فصل: تقديم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية


بسم الله الرحمن الرحيم

.بين يدي الكتاب:

بقلم القاضي/ جمال قاسم المصباحي
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا رسول ولا نبي بعده وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فإن كتاب الشورى في الشريعة الإسلامية بدراسته المقارنة للديمقراطية والنظم القانونية، مما يثلج الصدر بعموم فكرته وخصوصيات درسه وملامح طرحه وسلاسة وبساطة عرضه، مع ما اشتمل من وفرة المطالعة وتأصيل الرأي وتنوع التصور عند أهل العلم والرؤى العلمية والشرعية والفكرية والقانونية، فهو بحق قد مدنا بالاغتراف من معين الأصالة الإسلامية وبالمصاحبة للحس والمعروف الطيب من مكارم الأخلاق الإنسانية ونتاج حضارة المجتمع الإنساني الغير معارض لمبادئ الشريعة، ولا غرو على مثل أخينا الأكبر فضيلة العلامة حسين بن محمد المهدي لمثل هذا التصدي العلمي الذي أجاد فيه وأفاد، وأتى بحظ طيب من الشيء الكثير والمواصل لجهود العلماء والفضلاء في مضمار كلمة التنوير والكلمة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، وذلك لاستمرارية التجديد في الخطاب الإسلامي والفكر الإصلاحي في جنبات الأمة، والذي يجعلني أحسب أن هذا الكتاب يبدوا واحداً من مسددات ومكملات المستلزمات والمراجع المكتبية الإسلامية عصراً ومستقبلاً، وليس بنائي من القول أن أذكر بصاحب الكتاب أنه من بقية امتداد مدرسة الدرس والتحقيق الفقهي والنظري في ساحة الفكر باليمن، وكذلك هو من المخضرمين في الاطلاع والمجالسة والمطالعة والمطارحة العلمية في عصر هذا الجيل الأكاديمي لما بعد الثورة اليمنية المباركة، ولهذا فهو يمثل حلقة وصل بين الجيلين بالفعل، ولا أبالغ إذا قلت وأنا في طرب وسرور عند استطلاعي في طيات الكتاب لأقول ما قاله شعراً ومبالغةً أحد شعراء القرن التاسع الهجري وهو يشاهد ختم كتاب فتح الباري للحافظ العلامة ابن حجر العسقلاني، فقال:
هذا المنار الذي للعلم منتصبٌ ** الله أكبر كل الفضل في العربِ

ثم أقول في الختام حسبي وحسب المطالع والمستفيد من الكتاب ما يلمس من إخلاص الجهد والعمل وبذل النصح مع الخاص والعام باتساع عارضه وواسطه ضليعة من آلة اللغة بالتدبر لعلم الكتاب العزيز والسنة المطهرة وتصور وتوجهات أئمة الدين وأهل الفضل بما يجسد التفكر أنه محاولة للسير مع الآية الكريمة: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُم اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}، صدق الله العظيم.

.تقديم:

