فصل: باب مَا جَاءَ فِي بُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: جمع الوسائل في شرح الشمائل



.باب مَا جَاءَ فِي قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

وَفِي نُسْخَةٍ بَابُ صِفَةِ قِرَاءَةِ، وَفِي أُخْرَى بَابُ مَا جَاءَ فِي صِفَةِ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ) بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأُولَى، وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا كَافٍ (أَنَّهُ سَأَلَ أُمَّ سَلَمَةَ) أَيْ: أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ (عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا) الْفَاءُ لِلْعَطْفِ، وَإِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ مُفِيدَةٌ بِإِجَابَتِهَا لِذَلِكَ عَلَى الْفَوْرِ مُبَيَّنَةٌ بِأَنَّهَا فِي كَمَالِ ضَبْطِهَا (هِيَ) أَيْ: أُمُّ سَلَمَةَ (تَنْعَتُ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْ: تَصِفُ (قِرَاءَةً مُفَسَّرَةً) بِتَشْدِيدِ السِّينِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: مُبَيَّنَةً مَشْرُوحَةً وَاضِحَةً مَفْصُولَةَ الْحُرُوفِ مِنَ الْفَسْرِ، وَهُوَ الْبَيَانُ وَمِنْهُ التَّفْسِيرُ (حَرْفًا حَرْفًا) أَيْ: كَلِمَةً كَلِمَةً يَعْنِي مُرَتَّلَةً مُحَقَّقَةً مُبَيَّنَةً كَذَا ذَكَرَهُ الْجَزَرِيُّ، وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَيْ: هَذَا التَّبْيِينُ أَوْ حَالٌ أَيْ: مَفْصُولًا كَذَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ (مُفَسَّرَةً)، وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَقُولَ قِرَاءَتُهُ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَثَانِيهِمَا أَنْ تُقْرَأَ مُرَتَّلَةً مُبَيَّنَةً لِقِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوُهُ قَوْلُهُمْ وَجْهُهَا تَصِفُ الْجَمَالَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} وَظَاهِرُ السِّيَاقِ يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي فَكَأَنَّهَا عَلِمَتْ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ مَا هُوَ مُرَادُ السَّائِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوْ أَظْهَرَتْ كَيْفِيَّةَ مَا سَمِعَتْ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِ مَعَ أَنَّهُ يُفِيدُ الرِّوَايَةَ وَالدِّرَايَةَ وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهَا أَيْضًا أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ حَدَّثَنَا أُبَيٌّ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ كَيْفَ كَانَ) وَفِي نُسْخَةٍ كَانَتْ (قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَدًّا) أَيْ: بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ أَيْ: ذَاتَ مَدٍّ وَالْمُرَادُ بِهِ تَطْوِيلُ النَّفَسِ فِي حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ، وَفِي الْفُصُولِ وَالْغَايَاتِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ كَانَ يَمُدُّ مَدًّا، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ مَدًّا قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ قِرَاءَةُ مَدَّاءَ عَلَى وَزْنِ فَعْلَاءَ أَيْ: كَانَتْ قِرَاءَتُهُ مَدَّاءَ وَلَمْ نَقِفْ عَلَيْهِ رِوَايَةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَوْلٌ عَلَى التَّخْمِينِ، وَفِيهِ وَهْنٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَهُوَ الْإِفْرَاطُ فِي الْمَدِّ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ كَذَا فِي الْأَزْهَارِ، وَقَالَ الْجَزَرِيُّ: فِي التَّصْحِيحِ مَدًّا مَصْدَرٌ أَيْ: ذَاتُ مَدٍّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا مَدَّاءُ عَلَى وَزْنِ فَعَلَاءَ تَأْنِيثُ الْأَمَدِّ الَّذِي هُوَ نَعْتُ الْمُذَكَّرِ خَطَّاءٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يُمَكِّنُ الْحُرُوفَ، وَيُعْطِيهَا أَكْمَلَ حَقِّهَا مِنَ الْإِشْبَاعِ وَلَاسِيَّمَا فِي الْوَقْفِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ السَّاكِنَانِ فَيَجِبُ الْمَدُّ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَدِّ بِغَيْرِ مُوجِبٍ.
وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَقُولُ الْمُرَادُ مَدُّ الزَّمَانِ يَعْنِي أَنَّهُ يُجَوِّدُ وَيُرَتِّلُ وَيُشَدِّدُ وَيُمَكِّنُ، وَيُتِمُّ الْحَرَكَاتِ فَيَكُونُ قَدْ مَدَّ الزَّمَانَ انْتَهَى.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ كَانَتْ مَدًّا يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ. فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَحَلِّ الْمَدِّ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَدَّ الْأَصْلِيَّ وَالذَّاتِيَّ وَالطَّبِيعِيَّ، وَوَقْفًا تَوَسَّطَ أَيْضًا فَيَمُدُّ قَدْرَ أَلِفَيْنِ أَوْ يُطَوِّلُ قَدْرَ ثَلَاثٍ لَا غَيْرَ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَدِّ الْعَارِضِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ، وَتَفْصِيلُ أَنْوَاعِ الْمَدِّ مَحِلُّهُ كُتُبُ الْقِرَاءَةِ.
وَأَمَّا مَا ابْتَدَعَهُ قُرَّاءُ زَمَانِنَا حَتَّى أَئِمَّةُ صَلَاتِنَا أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى الْمَدِّ الطَّبِيعِيِّ إِلَى أَنْ يَصِلَ قَدْرَ أَلِفَانِ وَأَكْثَرَ، وَرُبَّمَا يُقَصِّرُونَ الْمَدَّ الْوَاجِبَ، فَلَا مَدَّ اللَّهُ فِي عُمْرِهِمْ، وَلَا أَمَدَّ فِي أَمْرِهِمْ.
ثُمَّ مَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنِ الشَّيْخِ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ بَعْدَ قَوْلِهِ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ أَنَّهُ يَمُدُّ بِالْحَاءِ مِنَ الرَّحِيمِ، فَهُوَ مَا صَادَفَ مَحَلَّهُ؛ لِأَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ كَانَ يَمُدُّ الْيَاءَ بَعْدَ الْحَاءِ ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ كَانَ يَمُدُّ صَوْتَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ قَرَأَ فِي الْفَجْرِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ فَمَرَّ بِهَذَا الْحَرْفِ: {لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} فَمَدَّ نَضِيدٌ أَيْ: زِيَادَةٌ عَلَى سَائِرِ الْفَوَاصِلِ حَتَّى بَلَغَ قَدْرَ ثَلَاثَ أَلِفَاتٍ، فَكَأَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي غَيْرِهِ عَلَى قَدْرِ أَلِفَيْنِ أَوْ أَلِفٍ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: وَهُوَ شَاهِدٌ جَيِّدٌ لِحَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَصْلُهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ قُطْبَةَ قَالَ مِيرَكُ: وَتَبِعَهُ شَارِحٌ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَدَّ عِنْدَ الْقُرَّاءِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَصْلِيٌّ، وَهُوَ إِشْبَاعُ الْحُرُوفِ الَّتِي بَعْدَهَا أَلِفٌ، أَوْ وَاوٌ أَوْ يَاءٌ قُلْتُ هَذَا خَطَأٌ، وَالصَّوَابُ إِشْبَاعُ نَفْسِ الْحُرُوفِ الْمَدِّيَةِ لَا الْحُرُوفِ الْكَائِنَةِ بَعْدَهَا أَوْ قَبْلَهَا ثُمَّ قَالَ: وَغَيْرُ أَصْلِيٍّ، وَهُوَ مَا إِذَا أَعْقَبَ الْحَرْفَ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ هَمْزٌ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ وَمُنْفَصِلٌ، فَالْمُتَّصِلُ مَا كَانَ مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، وَالْمُنْفَصِلُ مَا كَانَ بِكَلِمَةٍ أُخْرَى فَالْأَوَّلُ يُؤْتَى فِيهِ بِالْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ مُمَكَّنَاتٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَالثَّانِي يُزَادُ فِي تَمْكِينِ الْأَلِفِ وَالْوَاوِ وَالْيَاءِ زِيَادَةً عَلَى الْمَدِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ النُّطْقُ بِهَا إِلَّا بِهِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَالْمَذْهَبُ الْأَعْدَلُ أَنْ يَمُدَّ كُلَّ حَرْفٍ مِنْهَا ضِعْفَيْ مَا كَانَ يَمُدُّهُ أَوَّلًا، وَقَدْ يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا وَمَا زَادَ، فَهُوَ غَيْرُ مَحْمُودٍ انْتَهَى.
وَهُوَ خِلَافُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ فِي الْمَدِّ الْمُتَّصِلِ، وَكَذَا الْمُنْفَصِلِ عِنْدَ مَنْ يَمُدُّهُ مِنْ أَقَلِّ مَقَادِيرِهِ قَدْرَ ثَلَاثِ أَلِفَاتٍ، وَقُرِئَ لِوَرْشٍ، وَحَمْزَةَ قَدْرَ خَمْسِ أَلِفَاتٍ فَمَسَائِلُ الْعُلُومِ تُؤْخَذُ مِنْ أَرْبَابِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}.
(حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ حَدَّثَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَنْبَأَنَا (يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ) بِضَمِّ هَمْزٍ وَفَتْحِ مِيمٍ نِسْبَةً (عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ) بِجِيمَيْنِ مُصَغَّرًا (عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ) أَيْ: بِالتَّوَقُّفِ مِنَ التَّقْطِيعِ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ قِطْعَةً قِطْعَةً (يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) بِرَفْعِ الدَّالِ عَلَى الْحِكَايَةِ (ثُمَّ يَقِفُ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي بَاقِي السُّورَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ التَّقْطِيعِ فِي الْفِقْرَاتِ مِنْ رُءُوسِ الْآيَاتِ (ثُمَّ يَقُولُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ يَقِفُ) وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ: تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ، وَلَوْ فِيهِ قَطْعُ الصِّفَةِ عَنِ الْمَوْصُوفِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَلِيمِيُّ، وَغَيْرُهُمَا يُسَنُّ أَنْ يَقِفَ عَلَى رُءُوسِ الْآيِ: وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَا بَعْدَهَا لِلِاتِّبَاعِ فَقَدَحَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّ مَحَلَّ الْوَقْفِ يَوْمِ الدِّينِ غَفْلَةً عَنِ الْقَوَاعِدِ الْمُقَرَّرَةِ فِي كُتُبِ الْقُرَّاءِ إِذْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الْفَوَاصِلِ وَقْفٌ حَسَنٌ، وَلَوْ تَعَلَّقَتْ بِمَا بَعْدَهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْأَفْضَلَ هَلِ الْوَصْلُ أَوِ الْوَقْفُ فَالْجُمْهُورُ كَالسَّجَاوَنْدِيِّ وَغَيْرِهِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْجَزَرِيِّ عَلَى الثَّانِي، وَكَذَا صَاحِبُ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى رَأْسِ كُلِّ آيَةٍ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِمَا بَعْدَهُ، وَقَوْلُ بَعْضِ الْقُرَّاءِ الْوَقْفُ عَلَى مَا يَنْفَصِلُ فِيهِ الْكَلَامُ أَوْلَى غَفْلَةً عَنِ السُّنَّةِ، وَأَنَّ اتِّبَاعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْأَوْلَى انْتَهَى، وَالْأَعْدَلُ عَدَمُ الْعُدُولِ عَمَّا وَرَدَ فِي خُصُوصِ الْوَقْفِ مُتَابَعَةً ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ يُؤَيِّدُ أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْفَاتِحَةِ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنُ حَجَرٍ وَيُرَدُّ بِأَنَّهُ لَا تَأْيِيدَ فِيهِ، فِيهِ مُصَادَرَةٌ بَلْ مُكَابَرَةٌ.
ثُمَّ قَوْلُهُ وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّ الْبَسْمَلَةَ آيَةً فَعَمِلْنَا بِالصَّرِيحِ وَتَرَكْنَا الْمُحْتَمَلَ.
مَدْفُوعٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَمْنَعُ التَّأْيِيدَ فِي الْقَوْلِ السَّدِيدِ مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: يُسَنُّ وَصْلُ الْبَسْمَلَةِ بِالْحَمْدَلَةِ لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْقُرَّاءِ بَلْ وَرَدَ فِي أَفْضَلِيَّتِهِ بِخُصُوصِهِ حَدِيثٌ ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْطَعُ قِرَاءَتَهُ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ يَقِفُ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ فَغَيْرُ مُنَاسِبٍ هُنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَأْبَى عَنْ هَذَا (وَكَانَ يَقْرَأُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أَيْ: أَحْيَانًا، وَإِلَّا فَالْجُمْهُورُ عَلَى حَذْفِ الْأَلِفِ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَوُجِدَ بِخَطِّ السَّيِّدِ جَمَالِ الدِّينِ أَنَّ صَوَابَهُ مَلِكِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ المص فِي الْجَامِعِ، وَمِنْ شَرْحِ الشَّاطِبِيَّةِ لِلْمَوْلَى ظَهِيرِ الدِّينِ الْأَصْفَهَانِيِّ فَمَا وَقَعَ فِي أَصْلِ الْكِتَابِ سَهْوٌ مِنَ الْكُتَّابِ لَا مِنْ مُصَنِّفِ الْكِتَابِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ انْتَهَى.
وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ: فِي جَامِعِهِ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ لِأَنَّ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ لَكِنْ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: نَقْلًا عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجَلُّ مَنْ سَمِعَ مِنْهُمْ عَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ، وَأُخْتُهَا أَسْمَاءُ، وَأُمُّ سَلَمَةَ وَالْعَبَادِلَةُ الْأَرْبَعَةُ لَكِنْ أَدْرَكَ مَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُمْ، وَلَمْ يَسْمَعْ كَعَلِيٍّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ انْتَهَى. وَإِذَا ثَبَتَ سَمَاعُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ الْحَدِيثَ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ عَنْهَا بَلْ نَقُولُ رِوَايَةُ اللَّيْثِ مِنَ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ كَمَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ شَاهْ رَحِمَهُ اللَّهُ فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَلَوْ قَدَحَ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّ فِي سَنَدِهِ انْقِطَاعًا لَأَصَابَ مَعَ أَنَّ الْمُنْقَطِعَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا إِذَا وَرَدَ عَنْ ثِقَةٍ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَلِذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: عَلَى مَا فِي الْمِشْكَاةِ: لَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ لِأَنَّ اللَّيْثَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ مَمْلَكٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَحَدِيثُ اللَّيْثِ أَصَحُّ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: بِاللَّيْلِ، قَالَ مِيرَكُ: هَكَذَا أَوْرَدَ المص فِي هَذَا الْكِتَابِ بِغَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمَانٍ لَكِنْ أَوْرَدَهُ فِي جَامِعِهِ فِي أَبْوَابِ صَلَاةِ اللَّيْلِ فِي بَابِ الْقِرَاءَةِ فِي اللَّيْلِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ بِلَفْظِ سَأَلْتُ عَائِشَةَ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ (كَانَ) وَزَادَ فِي نُسْخَةٍ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: أَكَانَ (يُسِرُّ بِالْقِرَاءَةِ) أَيْ: يُخْفِيهَا (أَمْ يَجْهَرُ) قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: أَسَّرَ الْحَدِيثَ أَخْفَاهُ، وَقَوْلُهُ يُسِرُّهُمَا يَعْنِي الْإِعَادَةَ، وَالتَّسْمِيَةَ وَأَمَّا يُسِرُ بِهِمَا بِزِيَادَةِ الْبَاءِ، فَهُوَ سَهْوٌ، وَقَالَ مِيرَكُ: وَكَأَنَّ زِيَادَةَ الْبَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَقَعَتْ سَهْوًا مِنَ النُّسَّاخِ أَوْ يُقَالُ قَائِلُهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْحَفَاوَةِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: فَعَلَى هَذَا يُشْكَلُ الْكَلَامُ، قَالَ الْعِصَامُ: وَلَا يُشْكَلُ؛ فَإِنَّ الْبَاءَ بِمَعْنَى فِي أَيِ: الصَّوْتُ فِي وَقْتِ الْقِرَاءَةِ، انْتَهَى.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُقَدَّرُ مَفْعُولٌ بِهِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ النِّظَامِ فِي مَقَامِ الْمَرَامِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُضَمَّنَ مَعْنَى الْمُخَافَتَةِ؛ فَإِنَّهَا تَتَعَدَّى بِالْبَاءِ ثُمَّ الصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِرَاءَةِ مَا عَدَا التَّعَوُّذَ، وَالتَّسْمِيَةَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى إِخْفَاءِ الْأَوَّلِ، وَلِتَرْكِ الثَّانِي عِنْدَ مَالِكٍ، وَإِخْفَائِهِ عِنْدَنَا حَتَّى يُلَائِمَ حِينَئِذٍ (قَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يُفْعَلُ) الرِّوَايَةُ الْمُؤَيَّدَةُ بِالنُّسَخِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ عَلَى الرَّفْعِ فِي كُلِّ ذَلِكَ، قِيلَ: وَالْأَظْهَرُ النَّصْبُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إِلَى حَذْفِ الْمَفْعُولِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ لَا تُتْرَكُ بِمِثْلِ أَمْرٍ تَحْسِينِيٍّ لَا غَيْرَ، انْتَهَى، وَفِيهِ أَنَّ الْقَائِلَ مَا أَرَادَ رَدَّ الرِّوَايَةِ بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ النَّصْبُ لَكَانَ أَظْهَرَ أَوْ أَشَارَ إِلَى تَجْوِيزِهِ أَيْضًا.
(رُبَّمَا أَسَرَّ وَرُبَّمَا جَهَرَ) أَيْ: فِي لَيْلَةٍ أَوْ لَيْلَتَيْنِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى الِاسْتِوَاءِ، وَإِشْعَارٌ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَ قَبْلَهُ فَيَجُوزُ كُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَإِنْ كَانَ الْأَقْوَى هُوَ الْجَهْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِشْغَالِ النَّفْسِ وَاسْتِكْمَالِ السَّمَاعِ وَالنَّشَاطِ فِي الْعِبَادَةِ، وَإِيقَاظِ بَعْضِ أَهْلِ الْغَفْلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَرَجَّحَ كُلًّا طَائِفَةٌ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مَا كَانَ أَوْفَقَ لِلْخُشُوعِ، وَأَبْعَدَ عَنِ الرِّيَاءِ هُوَ الْأَفْضَلُ.
(قُلْتُ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقُلْتُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً) بِفَتْحِ السِّينِ أَيِ: اتِّسَاعًا فَفِي الْقَامُوسِ وَسِعَهُ سَعَةً كَدَعَةٍ وِدِيَةٍ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّفْسَ قَدْ تَنْشَطُ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَلَوْ ضُيِّقَ عَلَيْهَا بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا، فَرُبَّمَا لَمْ تَنْشَطْ وَتُتْرَكُ فَتُحْرَمُ هَذَا الْخَيْرَ الْكَثِيرَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} أَيْ: سَبِيلًا وَسَطًا بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ، فَإِنَّ الِاقْتِصَادَ مَطْلُوبٌ وَفِي جَمِيعِ الْأُمُورِ مَحْبُوبٌ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَخْفِتُ وَيَقُولُ أُنَاجِي رَبِّي قَدْ عَلِمَ حَاجَتِي، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَجْهَرُ، وَيَقُولُ: أَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَأُوقِظُ الْوَسْنَانَ فَلَمَّا نَزَلَتْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَرْفَعَ قَلِيلًا وَعُمَرَ أَنْ يُخْفِضَ قَلِيلًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ كُلِّهَا، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا بِأَسْرِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا بِالْإِخْفَاءِ تَارَةً وَبِالْجَهْرِ أُخْرَى.
