الدُّنْيَا لِيُذَكِّرَ الْعِبَادَ بِطِيبِ الدُّنْيَا طِيبَ الْآخِرَةِ، وَيَرْغَبُونَ فِي الْجَنَّةِ، وَيَزِيدُونَ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِيَصِلُوا بِسَبَبِهَا إِلَى الْجَنَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ طِيبَ الدُّنْيَا خَرَجَ عَيْنُهُ مِنَ الْجَنَّةِ نَعَمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَذْرُهُ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ أُنْمُوذَجٌ مِنْ طِيبِهَا وَإِلَّا فَطِيبُ الْجَنَّةِ يُوجَدُ رِيحُهُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ كَمَا فِي حَدِيثٍ، وَقَدْ وَرَدَ:
اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَهْ

(قَالَ أَبُو عِيسَى:) أَيِ الْمُؤَلِّفُ (لَا نَعْرِفُ)، وَفِي نُسْخَةٍ، وَلَا يُعْرَفُ، وَهُوَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِي نُسْخَةٍ عَلَى بِنَاءِ الْمُتَكَلِّمِ (لِحَنَانٍ) أَيِ الْمَذْكُورِ فِي السَّنَدِ الْمَسْطُورِ (غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ) بِرَفْعِ غَيْرُ، وَنَصْبِهِ لِمَا سَبَقَ (وَقَالَ) عَطْفٌ عَلَى لَا نَعْرِفُ مِنْ مَقُولِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ إِلَخْ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ) بِكَسْرِ التَّاءِ (فِي كِتَابِ الْجَرْحِ، وَالتَّعْدِيلِ حَنَانٍ الْأَسَدِيِّ) بِفَتْحَتَيْنِ، وَيُسَكَّنُ (وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ شُرَيْكٍ) بِضَمِّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ، وَفَتْحِ رَاءٍ (وَهُوَ صَاحِبُ الرَّقِيقِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَكَسْرِ الْقَافِ الْأُولَى (عَمُّ وَالِدِ مُسَدَّدٍ) بِضَمِّ مِيمٍ، وَفَتْحِ سِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَمُشَدِّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ (وَرَوَى) أَيْ حَنَانٌ (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ وَرَوَى عَنْهُ) أَيْ عَنْ حَنَانٍ (الْحَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ الصَّوَّافُ سَمِعْتُ) أَيْ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ (أَيْ) يَعْنِي أَبَا حَاتِمٍ (يَقُولُ ذَلِكَ) أَيْ هَذَا الْقَوْلَ فِي تَرْجَمَةِ حَنَانٍ، وَقَالَ مِيرَكُ: أَسَدُ بْنُ شُرَيْكٍ بَطْنٌ مِنَ الْأَزْدِ بْنِ يَغُوثَ، وَيُقَالُ لِلْأَسَدِ وَيُقَالُ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ الْأَسْدِيُّ بِسُكُونِ السِّينِ، وَالْأَزْدِيُّ بِالزَّايِ السَّاكِنَةِ بَدَلُ السِّينِ، وَالْكُلُّ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّهُ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ شُرَيْكٍ مِنْ أَوْلَادِ الْأَزْدِ بْنِ يَغُوثَ، وَيُقَالُ لِلْأَسْدِ أَزْدٌ كَمَا بُيِّنَ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْأَنْسَابِ فِي الْأَزْدِ بْنِ يَغُوثَ وَيُقَالُ لِلْأَسْدِ أَزْدٌ كَمَا بُيِّنَ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْأَنْسَابِ فِي الْأَزْدِ بَطْنٌ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أَسدِ بْنِ شُرَيْكٍ بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ابْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ فَهْمٍ لَهُمْ خُطَّةٌ بِالْبَصْرَةِ، وَيُقَالُ لَهَا خُطَّةُ بَنِي أَسَدٍ، وَمِنْهُمْ مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ الْأَسْدِيُّ الْمُحَدِّثُ بِالْبَصْرَةِ، وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ حَجَرِ الْعَسْقَلَانِيُّ: مِنْ حَنَانٍ بِفَتْحِ الْمُهْمِلَةِ، وَتَخْفِيفِ النُّونِ الْأَسْدِيِّ عَمُّ وَالِدِ مُسَدَّدٍ كُوفِيٌّ مَقْبُولٌ مِنَ السَّادِسَةِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ فِي الْأَصْلِ كُوفِيًّا، وَهُوَ مُقِلٌّ جِدًّا لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ الْمُرْسَلُ؛ فَإِنَّ أَبَا عُثْمَانَ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ مُخَضْرَمٌ وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَاسِطَةَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدِ) بِالْجِيمِ بَعْدَ ضَمِّ الْمِيمِ، وَبِاللَّامِ الْمَكْسُورَةِ (بْنِ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ) بِسُكُونِ الْمِيمِ (حَدَّثَنَا أَبِي) أَيْ سَعِيدٌ (عَنْ بَيَانٍ) بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ، وَتَحْتِيَّةٍ (عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ الْبَجَلِيِّ أَسْلَمَ فِي السَّنَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ جَرِيرٌ: أَسْلَمْتُ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَنَزَلَ الْكُوفَةَ، وَسَكَنَهَا زَمَانًا ثُمَّ انْتَقَلْتُ إِلَى قَرْقِسْيَا، وَمَاتَ بِهَا سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ (قَالَ عُرِضْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ عَلَى بِنَاءِ الْمَعْلُومِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ نَفْسِي كَعَرْضِ الْجَيْشِ عَلَى الْأَمِيرِ لِيَعْرِفَهُمْ، وَيَتَأَمَّلَهُمْ حَتَّى يَرُدَّ مَنْ لَا يُرْضِيهُ ثُمَّ صَرَّحَ، وَقَالَ: أَوْ هُوَ لِلْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ عَرَضَنِي عَلَيْهِ، وَلَّاهُ ذَلِكَ لِيَنْظُرَ فِي قُوَّتِي، وَجَلَادَتِي عَلَى الْقِتَالِ قُلْتُ، وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ جِهَةِ الدِّرَايَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ قَوْلُهُ (بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ)، وَسَبَبُ الْعَرْضِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ حَتَّى ضَرَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَرَهُ، وَدَعَا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّ جَرِيرًا غَابَ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَحَضَرَ فَأَمَرَ بِعَرْضِهِ لِيَتَبَيَّنَ حَالَهُ، وَمَا وَقَعَ لَهُ فِي رُكُوبِ الْخَيْلِ كَذَا قَرَّرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَفِيهِ أَنَّ الْعَرْضَ إِنَّمَا كَانَ بِالْمَشْيِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ مُصَرَّحًا، وَأَيْضًا لَمَّا ثَبَتَ تَثْبِيتُهُ عَلَى الْخَيْلِ بِدُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يُلَائِمُهُ الِامْتِحَانُ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ (فَأَلْقَى جَرِيرٌ رِدَاءَهُ) الضَّمِيرُ لِجَرِيرٍ.
(وَمَشَى فِي إِزَارٍ).
كَانَ الْقِيَاسُ؛ فَأَلْقَيْتُ رِدَائِي، وَمَشَيْتُ؛ فَهَذَا الْتِفَاتٌ مِنَ التَّكَلُّمِ إِلَى الْغَيْبَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ قَيْسٍ كَمَّلَ بِهِ كَلَامَ جَرِيرٍ، وَنَقَلَهُ بِالْمَعْنَى، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَنَّهُ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ؛ فَيَأْبَاهُ الْفَاءُ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ جَرِيرٌ إِظْهَارًا لِقُوَّتِهِ، وَتَجَلُّدِهِ فِي شَجَاعَتِهِ (فَقَالَ) عَطْفٌ عَلَى عُرِضْتُ أَيْ؛ فَقَالَ عُمَرُ (لَهُ) أَيْ: لِجَرِيرٍ (خُذْ رِدَاءَكَ) أَيْ، وَاتْرُكْ مَشْيَكَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَمْرُكَ. (فَقَالَ عُمَرُ) أَيْ بَعْدَ ذَلِكَ (لِلْقَوْمِ). أَيْ لِلْحَاضِرِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ.
(وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا). أَيْ: مَا عَلِمْتُ صُورَةَ رَجُلٍ لِيَنْدَفِعَ الْمُسَامَحَةُ فِي الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ، وَفِي الْمُسْتَثْنَى أَيْضًا (أَحْسَنَ) أَيْ مَا عَدَاهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَالْمُسْتَثْنَى عَقْلًا.
(مِنْ صُورَةِ جَرِيرٍ).
أَيْ مِنْ وَجْهِهِ أَوْ بَدَنِهِ؛ فَلَا يُشْكَلُ بِحُسْنِ دِحْيَةَ قِيلَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (أَحْسَنَ) صُورَةً مِنْ جَرِيرٍ.
(إِلَّا مَا بَلَغَنَا مِنْ صُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ).
اعْلَمْ أَنَّ رَأَيْتُ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى أَبْصَرْتُ؛ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ عَلَى مَا قِيلَ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى عَلِمْتُ؛ فَهُوَ مُتَّصِلٌ، وَهُوَ أَنْسَبُ لِتَعْرِيفِ حُسْنِ جَرِيرٍ.
وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَيُعْلَمُ مِنْ ذِكْرِ صُورَةِ الْمُفَضَّلِ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ رَجُلٍ الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ صُورَتُهُ؛ فَزَعَمَ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ صُورَةَ رَجُلٍ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ انْتَهَى. وَغَرَابَتُهُ لَا تَخْفَى؛ لِأَنَّ ذِكْرَ صُورَةِ الْمُفَضَّلِ هُوَ الْمُوجِبُ لِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ الْمُصَحِّحِ لِلْحَمْلِ هَذَا.
وَقَدْ ذَكَرَ مِيرَكُ أَنَّهُ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنَّ جَرِيرَ يُوسُفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوْ قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: مَوْلَى آلِ عُمَرَ بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: رَأَيْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَأَنَّ وَجْهَهُ شِقَّةُ قَمَرٍ انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: إِنَّ جَمَالَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَايَةِ الْكَمَالِ، وَإِنَّ مِنْ جُمْلَةِ صَفَائِهِ، وَكَثْرَةِ ضِيَائِهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ صُورَتَهُ كَانَ يَقَعُ نُورُهَا عَلَى الْجِدَارِ بِحَيْثُ يَصِيرُ كَالْمِرْآةِ يَحْكِي مَا قَابَلَهُ مِنْ مُرُورِ الْمَارِّ لَكِنَّ اللَّهَ سَتَرَ عَنْ أَصْحَابِهِ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ الْجَمَالِ الزَّاهِرِ، وَالْكَمَالِ الْبَاهِرِ إِذْ لَوْ بَرَزَ إِلَيْهِمْ لَصَعُبَ النَّظَرُ إِلَيْهِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَقِيلَ شَطْرُ حُسْنِ أَهْلِ زَمَانِهِ أَوْ شَطْرُ حُسْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنَّ حُسْنَ السِّيرَةِ أَفْضَلُ مِنْ حُسْنِ الصُّورَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».
وَقَالَ مِيرَكُ، وَلَعَلَّهُ مِنْ مُلْحَقَاتِ بَعْضِ النُّسَّاخِ سَهْوًا. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَجْهُهُ أَنَّ طِيبَ الصُّورَةِ يَلْزَمُهُ غَالِبًا طِيبُ رِيحِهَا، فَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّعَطُّرِ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ بَلِ التَّعَسُّفِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُتَصَرَّفَ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ بِزِيَادَةٍ، وَحُسْنِ صُورَةِ الْأَصْحَابِ، وَعَرْضِهِمْ عَلَى ابْنِ الْخَطَّابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ، وَالْمَآبُ.