د. عبدالعزيز المقالح
في عصر التشكيك في البديهيات، عصر خلخلة القيم والمعتقدات الراسخة، لا مناص من البحث عن مداخل علمية موضوعية للخروج من الدوامة وإقامة الجسور الوثيقة بين القيم الجوهرية الربانية وما لا يتعارض معها أو يتصادم بها من انجازات الحاضر الإنساني. وهذا ما تصدَى للقيام به عدد من العلماء والمفكرين الإسلاميين منذ بداية العصر الحديث وحتى اليوم. ولقد كان لجهودهم العظيمة أكبر الأثر في فتح أبواب الاجتهاد وتقنين أحكام الشريعة على ضوء المستجدات الضاغطة من ناحية، ولضرورة تطوير مؤسسات النظام السياسي الراهن من فاجعة قادمة، وليس الكتاب النفيس الذي بين أيدينا سوى واحد من هذه الجهود الفكرية والاجتهادات العلمية الهادفة إلى البحث بموضوعية عن المميزات الأساسية لنظام الشورى الإسلامي.
ومن عنوان الكتاب يتبين مضمونه: (الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية)، وهو لصاحب الفضيلة القاضي العلامة حسين بن محمد المهدي، الذي أثرى المكتبة القضائية بكتبه وبأبحاثه وأرائه العلمية السديدة.
وأعترف أنني أفدت من هذا الكتاب كثيراً وتجلت لي بوضوح قدرة عالمنا الجليل على أن يضعنا في إطار رؤية فكرية جادة تضاف إلى عدد من الرؤى التي تقف بإجلال إزاء ما استطاع العطاء الإسلامي الحضاري الإنساني أن يقدمه في النظر السياسي ليس إلى إصلاح أحوال المسلمين فحسب؛ بل وإلى إصلاح أحوال من يشاركهم الحياة على هذا الكوكب الأرضي من المخالفين لهم في الرأي وفي الاعتقاد.
لقد كانت الإنسانية- في الشرق القديم والغرب القديم- قبل ظهور الإسلام تخضع على السواء لأنظمة قاهرة ومدمرة لروح الإنسان وأسلوب حياته، ولا تزال كثير من الشعوب- حتى اليوم- تخضع لأنظمة لا تقل قهراً وطغياناً رغم الشعارات واليافطات البراقة وما تحمله من مضامين خاوية على عروشها، في حين كان الإسلام- وهو عقيدة وشريعة- قد نجح بوسطيته وعمق رؤيته في وضع جوهر ما تبحث عنه البشرية من تحقيق للعدل والحرية والكرامة، والخلاص من الاستبداد والقهر السياسي من خلال نظام الشورى الذي يضمن حق كل مواطن في أن يكون له رأيه في من يحكمه أو يتولى أمره {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، والآية واضحة جلية المعنى، لا تحتاج إلى تفسيرات فضفاضة أو ضيقة، وهي تخص كل مسلم دون استثناء، وتجعل حق الشورى للجميع دون استثناء أيضاً، ونظامها يختلف عن النظم السياسية السائدة في بعض الشعوب التي توصف بالديمقراطية.
إن استلهام الحل الجوهري الكامن في الآية الكريمة: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} تحدد باختصار وبلا تفاصيل مملة الصورة المثلى لنظام الحكم. وإذا كانت الشورى بهذا المفهوم العام الشامل قد عانت من الإهمال في عصور، وتم تعسف مفهومها في عصور أخرى، فإن المجتمعات الإسلامية الجديدة بعد أن اصطدمت بالنظم السياسية المعاصرة قادرة على أن تستخلص ما يحقق لها أقصى معاني العدل والحرية دون أن تتجنب الإفادة من الإيجابيات المتوفرة في النظام السياسي الحديث أو أن تقع في سلبياته التي جعلت العالم كله يتحدث عما يفعله أكثر من أربعين مليون أمريكي أسود في بلد الديمقراطية الأول غير أن يتفرجوا على صراع المؤسسات المالية النافذة وهي لعلها تتاجر بأصواتهم وبأصوات غيرهم دون أن يكون لهم رأي أو موقف.
لقد انشغل السياسيون في العالم الإسلامي على مدى قرن ويزيد في الحديث عن المفهومات المتعارضة بين مصطلحي الشورى والديمقراطية، وسال حبر كثير، وتم استهلاك ما لا يحصى من الورق للتعبير المكرور والممل عن ذلك التعارض، وغاب عن الجميع الاسترشاد بما وصل إليه علماؤنا المجتهدون المستنيرون وما وضعوه من حلول مستخلصة من جوهر المعاني لا من ظاهرها، ومن الغاية المؤدية إلى سعادة البشر وسلامة نهجهم الواقعي الحقيقي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين نظام الحكم ومؤسساته والمجتمع الذي يعطيه ولاءه ويعترف بمشروعيته.
وهذا البحث الشامل الكامل (الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة) شاهد على ما بذله العلماء من جهود مخلصة في هذا السبيل لم توضع موضع التنفيذ ولم تجد طريقها إلى أصحاب الحل والعقد الذين وضعتهم الظروف العالمية الراهنة خارج القدرة على الحل والعقد والإفادة من كل ما توصل إليه المتخصصون من علماء الفقه الإسلامي وعلماء الفقه الدستوري، وهم والحمد لله على درجة عالية من الإخلاص والدراية، ومعرفة ما يصلح للأمة وما لا يصلح لها في حاضرها المضطرب والمصحوب بركام هائل من الحيرة.
أخيراً، ليسمح لي القارئ بأن أتقدم بخالص التقدير والامتنان لصاحب الفضيلة القاضي العلامة حسين بن محمد المهدي، على حسن ظنه بي ومنحي فرصة السبق في الإطلاع على مؤلفه النفيس وتصديره بهذه الكلمات المتواضعة. سائلاً من المولى العزيز أن تكون أعمالنا كلها خالصةً لوجه الكريم. والله ولي التوفيق.
كلية الآداب- جامعة صنعاء
7/ 4/2007م