(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ) بِكَسْرِ مِيمٍ، وَفَتْحِ عَيْنٍ (عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ الْعَبْدِيِّ) بِفَتْحِ عَيْنٍ وَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ الْغَنَوِيُّ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَالنُّونِ وَكَسْرِ الْوَاوِ (عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ عَنْ أُمِّ هَانِئٍ) بِهَمْزٍ فِي آخِرِهِ، وَهِيَ أُخْتُ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- (قَالَتْ: كُنْتُ أَسْمَعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ وَأَنَا عَلَى عَرِيشِي) وَهُوَ مَا يُسْتَظَلُّ بِهِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ، وَمَا يُهَيَّأُ لِلْكَرَمِ لِيَرْتَفِعَ عَلَيْهِ عَلَى مَا فِي الْمُغْرِبِ، وَالْمَعْنَى هُنَا عَلَى الْأَوَّلِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ وَأَبِي دَاوُدَ قَالَتْ: أَمُّ هَانِئٍ كُنْتُ أَسْمَعُ صَوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ وَأَنَا نَائِمَةٌ عَلَى فِرَاشِي يُرَجِّعُ الْقُرْآنَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ، وَأَنَا عَلَى عَرِيشِي، وَالْمُرَادُ بِهِ السَّرِيرُ الَّذِي يَنَامُ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ عَلَى مَا فِي الْمَوَاهِبِ عَنْهَا قَالَتْ: كُنَّا نَسْمَعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَأَنَا عَلَى عَرِيشِي.
(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، أَبُو دَاوُدَ أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ) بِضَمٍّ فَتَشْدِيدٍ (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ، وَقَدْ رَوَاهُ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا (يَقُولُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَاقَتِهِ) أَيْ: رَاكِبًا (يَوْمَ الْفَتْحِ) أَيْ: يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (وَهُوَ يَقْرَأُ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) وَهُوَ لَا يُنَافِي نُزُولَهَا عَامَ الْحُدَيْبِيَةَ؛ لِأَنَّ صُلْحَهَا كَانَ مُقَدِّمَةً، وَتَوْطِئَةً لِفَتْحِ مَكَّةَ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) أَيِ: التَّقْصِيرَاتِ السَّابِقَةِ، وَاللَّاحِقَةِ (قَالَ) أَيِ: ابْنُ مُغَفَّلٍ (فَقَرَأَ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَرَأَهُ، أَيِ: الْمِقْدَارَ الْمَذْكُورَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ كَمَا اقْتَضَتْهُ رِوَايَةُ قَرَأَ سُورَةَ الْفَتْحِ يَوْمَ الْفَتْحِ (وَرَجَّعَ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ مِنَ التَّرْجِيعِ بِمَعْنَى التَّحْسِينِ، وَإِشْبَاعَ الْمَدِّ فِي مَوْضِعِهِ، وَيُوَافِقُهُ حَدِيثُ «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» أَيْ: أَظْهِرُوا زِينَتَهُ وَحُسْنَهُ بِتَحْسِينِ آدَائِكُمْ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: لِكُلِّ شَيْءٍ حِلْيَةٌ وَحِلْيَةُ الْقُرْآنِ حُسْنُ الصَّوْتِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي حَدِيثَ زَيِّنُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْقُرْآنِ أَيْ: بِقِرَاءَتِهِ فَإِنَّ زِينَةَ الصَّوْتِ تَزِيدُ بِزِينَةِ الْمَقْرُوءِ، فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُصْرَفَ فِي كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ لَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْعَارِ وَالْغَنَاءِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَوْلِ بِالْقَلْبِ فِي الْكَلَامِ، وَوَرَدَ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ- أَيْ مَا اسْتَمَعَ لِشَيْءٍ- كَأَذَنِهِ بِالتَّحْرِيكِ- أَيْ: كَاسْتِمَاعِهِ- لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ، وَغَيْرُهُمَا وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ أَبَا مُوسَى يَقْرَأُ قَالَ: لَقَدْ أُوتِيَ هَذَا مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ أَيْ: دَاوُدَ نَفْسِهِ.
وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» عَلَى أَحَدِ مَعَانِيهِ، وَالْمَعْنَى مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهِ تَحْسِينِ الصَّوْتِ وَتَحْزِينِ الْقَلْبِ، وَتَنْشِيطِ الرُّوحِ، وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَّا أَيْ: مِنْ أَهْلِ مِلَّتِنَا تَهْدِيدًا أَوْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ سُنَّتِنَا وَطَرِيقَتِنَا تَأْكِيدًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ الْمَعْنَى مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِغَنَائِهِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِغِنَائِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} مَنْ أُعْطِيَ الْقُرْآنَ وَظَنَّ أَنَّهُ أُعْطِيَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْهُ فَقَدْ حَقَّرَ عَظِيمًا، وَعَظَّمَ حَقِيرًا.
هَذَا وَقَدْ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: التَّرْجِيعُ تَرْدِيدُ الْقِرَاءَةِ، وَمِنْهُ تَرْجِيعُ الْأَذَانِ وَقِيلَ هُوَ تَقَارُبُ ضُرُوبِ الْحَرَكَاتِ فِي الصَّوْتِ، وَقَدْ حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ بِتَرْجِيعِهِ بِمَدِّ الصَّوْتِ فِي الْقِرَاءَةِ نَحْوَ آ ا آ وَهَذَا إِنَّمَا حَصَلَ مِنْهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ يَوْمَ الْفَتْحِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا فَجَعَلَتِ النَّاقَةُ تَحَرِّكُهُ، وَتَهْتَزُّ بِهِ فَحَدَثَ التَّرْجِيعُ فِي صَوْتِهِ، وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يُرَجِّعُ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ رَاكِبًا، فَلَمْ يَحْدُثْ فِي قِرَاءَتِهِ التَّرْجِيعُ انْتَهَى. أَوْ كَانَ لَا يُرَجِّعُ قَصْدًا وَإِنَّمَا كَانَ يَحْصُلُ التَّرْجِيعُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ قَصْدًا، وَتَرَكَهُ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي لِبَيَانِ الْجَوَازِ.
وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ رَدًّا عَلَى ابْنِ الْأَثِيرِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِهَزِّ النَّاقَةِ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ يَحْكِيهِ وَيَفْعَلُهُ اخْتِيَارًا لِيَتَأَسَّى بِهِ فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ حِكَايَتُهُ وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَفِعْلِهِ اخْتِيَارًا لَيْسَ لِلتَّأَسِّي بَلْ لِلْعِلْمِ بِكَيْفِيَّتِهِ ثُمَّ قَوْلُهُ آ ا آ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ هَمْزَةٌ أُخْرَى عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِيرَكُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا ثَلَاثُ أَلِفَاتٍ مَمْدُودَاتٍ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَدَثَ بِهَزِّ النَّاقَةِ عَلَى مَا سَبَقَ أَوْ بِإِشْبَاعِ الْمَدِّ فِي مَوَاضِعِهِ، وَهُوَ بِسِيَاقِ الْحَدِيثِ أَوْفَقُ وَلِحَمْلِ فِعْلِهِ عَلَيْهِ أَحَقُّ (قَالَ) أَيْ: شُعْبَةُ (وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيَّ) أَيْ: لَوْلَا مَخَافَةُ الِاجْتِمَاعِ لَدَيَّ وَخَشْيَةُ إِنْكَارِ بَعْضِهِمْ عَلَيَّ (لَأَخَذْتُ) أَيْ: لَشَرَعْتُ (لَكُمْ فِي ذَلِكَ الصَّوْتِ) أَيْ: وَقَرَأْتُ مِثْلَ قِرَاءَتِهِ، قَالَ شَارِحٌ: مِنْ عُلَمَائِنَا: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ارْتِكَابَ أَمْرٍ يُوجِبُ اجْتِمَاعَ النَّاسِ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، نَعَمْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِأَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي تَرْكُهُ مَا يُخْشَى أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ اجْتِمَاعًا يُؤَدِّي إِلَى فِتْنَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، وَهُنَا كَذَلِكَ إِذْ رُبَّمَا يَتَزَاحَمُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَالنِّسَاءُ وَالْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ، وَرُبَّمَا يَقْتَدُونَ بِهِ بَعْضُ السُّفَهَاءِ أَوْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْجَهَلَةِ، فَيَقَعُونَ فِي الْمَعْصِيَةِ.
(أَوْ قَالَ) أَيْ: مُعَاوِيَةُ وَأَوْ لِلشَّكِ (اللَّحْنِ) بِالْجَرِّ أَيْ: بَدَلًا عَنِ الصَّوْتِ فَقِيلَ اللَّحْنُ بِمَعْنَى الصَّوْتِ، وَقِيلَ بِمَعْنَى النَّغَمِ، وَيُقَالُ لَحَنَ فِي قِرَاءَتِهِ إِذَا طَرِبَ، وَعَرَّبَ أَيْ: أَتَى بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفَصِيحَةِ، وَقِيلَ اللُّحُونُ وَالْأَلْحَانُ جَمْعُ لَحْنٍ، وَهُوَ التَّطْرِيبُ، وَتَرْجِيعُ الصَّوْتِ وَتَحْسِينُ الْقِرَاءَةِ وَالشِّعْرِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ: مَعْنَى التَّرْجِيعِ تَحْسِينُ التِّلَاوَةِ لَا تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بِتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ يُنَافِي الْخُشُوعَ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُ التِّلَاوَةِ فَكَانَ الْمَنْفِيُّ مِنَ التَّرْجِيعِ فِي الْحَدِيثِ الْآتِي تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ انْتَهَى. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَمَعَ لِقِرَاءَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَسْمَعُهُ لَحَبَّرْتُهُ تَحْبِيرًا، أَيْ: زِدْتُ فِي تَحْسِينِهِ بِصَوْتِي تَزْيِينًا، وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ السَّلَفِ عَلِمَ أَنَّهُمْ بَرِيئُونَ مِنَ التَّصَنُّعِ فِي الْقِرَاءَةِ بِالْأَلْحَانِ الْمُخْتَرَعَةِ دُونَ التَّطْرِيبِ، وَالتَّحْسِينِ الطَّبِيعِيِّ، فَالْحَقُّ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ طَبِيعَةً، وَسَجِيَّةً كَانَ مَحْمُودًا، وَإِنْ أَعَانَتْهُ طَبِيعَتُهُ عَلَى زِيَادَةِ تَحْسِينٍ وَتَزْيِينٍ لَتَأَثَّرَ التَّالِي وَالسَّامِعُ بِهِ، وَأَمَّا مَا فِيهِ تَكَلُّفٌ وَتَصَنُّعٌ بِتَعَلُّمِ أَصْوَاتِ الْغِنَاءِ، وَأَلْحَانٍ مَخْصُوصَةٍ فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي كَرِهَهَا السَّلَفُ وَالْأَتْقِيَاءُ مِنَ الْخَلَفِ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ قَيْسٍ الْحُدَّانِيُّ) نِسْبَةٌ إِلَى حُدَّانَ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَتَشْدِيدِ دَالٍ مُهْمَلَتَيْنِ قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَزْدِ (عَنْ حُسَامِ) بِضَمِّ أَوَّلِهِ (بْنِ مِصَكٍّ) بِكَسْرِ مِيمٍ فَفَتْحِ مُهْمَلَةٍ وَتَشْدِيدِ كَافٍ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، فَفِي الْمِيزَانِ قَالَ أَحْمَدُ: مَطْرُوحٌ وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: مَتْرُوكٌ، وَمِنْ مَنَاكِيرِهِ حَدِيثُ مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا حَسَنَ الصَّوْتِ.
(عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ وَكَانَ نَبِيُّكُمْ) زَادَ فِي نُسْخَةٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (حَسَنَ الْوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ) وَفِي رِوَايَةٍ لِلْمُصَنِّفِ، وَكَانَ نَبِيُّكُمْ أَحْسَنَهُمْ وَجْهًا، وَأَحْسَنَهُمْ صَوْتًا أَيْ: أَمْلَحَهُمْ وَأَفْصَحَهُمْ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ حَدِيثَ الْبَيْهَقِيِّ، وَغَيْرَهُ فِي الْمِعْرَاجِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ أَحْسَنُ مَا خَلْقَ اللَّهُ وَقَدْ فَضَلَ النَّاسَ بِالْحُسْنِ كَالْقَمَرِ فِي لَيْلَةِ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ مَا خَلَقَ اللَّهُ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّ هُنَا قَوْلًا لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ، وَحَمَلَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ رِوَايَةَ مُسْلِمٍ أَنَّهُ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ الَّذِي أُوتِيهِ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَكَانَ) أَيْ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا يُرَجِّعُ) أَيْ: بِتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ أَوْ عَنْ قَصْدٍ.
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا، وَفِي أُخْرَى حَدَّثَنَا (يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ فِي الْأَصْلِ، وَمُنْصَرِفٌ فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُسْنِ فَوَزْنُهُ فَعَّالٌ أَوْ مِنَ الْحَسَنِ فَوَزَنَهُ فَعْلَانُ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ) بِكَسْرِ زَايٍ فَنُونٍ (عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ) وَفِي نُسْخَةٍ كَانَتْ (قِرَاءَةُ النَّبِيِّ) وَفِي نُسْخَةٍ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّمَا يَسْمَعُهَا) وَفِي نُسْخَةٍ يَسْمَعُهُ، وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ مَا قَرَأَ (مَنْ فِي الْحُجْرَةِ) أَيْ: صَاحِبُ الْبَيْتِ (وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي الْبَيْتِ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْبَيْتِ هُوَ الْحُجْرَةُ نَفْسُهَا أَيْ: يُسْمِعُ مَنْ فِي الْحُجْرَةِ، وَهُوَ فِيهَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْأَزْهَارِ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْحُجْرَةُ أَخَصُّ مِنَ الْبَيْتِ انْتَهَى.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قِرَاءَتَهُ كَانَتْ مُتَوَسِّطَةً لَا فِي نِهَايَةِ الْجَهْرِ، وَلَا فِي غَايَةِ الْإِخْفَاءِ.

.باب مَا جَاءَ فِي بُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:


هُوَ بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ مَقْصُورًا خُرُوجُ الدَّمْعِ مَعَ الْحُزْنِ، وَمَمْدُودًا خُرُوجُهُ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ بَيْنِ الشُّرَّاحِ، وَأَطْلَقَ صَاحِبُ الْقَامُوسِ حَيْثُ قَالَ: بَكَى يَبْكِي بُكَاءً وَبُكًا (حَدَّثَنَا سُوِيدُ بْنُ نَصْرٍ) وَفِي نُسْخَةٍ ابْنُ النَّصْرِ (أَخْبَرَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ حَدَّثَنَا (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ مُطَرِّفٍ) بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ (وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ) بِكَسْرِ الشِّينِ، وَتَشْدِيدِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ (عَنْ أَبِيهِ) وَهُوَ صَحَابِيٌّ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ (قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ) وَفِي نُسْخَةٍ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ) بِالزَّائَيْنِ بَيْنَهُمَا تَحْتِيَّةٌ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ أَيْ: غَلَيَانٌ، وَقِيلَ صَوْتٌ وَفِي النِّهَايَةِ أَيْ: خَنِينٌ مِنَ الْخَوْفِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ صَوْتُ الْبُكَاءِ، وَقِيلَ هُوَ أَنْ يَجِيشَ جَوْفُهُ، وَيَغْلِيَ بِالْبُكَاءِ (كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْجِيمِ الْقِدْرُ مِنْ نُحَاسٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَوِ الْقِدْرُ مُطْلَقًا كَمَا اخْتَارَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ.
(مِنَ الْبُكَاءِ) أَيْ: مِنْ أَجْلِهِ أَوْ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ خَوْفِهِ، وَخَشْيَتِهِ وَخُضُوعِهِ فِي عُبُودِيَّتِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً، رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ: وَالَّذِي نَفْسِ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ.
فَجَمَعَ لَهُ تَعَالَى بَيْنَ عِلْمِ الْيَقِينِ، وَعَيْنِ الْيَقِينِ بَلْ جَمَعَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ حَقَّ الْيَقِينِ.
وَالْخَشْيَةُ أَخَصُّ مِنَ الْخَوْفِ إِذْ هِيَ خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِتَعْظِيمِ شَيْءٍ عَنْ مَعْرِفَةٍ كَامِلَةٍ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ إِنَّمَا يُعَظِّمُ اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى طَرِيقِ التَّجْرِيدِ.
(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ) بِفَتْحِ عَيْنٍ فَكَسْرِ مُوَحَّدَةٍ (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ: قَالَ) أَيْ: لِي كَمَا فِي نُسْخَةٍ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ) أَيْ: وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ لَكِنْ قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَعْمَشِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ الظَّفَرِيِّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَهُوَ فِي بَنِي ظَفَرٍ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي بَنِي ظَفَرٍ، وَمَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَمَرَ قَارِئًا فَقَرَأَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} فَبَكَى حَتَّى ضَرَبَ لَحْيَاهُ، وَوَجْنَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ هَذَا شَهِدْتُ عَلَى مَنْ يَأْتِي بَيْنَ ظَهْرَانَيْ فَكَيْفَ لِمَنْ لَمْ أَرَهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ إِلَّا يُعْرَضُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً فَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَأَعْمَالِهِمْ فَلِذَلِكَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ، فَفِي هَذَا الْمُرْسَلِ مَا يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ الَّذِي تَضَمَّنَ حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ انْتَهَى.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا قَضِيَّتَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْقَارِئَ فِي بَنِي ظَفَرٍ أَيْضًا هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ لِكَوْنِهِ مَوْجُودًا فِيهِمْ لَكِنَّهُ خِلَافَ الْمُتَبَادَرِ مِنَ التَّنْكِيرِ فِي قَوْلِهِ فَأَمَرَ قَارِئًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ) أَيْ: وَأَقْرَأُ (عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ) أَيِ: الْقُرْآنُ مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ كَرِيمٍ (قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي) أَيْ: كَمَا أُحِبُّ أَنْ أُسْمِعَهُ غَيْرِي، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ سَمَاعَ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِهِ لِيَكُونَ عَرْضُ الْقُرْآنِ سُنَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِكَيْ يَتَدَبَّرَهُ، وَيَفْهَمَهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ أَقْوَى عَلَى التَّدَبُّرِ، وَأَنْشَطُ عَلَى التَّفَكُّرِ مِنَ الْقَارِئِ لِذَلِكَ لِاشْتِغَالِهِ بِالْقُرْآنِ (فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ) أَيْ: أَنَا وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَيْ: عَلَى أُمَّتِكَ أَوْ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ شَهِيدًا أَيْ: مُزَكِّيًا أَوْ مُثْنِيًا أَوْ شَاهِدًا وَحَاضِرًا (قَالَ) أَيِ: ابْنُ مَسْعُودٍ (فَرَأَيْتُ عَيْنَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَهْمِلَانِ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا أَيْ: تَسِيلَانِ دُمُوعًا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَتَّى أَتَيْتُ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قَالَ: حَسْبُكَ الْآنَ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
وَذَرَفَتِ الْعَيْنُ سَالَ دَمْعُهَا مِنْ حَدِّ ضَرَبَ، قَالَ الْمُظْهِرُ: مَعْنَى الْآيَةِ كَيْفَ حَالُ النَّاسِ فِي يَوْمٍ تَحْضُرُ أُمَّةُ كُلِّ نَبِيٍّ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ شَهِيدًا بِمَا فَعَلُوا مِنْ قَبُولِهِمُ النَّبِيَّ أَوْ رَدِّهِمْ إِيَّاهُ، وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِكَ وَبِأُمَّتِكَ انْتَهَى.
وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ عِنْدَ ذَوِي النُّهَى، قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: إِنَّمَا بَكَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مَثَّلَ لِنَفْسِهِ أَهْوَالَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَشِدَّةِ الْحَالِ الدَّاعِيَةِ إِلَى شَهَادَتِهِ لِأُمَّتِهِ بِالتَّصْدِيقِ، وَسُؤَالِهِ الشَّفَاعَةَ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ، وَهُوَ أَمْرٌ يَحِقُّ لَهُ طُولُ الْبُكَاءِ انْتَهَى.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ بَكَى رَحْمَةً لِأُمَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ بِعَمَلِهِمْ، وَعَمَلُهُمْ قَدْ لَا يَكُونُ مُسْتَقِيمًا فَقَدْ يُفْضِي إِلَى تَعْذِيبِهِمْ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَمَا قَالَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَظْهَرُ مَعَ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْحَنَفِيُّ مِنْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بُكَاؤُهُ لِلسُّرُورِ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِأَنَّكَ شَاهِدٌ عَلَيْهِمْ فَكَلَامٌ مَرْدُودٌ لَا يَقْبَلُهُ الذَّوْقُ السَّلِيمُ عَلَى مَا قَالَهُ مِيرَكُ شَاهْ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَبَعًا لِلْحَنَفِيِّ يُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ الْقِرَاءَةِ فِي مَجْلِسِ الْوَعْظِ وَالْوَاعِظِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَحِلُّ اسْتِمَاعِ الْعَالِي لِقِرَاءَةِ السَّافِلِ فَبَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ لِابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَثْنَاءِ الْوَعْظِ، وَالنَّصِيحَةِ لِلصَّحَابَةِ، وَمُجَرَّدُ الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوَعْظِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى كَمَا أَفَادَهُ مِيرَكُ شَاهْ، نَعَمْ فِيهِ جَوَازُ أَمْرِ السَّامِعِ لِلْقَارِئِ بِقَطْعِ الْقِرَاءَةِ إِذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ.
(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) أَيِ: ابْنِ الْعَاصِ (قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ) أَيْ: ذَهَبَ نُورُ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، يُقَالُ كَسَفَتْ بِفَتْحِ الْكَافِ وَانْكَسَفَتْ بِمَعْنَى وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ انْكَسَفَ، وَكَذَا الْجَوْهَرِيُّ حَيْثُ نَسَبَهُ إِلَى الْعَامَّةِ، وَالْحَدِيثُ يُرَدُّ عَلَيْهِمَا، وَحَكَى كُسِفَتْ بِضَمِّ الْكَافِ، وَهُوَ نَادِرٌ، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يُقَالُ كَسَفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا، وَانْكَسَفَا وَخَسَفَا بِفَتْحِ الْخَاءِ وَضَمِّهَا وَانْخَسَفَا، وَالْكُلُّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقِيلَ كَسَفَتِ الشَّمْسُ بِالْكَافِ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ بِالْخَاءِ ثُمَّ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا يَكُونَانِ لِذَهَابِ ضَوْئِهِمَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِذَهَابِ بَعْضِهِ أَيْضًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْخُسُوفُ فِي الْجَمْعِ، وَالْكُسُوفُ فِي الْبَعْضِ وَقِيلَ الْخُسُوفُ ذَهَابُ اللَّوْنِ، وَالْكُسُوفُ التَّغَيُّرُ، وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: الْمَشْهُورُ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكُسُوفَ لِلشَّمْسِ وَالْخُسُوفَ لِلْقَمَرِ، وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّهُ أَفْصَحُ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنْ بَعْضِهِمْ عَكْسَهُ، وَغُلِّطَ لِثُبُوتِهِ بِالْخَاءِ لِلْقَمَرِ فِي الْقُرْآنِ، وَقِيلَ يُقَالُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَبِهِ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ، وَقِيلَ بِالْكَافِ فِي الِابْتِدَاءِ، وَبِالْخَاءِ فِي الِانْتِهَاءِ (يَوْمًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَهُوَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَلَدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِ كَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ وَلَدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّاسُ: كَسَفَتِ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي حَتَّى لَمْ يَكَدْ) أَيْ: لَمْ يَقْرُبْ (يَرْكَعُ) بِلَا لَفْظَةِ (أَنْ) وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ؛ فَإِنَّهُ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَرَأَ قَدْرَ الْبَقَرَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأَوْلَى (ثُمَّ رَكَعَ فَلَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ) كَذَلِكَ بِدُونِ أَنْ بِخِلَافِ الْبَاقِي مِمَّا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ (ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَسْجُدَ ثُمَّ سَجَدَ)، وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ ثُمَّ رَفَعَ فَأَطَالَ ثُمَّ سَجَدَ (فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَسْجُدَ) وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ خُزَيْمَةَ مِنْ طَرِيقِ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، وَالثَّوْرِيُّ سُمِعَ مِنْهُ قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ، فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَلَمْ أَقِفْ فِي شَيْءٍ مِنَ الطُّرُقِ عَلَى تَطْوِيلِ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ إِلَّا فِي هَذَا، وَقَدْ نَقَلَ الْغَزَّالِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَى تَرْكِ إِطَالَتِهِ، فَإِنْ أَرَادَ الِاتِّفَاقَ الْمَذْهَبِيَّ فَلَا كَلَامَ، وَإِلَّا فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ (ثُمَّ سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ فَجَعَلَ يَنْفُخُ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ فَمِهِ حَرْفَانِ (وَيَبْكِي) قَالَ مِيرَكُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ خُزَيْمَةَ وَابْنِ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظِ: وَجَعَلَ يَنْفُخُ فِي الْأَرْضِ وَيَبْكِي وَهُوَ سَاجِدٌ وَذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (وَيَقُولُ رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ) أَيْ: بِقَوْلِكَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الْآيَةَ (رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أَيْ: بِقَوْلِكَ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ) فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَحْقِيقِ الْمَوْعُودِينَ مَعَ زِيَادَةٍ وَهِيَ اسْتِغْفَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ وَذَكَرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكُسُوفَ رُبَّمَا دَلَّ عَلَى وُقُوعِ عَذَابٍ فَخَشِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُقُوعِهِ وَعُمُومِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ رَوَى الْبُخَارِيُّ فَقَامَ فَزِعًا يَخْشَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.
وَفِيهِ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ مِنْ ذِكْرِ وَعْدِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مَقَامِ طَلَبِ دَفْعِ الْبَلَاءِ، وَكَأَنَّ فَائِدَةَ الدُّعَاءِ بِعَدَمِ تَعْذِيبِهِمْ مَعَ الْوَعْدِ بِهِ الَّذِي لَا يُخْلَفُ تَجْوِيزُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَعْدَ مَنُوطٌ بِشَرْطٍ أَوْ قَيْدٍ اخْتَلَّ (فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ) أَيِ: انْكَشَفَتْ وَرَوَى النَّسَائِيُّ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ كَمَا يُصَلُّونَ وَرَوَى المص كَمَا تَرَى أَنَّهُ رَكَعَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعًا.
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ رَكْعَتَيْنِ مِثْلَ صِلَاتِكُمْ.
وَبِهَذَا أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا مَا قَالَ جَمْعٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ فِي كُسُوفِ الْقَمَرِ فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَتَأْوِيلُ صَلَّى بِأَمْرٍ بَاطِلٍ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْقَيِّمِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً فَيَرُدُّهُ قَوْلُ ابْنُ حِبَّانَ فِي سِيرَتِهِ أَنَّهُ خُسِفَ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ فَصَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ فَكَانَتْ أَوَّلَ صَلَاةِ كُسُوفٍ فِي الْإِسْلَامِ، وَجَزَمَ بِهِ مُغَلْطَايُ: وَالزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ إِنَّ مُرَادَ ابْنِ الْقَيِّمِ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ نَقْلًا صَحِيحًا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ فِي سِيرَتِهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِيهِ جَمَاعَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ رَكَعَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَيْنِ، وَفِي بَعْضِهَا ثَلَاثًا، وَفِي بَعْضِهَا أَرْبَعًا، وَفِي بَعْضِهَا سِتًّا فَحَمَلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ جَائِزٌ، وَقَوَّاهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ أَنَّ صِحَّةَ تَعَدُّدِ الْكُسُوفِ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ ثَابِتٍ لَا بِمُجَرَّدِ جَمْعِ الرِّوَايَاتِ يُقَالُ بِالتَّعَدُّدِ خُصُوصًا أَنَّهُ نَقَلَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّهَا بِالْمَدِينَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الزِّيَادَةَ عَلَى الرُّكُوعَيْنِ غَلَطًا مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ طُرُقِ الْحَدِيثِ يُمْكِنُ رَدُّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَيَجْمَعُهَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، وَإِذَا اتَّحَدَتِ الْقَضِيَّةُ بَطَلَتْ دَعْوَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ رِوَايَةِ الثَّلَاثِ وَمَا فَوْقَهَا لَا تَخْلُو عَنْ عِلَّةٍ.
وَأَمَّا تَعَيُّنِ الْأَخْذِ بِالرَّاجِحِ، وَهُوَ رُكُوعَانِ عَلَى مَا ذَكَرُهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ فَمَحَلُّ بَحْثٍ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالرُّكُوعَيْنِ يَنْبَغِي الْحَمْلُ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ صِلَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ سَاقِطَةٌ لِاعْتِبَارِهَا مَحْمُولَةً عَلَى وَهْمِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَلِذَا قَالَ الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا: إِنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَطَالَ الرُّكُوعَ رَفَعَ بَعْضُ الصُّفُوفِ رُءُوسَهُمْ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فَرَفَعَ مَنْ خَلْفَهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِعًا رَكَعُوا فَرَكَعَ مَنْ خَلْفَهُمْ فَمَنْ كَانَ خَلْفَ خَلْفِهِمْ ظَنَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَكْثَرَ مِنْ رُكُوعٍ فَرَوَى عَلَى حَسَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الِاشْتِبَاهِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّهَا بِالْمَدِينَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ، وَأَرْبَابِ السِّيَرِ عَلَى خِلَافٍ فِي تَعْيِينِ سَنَةِ مَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَجُمْهُورُ أَهْلِ السِّيرَةِ عَلَى أَنَّهُ مَاتَ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ فَقِيلَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ فِي رَمَضَانَ، وَقِيلَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَلَمْ يَصِحَّ الْأَخِيرُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَدْ شُهِدَ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِالْمَدِينَةِ اتِّفَاقًا، وَقِيلَ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ الْحُدَيْبِيَةِ.