.تمهيد:

الحمد لله المتفرد بالقدرة والكمال، وصلى الله وسلم على من ابتعثه الله بالحكمة ونعته بالرحمة وهي من أشرف الخلال، فقال جل شأنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وعلى آله وأصحابه والتابعين. وبعد:
فإن للشورى أهمية كبيرة في حياة الأمم والشعوب، وإن أي نظام أو تنظيم ينشد الخير والفلاح ويبحث عن العدالة والمساواة ويتوق إلى العزة والكرامة، ويحب أن يسود الأمن والاستقرار والرخاء، ويرغب في منع الظلم والتسلط والاستبداد، لا بد أن تكون الشورى سمته ومنهجه، لأن بالشورى تكتشف الحقائق وينجلي العمى ويستنبط الصواب ويصح الرأي وتتضافر الجهود وتتوزع المسئولية وتقوى شوكة الأمة، ما ذلك إلا لأنه بالشورى تنبعث عوامل الألفة والمودة والمحبة والتعاون والتناصح، وتتشابك الأيدي لحل المعضلات، وبالشورى يصل الإنسان إلى ما يصبو إليه من عزة وفلاح وسعادة ونجاح في أمور الدنيا والآخرة.
وبالشورى تبنى المجتمعات الفاضلة والدول القوية، وبالشورى يحصل النصر وتستمال القلوب، ويتعاون أهل الشورى من أجل بناء الأوطان وعمارة الأرض وإرضاء الرب.
والشورى هي من أهم خصائص الأمة الإسلامية والشرائع الربانية، فهي من صفات المؤمنين الموحدين الذين استجابوا لله رب العالمين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهم يُنْفِقُونَ} ولأهمية الشورى جاء ذكرها في هذه الآية بين الصلاة والزكاة، فقد وصف الله المؤمنين بأنهم الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأدوا الزكاة وكان منهج الشورى هو منهجهم. وقد قال بعض الباحثين إن سياق النص قد نبه عليه بعض المؤصلين والبلاغيين من حيث أن لفظ وجملة {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} جاءت متوسطة بين الصلاة والزكاة لتدل بتنبيه عبارة النص وإشارته على ضرورة مداومتها بما يشبه الصلاة والزكاة، وعموم خطاب الآية الكريمة هو من الوجوب الشمولي في الأمة. فمفهوم الأمر جاء بطبيعة الخبر والمدح وهو أعظم من الأمر الصريح عند البيانيين من علماء اللغة الذين قرروا أن طرق الأمر الحتمي في اللغة تصل إلى ثمانية وعشرين وجهاً.
ويتبين أيضاً من هذه الآية الكريمة أن الإسلام ليس حصراً على الصلاة والزكاة وإن كانا من أركانه، لأن من استجاب لله وجب عليه أن يتخذ الشورى منهجاً، فكما لا يجوز له إهمال الصلاة وتركها فإنه لا يجوز له إهمال الشورى وتركها، وبهذا يتضح أن الإسلام دين اجتماعي سمح، ليس فيه سلطة قاهرة تكبت الحريات وتمنع حق إبداء الرأي، وإنما هو دين يدعو إلى الشورى والنظر المشترك في الأمور الهامة وفي كل ما ينصلح به أحوال الإنسانية أفراداً وجماعات، وفي كل أمر تحصل به العزة للمسلمين والسعادة للموحدين، فالشورى قاعدة من قواعد الشريعة وخُلق من أخلاق المؤمنين، ونظام الشورى هو أفضل نظام يمنع من التسلط والاستبداد ويبعث على المحبة والتواد، ولهذا امتدح الله المؤمنين الذين جعلوا المشورة قانوناً لهم في أعمالهم كما هو صريح آية الشورى سالفة البيان، وفي الحديث: «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم».
ولما للشورى من أهمية كبيرة في حياة الأمة فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة المؤمنين، وهو الذي يمتاز بكماله الروحي لاتصاله بالوحي الرباني، ومع ذلك فإن الله خاطبه بقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمرِ}. فإذا كانت الشورى في حقه صلى الله عليه وآله وسلم واجبة، فهي من باب أولى واجبة في حق غيره، فالله عليم حكيم بما يصلح أحوال الناس، وقد علم أن شواغل الحياة وأمور التعامل بين الناس واختلاف أحوالهم وتنوع المعارف، كل ذلك لا يخلو من مشكلة تفرزها طبيعة الحياة التي فطر الله الناس عليها، وحلها ضرورة لا بد منها.
فإن كان ذلك لمصلحة فرد فربما استعصى الحل عليه بمفرده، فكان لا بد من إشراك غيره من أهل الخبرة والاختصاص في حلها وأن يشاركه في الرأي ليكون الحل قد جاء على الوجه المطلوب وتعرف على صوابه، وإن كان الأمر متعلقاً بمصلحة عامة، وجب أن لا تحل بالاستبداد في الرأي حتى لا تتعرض المصلحة العامة لأي خطأٍ ولا تضيع حقوق ومصالح الأمة، وكان من الضرورة أن يصار في ذلك إلى مشاركة ذوي العقول الراجحة من ذوي الخبرة والاختصاص ليتناولوها ببصيرة ويجال الرأي فيها عن علم ودراية، لتكون النتيجة سليمة وصائبة، ولذلك ندب الشارع إلى الشورى في تدبير الأمور وتوخي المصالح، لتكون إلى الصواب أقرب وعن الزلل أبعد، ويكون النجاح مضموناً في الغالب الأعم في تحقيق مصالح الأمة، وفي ذلك ما يكفي للتدليل على أهمية الشورى، مما يدعو إلى الأخذ بها ليكون الإنسان قد استجاب لله وأمن الوقوع في المهالك، وقد جاء في العقد الفريد:
الرأي كالليل مسوداً جوانبه ** والليل لا ينجلي إلا بإصباح