(فَقَامَ) أَيْ: فِي مَحَلِّهِ أَوْ عَلَى الْمِنْبَرِ (فَحَمِدَ اللَّهَ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِنَا مِنْ تَعْيِينِ لَفْظِ ح م د فِي الْخُطْبَةِ انْتَهَى وَفِي اسْتِدْلَالِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ أَوِ الْمَعْنَى شَكَرَهُ عَلَى إِنْعَامَاتِهِ، وَأَثْنَى عَلَى ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَزَادَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ، وَشَهِدَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ) أَيِ: الدَّالَّانِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} الْآيَةَ أَيْ: عَلَامَتَيْنِ تَدُلَّانِ عَلَى الْقَادِرِ الْحَكِيمِ بِتَعَاقُبِهِمَا عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ مَعَ إِمْكَانِ غَيْرِهِ أَوْ عَلَى تَخْوِيفِ الْعِبَادِ مِنْ بَأْسِهِ، وَسَطْوَتِهِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} وَزَادَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ»، قَالَ مِيرَكُ: وَقَعَ فِي الرِّوَايَاتِ الْأُخَرِ الْمُخْرَجَةِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ زِيَادَةٌ بَعْدَ قَوْلِهِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَهِيَ (لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ) وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ أَيْضًا بَيَانُ سَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ وَلَفْظُهَا، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ مَاتَ فَقِيلَ إِنَّمَا كَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ فَزِعًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى حَتَّى انْجَلَتْ فَلَمَّا انْجَلَتْ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ إِلَّا لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنَ الْعُظَمَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلَى آخِرِهِ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ.
(فَإِنِ انْكَسَفَا) فِيهِ تَغْلِيبُ الْقَمَرِ فِي التَّذْكِيرِ، وَتَغْلِيبُ الشَّمْسِ فِي الْفِعْلِ عَلَى الشَّهِيرِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَإِذَا انْكَسَفَا (فَافْزَعُوا) بِفَتْحِ الزَّايِ أَيْ: خَافُوا وَتَضَرَّعُوا، وَالْتَجِئُوا وَبَادِرُوا، وَتَوَجَّهُوا (إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى) وَالْأَمْرُ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا وَادْعُوا فَسُمِّيَتِ الصَّلَاةُ ذِكْرًا لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ، وَمَدَارِهَا إِلَيْهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ: إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَاتُ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا وَتَذَكَّرُوا الْخَوْفَ.
وَفِي أَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّلَاةِ فَقَطْ دُونَ الْخُطْبَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً، وَلَوْ كَانَتْ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا أَبْحَاثًا مِنْهَا مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّ حَدِيثَ الْبَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ قِيَامًا وَاحِدًا خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ.
قُلْتُ دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَإِنْكَارُهُ مُكَابَرَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ، قُلْتُ: قَدْ رَدَّهُ ابْنُ الْهُمَامِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِهِ، فَإِنَّا نُجَوِّزُ قِيَامًا وَقِيَامَيْنِ، فَلَمْ نُخَالِفِ السُّنَّةَ بِخِلَافِ مَنْ أَنْكَرَ تَعَدُّدَ الْقِيَامِ؛ فَإِنَّهُ خَالَفَ السُّنَّةَ الصَّرِيحَةَ بِلَا مُسْتَنَدٍ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ لَمْ يَبْلُغْهُ ذَلِكَ، قُلْتُ: قَدْ بَلَغَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ مَعَ تَأْوِيلِهِ، وَأَجَابُوا بِالْمُعَارَضَةِ، وَمُسْتَنَدُهُمُ الرِّوَايَاتُ الْمُصَرِّحَةُ بِأَنَّهُ كَانَ قِيَامًا وَاحِدًا مَعَ أَنَّ تَجْوِيزَ الْقِيَامِ وَالْقِيَامَيْنِ إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ صَحَّ تَعَدُّدُ الْوَاقِعَةِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْهَيْئَةِ زَعَمُوا أَنَّ الْكُسُوفَ أَمْرٌ عَادِيٌّ لَا يَتَقَدَّمُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ وَرُدَّ قَوْلُهُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِالْحِسَابِ لَمْ يَقَعْ فَزَعٌ، وَلَا أُمِرْنَا بِنَحْوِ الْعِتْقِ، وَالصَّلَاةِ كَمَا فِي خَبَرِ الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَافْزَعُوا، وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا»، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْدَفِعُ بِهِ مَا يُخْشَى مِنْ أَثَرِ الْكُسُوفِ الْمُوجِبِ لِلْفَزَعِ، وَبِمَا صَحَّ مِنْ خَبَرِ إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَا لِحَيَاتِهِ وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا تَجَلَّى لِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ خَشَعَ لَهُ.
فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ سَبَبَ الْكُسُوفِ خُشُوعُهُمَا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ أَنَّ النُّورَ مِنْ عَالَمِ الْجَمَالِ الْحِسِّيِّ، فَإِذَا تَجَلَّتْ صِفَةُ الْجَلَالِ انْطَمَسَتِ الْأَنْوَارُ لِهَيْبَتِهِ، وَظُهُورِ عَظَمَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّةَ قَالَ طَاوُسٌ: لَمَّا نَظَرَ لِلشَّمْسِ، وَهِيَ كَاسِفَةٌ فَبَكَى حَتَّى كَادَ أَنْ يَمُوتَ، وَقَالَ هِيَ أَخْوَفُ لِلَّهِ مِنَّا.
وَبِمَا تَقَرَّرَ مِنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَظُهُورِ مَعْنَاهُ انْدَفَعَ قَوْلُ الْغَزَّالِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فَيَجِبُ تَكْذِيبُ نَاقِلِهِ، وَلَوْ صَحَّ كَانَ تَأْوِيلُهُ سَهُلَ مِنْ مُكَابَرَةِ أُمُورٍ قَطْعِيَّةٍ لَا تُصَادَمُ مِنْ أَصْلِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ انْتَهَى.
لَكِنْ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ مَا قَالُوا: فَإِنَّ لِلَّهِ أَفْعَالًا عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ وَاقِعَةٌ لَا خَارِجَةٌ عَنْهَا وَقُدْرَتُهُ حَاكِمَةٌ عَلَى كُلِّ سَبَبٍ يَقْطَعُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ، وَحِينَئِذٍ فَالْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ لِقُوَّةِ اعْتِقَادِهِمْ فِي عُمُومِ قُدْرَتِهِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ، وَأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ غَرِيبٌ حَدَثَ عِنْدَهُمُ الْخَوْفُ لِقُوَّةِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنَّ ثَمَّةَ أَسْبَابًا تَجْرِي عَلَيْهَا بِالْعَادَةِ إِلَى أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ خَرْقَهَا.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِنْ كَانَ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُنَافِي كَوْنُ ذَلِكَ تَخْوِيفًا لِعِبَادِهِ، هَذَا وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إِبْطَالُ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ تَأْثِيرِ الْكَوَاكِبِ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا».
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْكُسُوفَ يُوجِبُ حُدُوثَ تَغَيُّرٍ فِي الْأَرْضِ مَوْتًا أَوْ ضَرَرًا فَأَعْلَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ، وَأَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ خَلْقَانِ مُسَخَّرَانِ لِلَّهِ لَيْسَ لَهُمَا سُلْطَانٌ فِي غَيْرِهِمَا، وَلَا قُدْرَةٌ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا.
وَفِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى أُمَّتِهِ وَشَدَّةِ الْخَوْفِ مِنْ رَبِّهِ.
(حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أَيِ: الثَّوْرِيُّ ذَكَرَهُ مِيرَكُ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَةً لَهُ تَقْضِي) بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ أَيْ: تُرِيدُ أَنْ تَمُوتَ مِنَ الْقَضَاءِ بِمَعْنَى الْمَوْتِ، وَقِيلَ أَصْلُ قَضَى مَاتَ فَاسْتِعْمَالُهُ هُنَا لِلْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ مَجَازٌ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقَضَاءُ مَرْجِعُهُ إِلَى انْقِطَاعِ الشَّيْءِ وَتَمَامِهِ (فَاحْتَضَنَهَا) أَيْ: جَعَلَهَا فِي حِضْنِهِ بِالْكَسْرِ أَيْ: جَنْبِهِ، وَهُوَ مَا دُونَ الْإِبِطِ إِلَى الْكَشْحِ، وَبِهِ سُمِّيَتِ الْحَاضِنَةُ، وَهِيَ الَّتِي تُرَبِّي الطِّفْلَ، لِأَنَّ الْمُرَبِّيَ وَالْكَافِلَ يَضُمُّ الطِّفْلَ إِلَى حِضْنِهِ، وَالْحَضَانَةُ بِالْفَتْحِ فِعْلُهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فَوَضَعَهَا) أَيْ: بَعْدَ سَاعَةٍ (بَيْنَ يَدَيْهِ فَمَاتَتْ وَهِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَصَاحَتْ) مِنَ الصَّيْحَةِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ فَصَاحَتْ (أُمُّ أَيْمَنَ) وَهِيَ حَاضِنَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْلَاتُهُ وَرِثَهَا مِنْ أَبِيهِ وَأَعْتَقَهَا حِينَ تَزَوَّجَ خَدِيجَةَ، وَزَوَّجَهَا لِزَيْدٍ مَوْلَاهُ فَوَلَدَتْ لَهُ أُسَامَةَ، وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَ عُمَرَ بِعِشْرِينَ يَوْمًا، وَقَدْ شَهِدَتْ أُحُدًا وَكَانَتْ تَسْقِي الْمَاءَ، وَتُدَاوِي الْجَرْحَى، وَشَهِدَتْ خَيْبَرَ وَتَفْصِيلُ تَرْجَمَتِهَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ بُكَاؤُهَا بِصِيَاحِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ مَعَ إِشْعَارِهِ بِالْجَزَعِ حَرَامًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَنْكَرَ عَلَيْهَا (فَقَالَ: يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنَ التَّابِعِيِّ، وَالضَّمِيرُ فِي يَعْنِي رَاجِعٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ (أَتَبْكِينَ) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَعَدَلَ إِلَيْهِ عَنْ عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ (فَقَالَتْ) أَيْ: أُمُّ أَيْمَنَ ظَنًّا بِأَنَّ مُطْلَقَ الْبُكَاءِ جَائِزٌ (أَلَسْتُ أَرَاكَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ: أُبْصِرُكَ وَأُشَاهِدُكَ (تَبْكِي) حَالٌ (قَالَ: إِنِّي لَسْتُ أَبْكِي) أَيْ: بُكَاءً عَلَى سَبِيلِ الْجَزَعِ، وَعَدَمِ الصَّبْرِ، وَلَا يَصْدُرُ عَنِّي مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْوَيْلِ، وَالثُّبُورِ وَالصِّيَاحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ (إِنَّمَا هِيَ) أَيِ: الْبُكَاءُ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الدَّمْعَةِ أَوْ قَطْرَةِ الدَّمْعِ أَوِ الْخَبَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (رَحْمَةً) أَيْ: أَثَرُهَا وَزَادَ فِي الصَّحِيحَيْنِ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءِ.
وَلَا يُنَافِي هَذَا قَوْلَ عَائِشَةَ مَا بَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَيِّتٍ قَطُّ، وَإِنَّمَا غَايَةُ حُزْنِهِ أَنْ يُمْسِكَ لِحْيَتَهُ لِأَنَّ مُرَادَهَا مَا بَكَى عَلَى مَيِّتٍ أَسَفًا عَلَيْهِ بَلْ رَحْمَةً لَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي الرَّبَّ، وَإِنَّا عَلَى فِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ (إِنَّ الْمُؤْمِنَ) أَيِ: الْكَامِلَ (بِكُلِّ خَيْرٍ) الْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ (عَلَى كُلِّ حَالٍ)؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ الْمِحْنَةَ عَيْنَ الْمِحْنَةِ، فَيَحْمَدُ عَلَى الْمِنَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ (إِنَّ نَفْسَهُ) أَيْ: رُوحَهُ (تُنْزَعُ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ: تُقْبَضُ (مِنْ بَيْنِ جَنْبَيْهِ وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ (يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى)؛ فَإِنَّهُ مَشْغُولٌ حِينَئِذٍ بِالْحَقِّ، وَعِبَادَتِهِ بِالرِّضَاءِ عَلَى قَضَائِهِ، وَإِرَادَتِهِ وَالْمَعْنَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْكَامِلُ مُلَابِسًا بِكُلِّ خَيْرٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ حَتَّى إِنَّهُ فِي نَزْعِ رُوحِهِ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى، وَيَرَاهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ رَحْمَةً لَهُ، وَكَرَامَةً وَخَيْرًا لَهُ مِنْ حَيَاتِهِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ تُحْفَةُ الْمُؤْمِنِ وَهَدِيَّةُ الْمُوقِنِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةَ النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمَّا حُضِرَتْ بِنْتٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَغِيرَةٌ أَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَمَّهَا إِلَى صَدْرِهِ ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَقُبِضَتْ وَهِيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَكَتْ أُمُّ أَيْمَنَ، الْحَدِيثَ.
قَالَ مِيرَكُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يَخْلُو عَنْ إِشْكَالٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ ابْنَةٌ لَهُ، وَبِنْتٌ لَهُ صَغِيرَةٌ إِمَّا بِنْتُهُ حَقِيقَةً كَمَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، فَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ أَرْبَابَ السِّيَرِ، وَالْحَدِيثِ وَالتَّوَارِيخِ أَطْبَقُوا عَلَى أَنَّ بَنَاتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُنَّ مُتْنَ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ إِحْدَى بَنَاتِهِ، وَيَكُونُ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ مَجَازِيَّةً، فَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ ابْنَةَ إِحْدَى بَنَاتِهِ مَاتَتْ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ إِلَّا مَا وَقَعَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَامَةَ بِنْتِ أَبِي الْعَاصِ مِنْ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ فِي النَّزْعِ لَكِنَّهُ أُشْكِلَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أُمَامَةَ عَاشَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَزَوَّجَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بَعْدَ وَفَاةِ فَاطِمَةَ ثُمَّ عَاشَتْ عِنْدَ عَلِيٍّ حَتَّى قُتِلَ عَنْهَا، وَلِذَا حَمَلُوا رِوَايَةَ أَحْمَدَ أَنَّهَا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ ثُمَّ عَافَاهَا اللَّهُ تَعَالَى بِبَرَكَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ وَقَعَ وَهْمٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِمَّا فِي قَوْلِهِ تَقْضِي وَقَوْلِهِ، وَهُوَ يَمُوتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالصَّوَابُ ابْنُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَحَدُ بَنِيهِ إِمَّا الْقَاسِمُ، وَإِمَّا عَبْدُ اللَّهِ وَإِمَّا إِبْرَاهِيمُ؛ فَإِنَّهُمْ مَاتُوا صِغَارًا فِي حَيَاتِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ابْنَ بَعْضِ بَنَاتِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فَفِي الْأَسْبَابِ الْمِيلَادِيِّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُثْمَانَ مِنْ رُقَيَّةَ بِنْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ فِي حِجْرِهِ فَبَكَى، وَقَالَ: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ».
وَفِي مُسْنَدِ الْبَزَّارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ثَقُلَ ابْنٌ لِفَاطِمَةَ فَبُعِثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ مُرَاجَعَةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي الْبُكَاءِ، وَالِابْنُ الْمَذْكُورُ هُوَ مُحْسِنُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ أَنَّهُ مَاتَ صَغِيرًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا غَايَةُ التَّحَقُّقِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِهَذَا، وَهُوَ الْهَادِي إِلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أَيِ: الثَّوْرِيُّ (عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ) بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: وَجْهَهُ أَوْ بَيْنَ عَيْنَيْهِ (وَهُوَ مَيِّتٌ) وَهُوَ أَخُوهُ رَضَاعًا قُرَشِيٌّ أَسْلَمَ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَهَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ حَرَّمَ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مَاتَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ فِي شَعْبَانَ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَلَمَّا دُفِنَ قَالَ نِعْمَ السَّلَفُ هُوَ لَنَا وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ كَانَ عَابِدًا مُجْتَهِدًا مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ (وَهُوَ) أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (يَبْكِي) أَيْ: حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ عُثْمَانَ عَلَى مَا فِي الْمُشْكَلَةِ قَالَ مِيرَكُ: وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَهُوَ مَيِّتٌ قَالَتْ: فَرَأَيْتُ دُمُوعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسِيلُ عَلَى خَدِّ عُثْمَانَ.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي النَّضْرِ قَالَ: لَمَّا مُرَّ بِجِنَازَةِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبْتَ وَلَمْ تَلْبَسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ يَعْنِي مِنَ الدُّنْيَا، وَهَذَا مُرْسَلٌ لَكِنْ لَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ ابْنِ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ الْوَفَاءِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ كَشَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ثُمَّ بَكَى طَوِيلًا فَلَمَّا رُفِعَ عَنِ السَّرِيرِ قَالَ: طُوبَى لَكَ يَا عُثْمَانُ لَمْ تَلْبَسْكَ الدُّنْيَا، وَلَمْ تَلْبَسْهَا (أَوْ قَالَ) أَيِ: الرَّاوِي كَمَا قَالَهُ الْكَاشَانِيُّ وَهُوَ شَكٌّ مِنْ أَحَدِ الرُّوَاةِ (عَيْنَاهُ) وَفِي نُسْخَةٍ، وَعَيْنَاهُ (تُهْرَاقَانِ) بِضَمِّ التَّاءِ، وَفَتْحِ الْهَاءِ، وَسُكُونِهَا أَيْضًا، وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِ الْأَلِفِ تَصُبَّانِ الدَّمْعَ أَوْ تَصُبَّانِ دُمُوعَهُمَا قَالَ الْعِصَامُ: فِيهِ لُغَتَانِ فَتْحُ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهَا عِوَضٌ عَنِ الْهَمْزَةِ، وَحِينَئِذٍ مَاضِيهِ هَرَاقَ، وَسُكُونُ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهَا زِيدَتْ، وَالْمَاضِي أَهْرَاقَ رِوَايَةُ الْكِتَابِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَالتَّرْكِيبُ مِنْ قَبِيلِ جَرَى النَّهْرُ انْتَهَى.
وَفِي التَّاجِ لِلْبَيْهَقِيِّ الْإِرَاقَةُ صَبُّ الْمَائِعِ، وَالْمَاضِي أَرَاقَ وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى هَرَاقَ الْمَاءَ يُهَرِيقُهُ بِفَتْحِ الْهَاءِ هِرَاقَةً، وَالشَّيْءُ مُهَرَاقٌ بِالتَّحْرِيكِ، وَالْهَاءُ عَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ بَدَلٌ عَنِ الْهَمْزَةِ وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ أَهْرَقَ الْمَاءَ يَهْرَقُ إِهْرَاقًا عَلَى أَفْعَلَ يَفْعَلُ إِفْعَالًا لُغَةٌ وَلُغَةٌ أُخْرَى أَهْرَاقَ يُهْرِيقُ إِهْرَاقَةً فَهُوَ مُهْرِيقٌ وَمِهْرَاقٌ، وَالْهَاءُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ زِيدَتْ عِوَضًا مِنْ ذَهَابِ الْحَرَكَةِ مِنْ نَفْسِ الْعَيْنِ لَا مِنْ ذَهَابِهَا أَصْلًا، لِأَنَّ أَصْلَ أَرَاقَ أَرْوَقَ أَوْ أُرِيقَ فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا نَقَلُوا الْحَرَكَةَ مِنَ الْعَيْنِ فَحَرَّكُوا بِهَا الْفَاءَ السَّاكِنَةَ، وَقَلَبُوا الْعَيْنَ أَلِفًا، فَلَحِقَ الْكَلِمَةَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ التَّغْيِيرِ جَعَلُوا هَذِهِ الْهَاءَ عِوَضًا مِنَ الْوَهَنِ الَّذِي لَحِقَهَا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي اسْطَاعَ لُغَةٌ فِي أَطَاعَ يُطِيعُ فَاعْرِفْهُ، وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: الْهَاءُ فِي هَرَاقَ بَدَلٌ مِنْ هَمْزَةِ أَرَاقَ، وَيُقَالُ أَهْرَاقُهُ إِهْرَاقًا فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْبَدَلِ، وَالْمُبْدَلِ.