فاضمم مصابيح أراء الرجال إلى ** مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح

فالشورى في حقيقة الأمر تعني توزيع المسئولية حتى لا تقع على كاهل فرد واحد، فالجميع يتقاسمون المسئولية، فلا يتلاوم الناس فيما بينهم ويتنافرون ويتشاجرون، ولا يرمي أحد بالنتيجة على الآخر، وإن كانت النتيجة سيئة، والشورى تعتبر مع ذلك خير وسيلة تدرب المستشار على المساهمة في الحكم والإدارة وتشركه فيه، وبها الوصول للرأي المحمود الذي ينصلح به حال الأمة وتحل به مشاكلها. وقد جاء في العقد الفريد أن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ذكر في المشورة سبع خصال: استنباط الصواب، واكتساب الرأي، والتحصن من السقطة، والتحرز من الملامة، والنجاة من الندامة، وإلفة القلوب، واتباع الأثر. وجاء في جواهر الأدب أن بيهس الكلبي قال:
عقل الفتى ليس يغني عن مشاورةٍ ** كحدة السيف لا تغني عن البطل

إن المشاور إما صائبٌ غرضاً ** أو مخطئٌ غير منسوبٍ إلى الخطل

وقد أثر عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: لا خير في أمر أبرم من غير مشورة. ولهذا يقال: الخطأ مع المشورة أصلح من الصواب مع الانفراد والاستبداد.
وقد نقل صاحب العقد الفريد- في الشورى- أقوالاً مشهورة، وحكماً مأثورة نلخصها فيما يأتي:
1- لا معين أقوى من المشورة ولا عون أنفع من العقل. فالمشورة تقوي العزم وتمنح النجاح وتوضح الحق وتبسط العذر وتزحزح عن مواقف الندامة، والعقل يهدي صاحبه إلى الأخذ بثمرة المشورة.
2- من استشار ذوي الرأي والمعرفة في فعل ما عناه فقبل المشورة منهم واقتدى بآرائهم فيها ولم يعدل عنها وعن قويم نهجها قل أن يخفق مسعاه ويفوت مطلوبه، فإن أعجزه القدر فهو معذور غير ملوم.
3- من ترك المشورة وعدل عنها، فلم يظفر بحاجته صار هدفاً لسهام الملام ومضغة في أفواه العاذلين.
4- من فضل المشورة أنها تكشف لك طباع الرجال. فمتى طلبت اختبار رجل فشاوره في أمرٍ من الأمور يظهر لك من رأيه وفكره وعدله وجوره وخيره وشره مكانته.
5- من أكثر الاستشارة لم يعدم عند الإصابة مادحاً وعند الخطأ عاذراً قال الراغب الأصفهاني: قيل: إن الأحمق من قطعه العُجب عن الاستشارة، والاستبداد عن الاستخارة، فالرأي الواحد كالسجيل، والرأيان كالخيطين، والثلاثة إصرار لا ينقض.
وصحيح ما ذهب إليه الراغب، فإن رأيين خير من واحد، وقديماً قيل: ورأيان خير من واحد، ورأي الثلاثة لا ينقض، ولذا يقال: من أُعِجبَ برأيه ضل، ونقل القرطبي عن الحسن البصري والضحاك أنهما قالا: ما أمر الله نبيه بالمشاورة لحاجة منه إلى رأيهم، وإنما أراد أن يعلمهم ما في المشاورة من الفضل، ولتقتدي به أمته بعده، ولقد أحسن القائل:
شاور صديقك في الخفي المشكل ** واقبل نصيحة ناصح متفضل

فالله قد أوصى بذاك نبيه ** في قوله (شاورهم) و (توكل)

فالشاعر يدعو في هذين البيتين إلى المشاورة وحسن اختيار المستشار، وقد جاء لأحد الشعراء قوله:
وإن باب أمر عليك التوى ** فشاور لبيباً ولا تعصه

وقال القرطبي: الشورى بركة، وروى سهل بن سعد الساعدي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ما شقي قط عبد بمشورة، وما سعد باستغناء رأي»، وفي الحديث: «ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار». قال العجلوني: رواه الطبراني في الصغير، والقضاعي عن أنس، وفي سنده ضعيف، وما أحسن ما قيل:
شاور سواك إذا نابتك نائبة ** يوماً وإن كنت من أهل المشورات

فالعين تلقى كفاحاً من نآى ودنى ** ولا ترى نفسها إلا بمرآت

وقال النجم: روى ابن أبي الدنيا في العقل عن زائدة. قال: إنما نعيش بعقل غيرنا- يعني المشاورة، ولبعضهم: الناس ثلاثة: فواحد كالغذاء لا يستغنى عنه، وواحد كالدواء يحتاج إليه في بعض الأوقات، وواحد كالداء لا يحتاج إليه أبداً.
وللخطيب في تلخيص المتشابه- عن قتادة- قال: الرجال ثلاثة: رجل ونصف رجل ولا شيء، فأما الذي هو رجل: فرجل له عقل ورأي يعمل به وهو يشاور. وأما الذي هو نصف رجل: فرجل له عقل ورأي يعمل به وهو لا يشاور. وأما الذي هو لا شيء: فرجل له عقل وليس له رأي يعمل به وهو لا يشاور. قال النجم: وقلت:
ليس من عاش بعقله ** مثل من عاش بفضله

إنما الفضل ما انضم ** حجى الناس بعقله

وكذا الجاهل من لم ** يرفي الناس كمثله

نفسه يبصرها كا ** ملة من فرط جهله

وصحيح ما ذكره النجم- فإنك إن شاورت مجرباً للأمور، فإنه يعطيك من رأيه ما يقع عليه غالياً وأنت تأخذه مجاناً، فيكون من الحمق ترك المشاورة.
أما الدكتور محمد عبدالقادر أبو فارس- فيقول عن الشورى أنها مدرسة تربوية للأمة تظهر من خلالها شخصيتها وتحقق ذاتها وهي سبب من أسباب النصر على أعدائها، حقق المسلمون بها انتصاراتهم على أعدائهم وأضحوا سادة الأمم بعد أن كانوا رعاة الشاء والغنم.
قلت: وليس ذلك فحسب وإنما حققوا بها العدالة وحصل لهم بها المودة والألفة وقد أحسن بشار بن برد في قوله:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ** برأي لبيب أو نصيحة حازم

ولا تحسب الشورى عليك غضاضة ** فريش الخوافي تابع للقوادم

وقال آخر:
خليلي ليس الرأي في صدر واحد ** أشيرا علي اليوم ما ترياني

وفي الأثر: ما سعد أحد برأيه ولا شقي عن مشورة غيره.
وإذا كانت الشورى من الأهمية بذاك المكان، فإنها ليست قصراً على شئون الحكم والسياسة، وإنما تشمل كل ما لم يرد فيه نص قطعي من الأمور العامة والخاصة وكل ما فيه صلاح للأمة والأسرة. وكل ما فيه رعاية مصلحة أو دفع مفسدة، فقد أرشد القرآن الكريم إلى التشاور في ذلك حتى في فطام الرضيع وفصله عن ثدي أمه، قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ}.
وهكذا نجد الشورى مهمة في بناء الأسرة والمجتمع والدولة.