(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنْبَأَنَا) وَفِي نُسْخَةٍ أَخْبَرَنَا (أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ) بِضَمِّ فَاءٍ، وَفَتْحِ لَامٍ، وَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ فَمُهْمَلَةٍ (وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: شَهِدْنَا) أَيْ: حَضَرْنَا (ابْنَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وَهِيَ أُمُّ كُلْثُومٍ زَوْجَةُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ كَمَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ عَنْ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ أُمِّ كُلْثُومٍ، وَوَهِمَ مَنْ قَالَ إِنَّهَا رُقَيَّةُ؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ، وَلَمْ يَشْهَدْهَا (وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ) أَيْ: عَلَى طَرَفِهِ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، وَأَغْرَبَ شَارِحٌ حَيْثُ قَالَ: وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْجُلُوسِ عَلَى الْقَبْرِ (فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ) أَيْ: يَسِيلُ دَمْعُهُمَا (فَقَالَ: أَفِيكُمُ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ) أَيِ: الْبَارِحَةَ.
فِي جَامِعِ الْأُصُولِ لَمْ يُقَارِفْ أَيْ: لَمْ يُذْنِبْ ذَنْبًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْجِمَاعُ فَكَنَّى عَنْهُ، وَقِيلَ هُوَ الْمَعْنِيُّ فِي الْحَدِيثِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي النِّهَايَةِ قَارَفَ الذَّنْبَ إِذَا دَانَاهُ، وَقَارَفَ امْرَأَتَهُ إِذَا جَاءَهَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ فِي دَفْنِ أُمِّ كُلْثُومٍ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَمْ يُقَارِفْ أَهْلَهُ اللَّيْلَةَ فَلْيَدْخُلْ قَبْرَهَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يُقَارِفْ بِالْقَافِ وَالرَّاءِ وَالْفَاءِ مِنَ الْمُقَارَفَةِ عَلَى صِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ، وَأَنَّ الْمَفْعُولَ هُنَا مَحْذُوفٌ وَهُوَ الذَّنْبُ أَوِ امْرَأُتُهُ، وَأَهْلُهُ، وَقَدْ زَادَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ فُلَيْحٍ أُرَاهُ يَعْنِي الذَّنْبَ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، وَوَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ وَحَكَى عَنِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يُقَارِفْ تَصْحِيفٌ، وَالصَّوَابُ لَمْ يُقَاوِلْ أَيْ: لَمْ يُنَازِعْ غَيْرَهُ فِي الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْكَلَامَ بَعْدَ الْعِشَاءِ كَذَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ (قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا) أَيِ: الَّذِي لَمْ يُجَامِعِ امْرَأَتَهُ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَا الَّذِي لَمْ يُذْنِبْ ذَنْبًا، وَلَوْ مُقَيَّدًا بِاللَّيْلَةِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْكَبِيرَةُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ جَزَمَ ابْنُ حَزْمٍ بِأَنَّ مِعْنَاهُ لَمْ يُجَامِعْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَبَجَّحَ أَبُو طَلْحَةَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَمْ يُذْنِبْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، قَالَ مِيرَكُ وَيُقَوِّيِهِ أَنَّ رِوَايَةَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ لَا يَدْخُلُ الْقَبْرَ أَحَدٌ قَارَفَ أَهْلَهُ الْبَارِحَةَ فَتَنَحَّى عُثْمَانُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الْأَوْسَطِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (قَالَ) وَفِي نُسْخَةٍ فَقَالَ: (انْزِلْ فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا) وَأَبُو طَلْحَةَ هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ الْخَزْرَجِيُّ غَلَبَتْ عَلَيْهِ كُنْيَتُهُ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ، وَقَتَلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ عِشْرِينَ رَجُلًا، وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ، وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ لِوَلِيِّ امْرَأَةٍ مَاتَتْ أَنْ يَأْمُرَ أَجْنَبِيًّا بِأَنْ يَنْزِلَ فِي قَبْرِهَا، وَفِيهِ إِدْخَالُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ قَبْرَهَا لِكَوْنِهِمْ أَقْوَى عَلَى ذَلِكَ مِنَ النِّسَاءِ، وَالتَّوَسُّلِ بِالصَّالِحِينَ فِي أَمْثَالِهِ.
فَإِنْ قِيلَ مَا الْحِكْمَةُ فِيهِ إِذَا فَسَّرَ الْمُقَارَفَةَ بِالْمُجَامَعَةِ قُلْتُ لَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ، وَأَنْ يَكُونَ النَّازِلُ فِيهِ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِمُخَالَطَةِ النِّسَاءِ لِتَكُونَ نَفْسُهُ مُطَمْئِنَةً سَاكِنَةً كَالنَّاسِيَةِ لِلشَّهْوَةِ وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بَاشَرَ جَارِيَةً، فَعَلِمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعْجِبْهُ حَيْثُ شُغِلَ عَنِ الْمَرِيضَةِ الْمُحْتَضِرَةِ بِهَا، فَأَرَادَ أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ فِي قَبْرِهَا مُعَاتَبَةً عَلَيْهِ، فَكَنَّى بِهِ أَوْ حِكْمَةٌ أُخْرَى اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا، وَقَالَ صَاحِبُ الِاسْتِيعَابِ: فِي تَرْجَمَةِ أُمِّ كُلْثُومٍ اسْتَأْذَنَ أَبُو طَلْحَةَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْزِلَ فِي قَبْرِهَا، فَأَذِنَ لَهُ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّهَا بِنْتٌ لَهُ صَغِيرَةٌ غَيْرُ رُقَيَّةَ، وَأُمِّ كُلْثُومٍ فَيَزُولُ الْإِشْكَالُ مِنْ نُزُولِ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ وَالزَّوْجِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَةٌ طِفْلَةٌ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَبَقَ وَقِيلَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ لِيُقْبِرَهَا بَلْ لِيُعِينَ غَيْرَهُ، وَفِيهِ أَنَّ الَّذِينَ أَعَانَهُمْ لَيْسُوا مِنْ مَحَارِمِهَا، فَالْإِشْكَالُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ رَوَاهَا الْبُخَارِيُّ أَيْضًا وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الَّذِي نَزَلَ قَبْرَهَا عَلِيٌّ، وَالْفَضْلُ وَأُسَامَةُ؛ فَإِنْ صَحَّتْ، فَلَا مَانِعَ مِنْ نُزُولِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَخْرَجَ الدُّولَابِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عُزِّيَ بِرُقَيَّةَ بِنْتِهِ امْرَأَةِ عُثْمَانَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ دَفْنُ الْبَنَاتِ مِنَ الْمَكْرُمَاتِ ثُمَّ زَوَّجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُثْمَانَ أُمَّ كُلْثُومٍ، وَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مِائَةَ بِنْتٍ يَمُتْنَ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ زَوَّجْتُكَ أُخْرَى هَذَا جِبْرِيلُ أَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُنِي أَنْ أُزَوِّجَكَهَا رَوَاهُ الْفَضَائِلِيُّ، وَبَقِيَ مِنْ بَنَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبُ، وَهِيَ أَكْبَرُهُنَّ بِلَا خِلَافٍ مَاتَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ تَحْتَ ابْنِ خَالَتِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فَاطِمَةُ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ أَفْضَلُ بَنَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ كَانَتْ فَاطِمَةُ أَحَبَّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَقِبٌ إِلَّا مِنْهَا مِنْ جِهَةِ الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَقِبَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ انْتَشَرَ مِنْ عَلِيٍّ، وَأُخْتِهِ أُمِّ كُلْثُومٍ ابْنَيْ زَيْنَبَ بِنْتِ الزَّهْرَاءِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ لَهُمْ شَرَفًا لَكِنَّهُ دُونَ شَرَفِ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْحَسَنِ، وَالْحُسَيْنِ، وَأَمَّا أَوْلَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذُّكُورُ فَفِي عِدَّتِهِمْ خِلَافٌ طَوِيلٌ، وَالْمُتَحَصَّلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْوَالِ ثَمَانِيَةُ ذُكُورٍ اثْنَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا الْقَاسِمُ، وَإِبْرَاهِيمُ وَسِتَّةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ مَنَافٍ وَالطَّيِّبُ وَالْمُطَيَّبُ وَالطَّاهِرُ وَالْمُطَهَّرُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الذُّكُورَ ثَلَاثَةٌ، وَكُلُّهُمْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا مِنْ خَدِيجَةَ إِلَّا إِبْرَاهِيمَ فَمِنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ الْقِبْطِيُّ صَاحِبُ مِصْرَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَوَلَدَتْ لَهُ إِبْرَاهِيمَ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ ثَمَانٍ وَمَاتَ، وَلَهُ سَبْعُونَ يَوْمًا عَلَى خِلَافٍ فِيهِ وَوَرَدَ مِنْ طَرِيقِ ثَلَاثَةٍ عَنْ ثَلَاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لَوْ عَاشَ إِبْرَاهِيمُ لَكَانَ نَبِيًّا، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الْقَضِيَّةَ الشَّرْطِيَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ، وَلَا يُظَنُّ بِالصَّحَابَةِ الْهُجُومُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الظَّنِّ، وَأَمَّا إِنْكَارُ النَّوَوِيُّ كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ لِذَلِكَ، فَلِعَدَمِ ظُهُورِ التَّأْوِيلِ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ.